حصري للمراكشية: بقلم العلامة سيدي محمد الطوگي
من الأحاديث الواردة في موضوعه قوله صلى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز، الله سخر له من في الأرض والسماء. ….. وعنه قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل: القمح والشعير من نوري وجلالي وبهما يتقوى على عبادتي، وجهاد عدوي، وعلى بُعد الأسفار. أكرموا القمح والشعير، فإني أنزلت عليهما بركات السماوات وأخرجت منهما بركات الأرض. قال بعضهم أراد بإكرامهما أن لا يوطئا، ولا يطرحا، ولا يفسدا، ولا تُسند بهما القصعة.
الخبز هو عبارة عن قوت إنساني مصنوع من دقيق القمح الصلب أو الطري أو الشعير، مع إضافة شيء من الماء والملح والخميرة، يعجن ويترك حتى يختمر ثم يعرض على النار إلى أن ينضج. وبصفة عامة فإن تصنيعه يمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وتتمثل في عملية العجن والغاية من ورائها تحويل الدقيق والماء والملح والخميرة إلى عجين ويتنوع العجين وبالتالي الخبز، بحسب نوع الدقيق ونسبة الماء الذي يضاف إليه، وبعد ذلك يقسم إلى أجزاء تتخذ شكل أقراص أو غيرها.
المرحلة الثانية: يترك يختمر وأمارة ذلك انتفاخه وازدياد حجمه.
وآخر عمليات تصنيعه، إدخاله إلى الفرن لينضج ويصبح بعد ذلك خبزا قابلا للاستهلاك.
لقد عرفت الإنسانية الخبز قبل ميلاد المسيح بمئات السنين واعتبرت طيلة تاريخه مادة غذائية استراتيجية سهرت الدول عليه انتاجا وتسويقا وادخارا وتوزيعا ودعما.
فمن مظاهر همومه القديمة ما ورد في القرآن وبالذات في سورة يوسف بدءا من بحث عزيز مصر عمن يفسر له حلمه الذي رأى فيه سبع بقرات سمان يأكلهم سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات إلى أن عثر على السجين القوي الأمين الذي سيشد عضده للخروج بمصر من الأزمات التي تتهددها. وبمجيء الاسلام كان تحضير الخبز قد قطع أشواطا، فساهم في المزيد من تطويره وجودته وأناقته وحرص على تقديمه للمستهلك طيبا نظيفا خاليا من كل ما من شانه أن يضر بالصحة. كما أحاطه بمجموعة من الأخلاقيات والأدبيات وشحن عبر العصور بهالة من الرموز والدلالات فمن الأحاديث الواردة في موضوعه قوله صلى الله عليه وسلم أكرموا الخبز الله سخر له من في الأرض والسماء، وعنه قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل القمح والشعير من نوري وجلالي وبهما يتقوى على عبادتي وجهاد عدوي وعلى بعد الأسفار، أكرموا القمح والشعير فإني أنزلت عليهما بركات السماوات واخرجت منهما بركات الأرض قال بعضهم أراد بإكرامهما أن لا يوطا ولا يطرحا ولا يفسدا ولا تسند بهما القصعة.
وقد سن الفقهاء لصناعة الخبز مجموعة من القواعد والضوابط التي فرضت على الخبازين والفرانين، ضمانا لجودة هذا الطعام الاستراتيجي. ووضع حد لما يمكن أن تتفتق عليه مكائد المفسدين منهم، من ألوان المكر والخديعة التي تطال مختلف مراحل صناعة الخبز تطلعا للربح العاجل بطرق انتهازية مقيتة.
وسنحاول التعرف على تلك القواعد من خلال نص قديم ورد في كتاب “معالم القربة في أحكام من الحسبة” لمحمد بن محمد القرشي (ص 648 – ص (729) يقول: “ينبغي أن يؤمر الفرانون والخبازون برفع سقائف أفرانهم، ويجعل في سقوفها منافس واسعة للدخان ويؤمر بكنس بيت النار في كل تعميرة، وغسل أوعية الماء، وتنظيف أمكنتها وغسل المعاجن وتنظيفها … ولا يعجن العجان بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرفقيه، لأن في ذلك مهانة للطعام، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه أو بدنه، ولا يعجن إلا وعليه وزرة tablier ضيقة الكمين، ويكون ملثما أيضا، لأنه ربما عطس، أو تكلم، فقطر شيء من بصاقه أو مخاطه في العجين، وشد على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق، فيقطر منه شيء، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط منه شيء في العجين.
