المراكشية: عبد الله أَونين (أرشيف 2010)
لمراكش خصوصيات تميزها عن أخواتها من المدن الأخرى ذات الباع الحضاري الضارب في القدم والمجد وذيوع الصيت ، ذلك هو السر في الإعجاب الذي تحظى به مراكش الحمراء والمكانة التي تتبوأها في نفوس زوارها الذين لا يفوتون فرصة شد الرحال إليها كلما أتيحت لهم . ومن أهم تلك الخصوصيات التي ظلت مراكش محتفظة بها شأنها في ذلك شأن سائر المدن التي ظلت مشدودة إلى كل ما يحمي تراثها من الاندثار ” أسواقها العتيقة ” .
فزوار مراكش لا ينتشون بحلاوة زياراتهم لها وتجوالهم بين معالمها الأثرية وأحيائها إلا عند قيامهم بجولة عبر تلك الأسواق .وإن كانت هذه الأخيرة قد فقدت كثيرا من نظامها المميز القديم إلا أنها لازالت تستأثر باهتمام الزائرين المغاربة منهم و الأجانب .
وقد فقدت أسواق المدينة العتيقة الكثير مما كان يطبعها ويميزها ومما جعلها محجا لا يمكن لزائر مراكش أن يضيع فرصة التجوال بها ويعمل بالقولة المشهورة ” حتى اللي ما اشرى يتنزه”،وإن كان الخروج منها صفر اليدين من باب ما هو مستبعد، فكل ما يعرض بها يغري بإشباع لذة الشراء خاصة لدى النسوة والأطفال ،وقد تداخلت عوامل كثيرة وكانت وراء هذا التغيير الذي كان وليد طوارئ تجارية وتطورات صناعية أدت إلى الاستغناء عن العديد من الحرف وأنواع من التجارة بعدما عجزت تلك الحرف وتلك التجارة عن مسايرة المنافسة الصناعية الحديثة وتدفق السلع الآتية من بلدان لا زالت تكلفة الإنتاج بها جد متدنية ،تلك البلدان التي وجدت في الأبواب المشرعة دون حسيب ولا رقيب ما أتاح لها غزو السوق المحلية وإنتاج مبيعات مستنسخة من صناعتنا التقليدية ومسيئة لها على مستويي الجودة و المنافسة العالمية، الشيء الذي دفع بعدد من الحرفيين ومن التجار إلى البحث عن مصادر رزق أخرى تمكنهم من مغالبة المنافسة الشرسة التي ابتلوا بها أومن مجاراة روح التغيير التي صارت السمة البارزة للحاضرة المراكشية ، وتمكنهم من توفير قوتهم اليومي .
وهكذا نجد ان العديد من الأسواق وإن ظلت محتفظة بأسمائها التي يسجل لأصحاب الشأن المحلي تعليق لافتات تشير لتلك الأسماء رغم ما يظهر من خلال ما اعترى تلك التسميات من تحريف من جهل كتبتها بها ، فإن ما يمارس بها من تجارة أو حرفة يعد بعيدا عن تلك التسميات التي لا زالت عالقة بأذهان قدماء رواد تلك الأسواق ، ولا يمت لغالبيتها لا من قريب و لا من بعيد بأي صلة، وذلك هو ما يفسر اختلاط التجار بالحرفيين في السوق الواحدة بعدما كانت كل سوق مختصة بنوع من الحرف أو التجارة . وهذا النظام المفتقد يبرز الاهتمام الذي كان يوليه القدامى لأسواقهم ومهنهم و هو اهتمام لا ينحصر في خاصية السوق بل يشمل منتوجاتها ويحفظ حقوق المنتجين بها و الزبناء على حد سواء.
ولأن السعي وراء ترويج المنتوجات وتبني كل أنواع المنافسة طغى بشكل كبير، تمكن من بعض الحرفيين والتجار وذلك حقهم ما دام الوضع التجاري الحالي يفرض عليهم ذلك .فإننا أصبحنا نرى إلى جانب بائع القماش بائع الحلوى او العقاقير أو أصناف من المأكولات الخفيفة التي اجتاحت محلاتها المدينة، وبجانب الحداد والعجلاتي صائغ الفضة والذهب أو بائع التوابل .وقد كانت لهذه الفوضى التي عمت الأسواق، ولافتقاد النظام القديم الذي ظل إلى عهد قريب يميزها، أسباب متجلية في تولي جهات لمهام كانت من اختصاص الأمناء .ودور هؤلاء غير خفي ، فقد كانوا يتولون مهمة تنظيم السوق والحفاظ على خصوصياتها وصيانة الحرف من المتطفلين والدخلاء الذين أصبحوا الآن أرباب الصناعات التقليدية مع أنهم لا يفقهون في حرفها شيئا . كما كان أولئك الأمناء يتولون مهمة الفصل في بعض النزاعات التي كانت تحدث بين الحرفيين والتجار وبين هؤلاء والزبناء . علما بان تدخلهم تحكمه أعراف .
نعم غياب عدم اهتمام الجهات المختصة بتنظيم الأسواق فتح الباب على مصراعيه أمام ما أصبحنا نشهده في أسواقنا من فوضى وتطفل وسوء تنظيم وعشوائية وغزو لصناعات مستنسخة تفتقد الجودة و تجهز على فنيات صناعتنا التقليدية، وتعصف بآمال الصانع التقليدي الذي أصبح يئن تحت وطأة شدة الحاجة . ولم تسلم من هذا الخلط وتلك الفوضى إلا أسواق معدودة على رؤوس الأصابع. في حين نجد أسواقا أخرى لم تعد تتوفر سوى على دكان أو دكانين تزاول بهما الحرفة التي ترتبط بالاسم المخصص لها .
وفي محاولة للتعرف على بعض الأسواق التي اشتهرت بها مراكش تمت خلخلة ذاكرة بعض شيوخ الأسواق للوقوف على بعض الحرف التي انقرضت ولم يعد لها من وجود إلا اسمها، ويفسر ذاك الانقراض بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه بالتطورات التي شهدتها بنية المجالات الصناعية والتجارية بالمدينة من جانبي العرض والطلب وفي التغييرات التي طرأت على وسائل الإنتاج وشيوع الوحدات الصناعية الكبرى التي ضيقت الخناق على الحرفيين والتجار الصغار منهم بالخصوص وقلصت من مجال مصادر أرزاقهم.
عامل ثالث كان وراء ذلك الاندثار الذي تعرضت له العديد من الحرف والذي ساهم في تغيير معالم الأسواق، ويتعلق الأمر بهيمنة التجارة المرتبطة بالسياحة وهو الأمر الذي دفع بكثير من أصحاب رؤوس الأموال إلى تحويل محلات بالأسواق إلى شبه بزارت ولم تسلم من هذا المد التجاري المرتبط بالرواج السياحي حتى الأسواق التي كانت مخصصة للخضروات فقط ، كسوق ميلودة مثلا .