وإذا عجن في النهار، فليكن بجانبه عامل ماسك بمنديل يطرد عنه الذباب، وأن يعتبر عليهم “المحتسب” ما يغشون به الخبز كل تعميرة لئلا يعلق بالخبز أتربة أو رمادا وبقايا الخبز المحترق، من الكركم والزعفران، وما يجري مجراه، فإنهما يوردان وجه الخبز بحيث يظهر وكانه في غاية النضج بينما يبقى حشوه نيئا عجينا، ويلزمهم الا يخبزوه حتى يختمر، فإن الفطير يثقل في الميزان والمعدة…. وألا يخرجوا الخبز من بيت النار حتى ينضج نضجا جيدا من غير احتراق، والمصلحة أن يجعل على كل حانوت وفرن يبيع الخبز، وظيفة ورسما ونصبا يخبزونه في كل يوم لئلا يختل البلد عند قلة الخبز. ويتفقد المحتسب الأفران في اخر النهار، ولا يُسكن أحدا من صناع الخبز حين المبيت على أكياس العجين، ولا مكان فرش العجين، ويأمرهم بنشرها على حبال بعد نفضها وغسلها في كل وقت… ويأمرهم بإصلاح المداخن، وتنظيف بلاط الفرن بالمكانس في كل ساعة من اللباب المحترق، والرماد، لئلا يلصق في اسفل الخبز منه شيء. وينبغي أن يجعل السمك بمعزل عن الخبز لئلا يسيل من دهنه على الخبز.
فهذا القانون الخاص بصناعة الخبز يرجع إلى القرن الثامن الهجري، وهو ميثاق يضمن للصانع الربح المناسب، ويحمي المستهلك، ويضمن جودة المادة المصنوعة. والملاحظ انه تتبع المادة من بداية تصنيعها إلى استوائها ونضجها وعرضها في السوق بقصد الاستهلاك. وهكذا نجده:
–1– قد اشترط في المادة الأولية وهي الدقيق: السلامة من كافة العيوب كالقدم وتولد الفطريات والمعالجة بما يؤدي إلى الضرر، والا يخلط بمواد ليست من نفس الجنس والنوع، واسوأها المواد التي هي في لون الدقيق.
–2– شروط في مواعين العجين:
نظافة المعاجن، والمنادل، وأواني الماء، وألواح الخبز وأكسية العجين ومكان فرشه.
-3 شروط تتناول العمال وهي البسة خاصة نظيفة
وزرات ضيقة الكمين، وعصابة بيضاء على الرأس، ومذبة لطرد الذباب، ولثام، ونظافة اليدين، وهما الوسيلة الوحيدة للعجن. ويلزمه حلق ما بهما من شعر، وألا يستعين بقدميه أو مرفقيه أو ركبتيه.
4- شروط في الفرن وهندسته
ألا يضر ذخانه بصحة الساكنة، وأن ترفع مذاخنه فوق مستوى دور الحي، وتعهد بيت النار بالنظافة صباحا ومساء، وبعد كل تعميرة لئلا يعلق بالخبز أتربة أو رمادا وبقايا الخبز المحترق.
-5- شروط في الخبز
مراعاة وزنه بالحرص على اختماره، لأن الفطير مثقل للميزان ومضر بالصحة، وألا يخرج من بيت النار إلا بعد نضجه نضجا جيدا، واستبعاد المواد التي تسرع بتورد وجهي الخبز وبقاء الحشو على عجينته، وإبعاد كل ما يؤدي إلى تغيير طعمه، كوضع السمك وما شابه إلى جواره أثناء نضجه، وتزيين وجهه بالأباريز الطيبة، شريطة ألا يقصد بها إخفاء عيب، وستر ما يضر بالصحة.
وبما أن الخبز مادة استراتيجية فقد فرض على كل فرن إعداد حصة معينة منه يوميا، حتى تعطى حاجيات البلد، ويؤمن غذاؤهم – لئلا يختل البلد – كما يقول القرشي.
تلكم نظرة ترجع إلى العصر الوسيط عن قانون صناعة الخبز والميثاق الضمني بين المنتج والمستهلك القائم بالأساس على تلبية الحاجيات شريطة مراعاة قواعد الصحة، أردنا من وراء ذلك تاصيل الترسنة القانونية لصناعة الخبز في زماننا هذا الذي تعددت فيه من جهة مصالح المراقبة واستنبتت في كل جهة المختبرات المجهزة بالآليات والوسائل الدقيقة للكشف عن المكروبات والفروسات وسائر التعفنات المدمرة للصحة ونجد في الجهة الأخرى أرباب هذه الصناعة المتكتلين في هيئات تدافع عن مصالحهم، وتقف في وجه كل ما يؤدي إلى التقليص من وتيرة أرباحهم. بيد أن الطرف الأهم وهو المستهلك، فيظهر أن وعيه لم يرق بعد إلى حد تكوين جمعيات مدنية فاعلة تعزز الدور الهام للدولة، وتسعى إلى المزيد من تفعيل منظومتها القانونية التي ترعى حق المستهلك وتراقب كل ما يدخل في معدة المواطنين.