بقلم سعيد بوخليط
يتفق أغلب العارفين، على أن العرب غرقوا في وحل الاستهلاك إلى غير رجعة دون كابح ولا ضابط، فشملهم أساسا الحد الثاني من رافديه أقصد مولداته السلبية وما يترتب عليها من نحر للعقول ونخر للأفئدة واستنزاف للدواخل وتسطيح للرؤى والآفاق.
الاستهلاك، مقبول جدا وحتمي، شريطة أن تحكمه فلسفة عميقة ذات أبعاد وطنية وقومية، في إطار ارتباطه باقتصاد معقلن وإيجابي، يستهدف النهوض بالبلد والناس، أما الاقتصاديات المتورمة بالتهريب والتبييض، المحكومة بالروابط الإقطاعية، فيتحول معها الاستهلاك إلى فوبيا تعكس سيكولوجيا مرضية، ويصب فقط في مصلحة رأسمالية متوحشة وجشعة تكتفي بدور السمسرة بين السوق المحلي والعالمي، وضع يدر عليها أمولا طائلة، لكن يجردها في المقابل من كل الأبعاد الوطنية التي تخول لها فرصة تجذير القيم الوجودية التأسيسية، فهي تتنكر لكل شيء غير الاعتناء بسُمْك جيوبها.
تلتقي جل التحليلات على مجموعة بداهات تميز الواقع والفكر العربيين من الماء إلى الماء كما يقال، يتحتم لاقتلاع قواعدها إحداث ثورات بأبعاد متوازية في كل آن وحين وعلى جميع المستويات، تنطلق من الذات إلى المعطى الموضوعي ثم تعود للذات ثانية : الافتقاد لرأسمالية وطنية. عجز الاقتصاديات العربية، على التخلص من أنماط وعلائق إنتاجية غير مقننة تفتقد للحد الأدنى من شروط التحديث وعلى رأسها الريع الذي تنبت بين أظافره طفيليات لا نهائية تصير مع مرور الوقت نظرا للامتيازات المادية التي راكمتها، وشبكات القمار التي تفرزها إلى حراس يعضون بالنواجد على قلاع التأخر، ما دام بقاءهم مرتهن باستمرار نفس المنظومة السوسيو-فكرية. اندثار، مفهوم متكامل للطبقة الاجتماعية الحاملة للواء رؤية للعالم، سواء كانت عمالية أو بورجواوية صغرى أو متوسطة، فاختلطت كذلك المرجعيات الإيديولوجية الطبقية التي من المفترض أن تكون منسجمة مع وضعها الأصيل، مما أثر على محاور الصراع ومن تم تطور المجتمع.
إن وازع الاستهلاك في سياقنا العربي، يبقى وفيا لبنيات الاختلال المهيمنة على علاقة الذات بالنظرية والتاريخ ثم التعاكس الذي يصعب فهمه، بين استهلاكنا للتقنية والارتدادات المعرفية المتتالية، بمعنى إدمان التقنية لدينا ونحن سوق منفتحة بامتياز، نقبل بنهم على آخر الصيحات، لم يعمل حقيقة على تكريس الممكنات المادية المقوضة لبنيات الجمود. فبقدر ما تراكم سوق التقنية سلعها، نلاحظ بالموازاة انكماش الذكاء العربي وتقلصه، وتشكل قوالب مجتمعية لا تنساق طبيعيا مع أفق التقنية كما أرسيت دعائمه في أوروبا. إذا كان مخطط التقنية سعي متواصل للتقليص من السطوة الميتافيزيقية للزمان والمكان، حيث تحاول الذات الإنسانية التمكن من إطلاقيتهما. أما التطبيق العربي، فإضافة إلى كونه لا يوظف التقنية وفق أوجهها الصحيحة ولما خلقت له أصلا، فسيقلب رأسا على عقب الأسس الإبستمولوجية لمنظومة التقنية وسيضاعف من تبديده العبثي للمكان والزمان. على سبيل المثال، انزاح الهاتف الخلوي أو الحاسوب… عن وظيفتهما البراغماتية ليتحولا على النقيض منها إلى بعثرة عشوائية للغة وتمطيط بلا فائدة للزمان والمكان، وتعضيد لمجتمع بدائي يناصر الثقافة الشفوية والنزوعات التلصصية واقتحام الآخر في حميميته. على المفاهيم، أن تتحول مع خطاب التقنية إلى سيميائيات مكثفة دلاليا تزاوج بين المدلولات الحسية والمعنوية بغية استثمار أقصى ما يمكن الأمر، الإيحاءات والترميزات …
تلكم إذن، بعض الإطارات التي تتفاعل داخلها ميكانيزمات الاستهلاك عند العرب، والتي كما قلت تفتقد لبوصلة العقل والتبرير، نظرا لغياب مخطط تنموي شامل وانعدام بنيات موجهة بإمكانها أن تجعل من الاستهلاك مدخلا جوهريا و قطبا فاعلا في الدورة الاقتصادية كما يحدث مثلا في أمريكا وأوروبا، بحيث يأخذه الناس هناك باعتباره دافعا وطنيا مقدسا قصد الإبقاء على دوران عجلة الاقتصاد وعدم توقفه عن النمو.
أما المسألة الثانية، التي تطرح بحدة على هذا المستوى، فهي المتعلقة بحس البلاهة، جراء العلية الميكانيكية التي انغمس فيها المواطن العربي فأفرغت دواخله حد التفاهة. امتطاؤه ظهر العجل الذهبي للاستهلاك، وبالكيفية التي يعيش تحت وطأته أفقده زخم الذكاء وحيوات الحواس، ويكرس بطريقة أو أخرى مجتمعات الكليانية المستسلمة للتوثين والصنمية، كما يمهد السبل أمام الديكتاتوريات السياسية وييسر لديها أساليب الهيمنة، حيث لا شيء يعلو على الجاهز والقائم. شراهة الاستهلاك، قتل لروح الإبداع والخلق والتأمل والتروي، وكذا قدرة الإنسان على اختلافه مع نفسه وجماعته.
كلنا يعرف المعادلة الشهيرة التي تجعل كيفيات الاستهلاك مقياسا ومدخلا للفصل بين شعوب متخلفة وأخرى عاقلة ومتحضرة، فإذا كان أفراد الأولى يركزون كامل عنايتهم على المظاهر الشكلية وذلك للتعويض النفسي عن ما يشعرون به من حيف وقهر وجوديين، فإن الشعوب الناضجة وبناء على تجليات تماهي العقل مع النظرية، وكلما تقوت ماكينتها الاقتصادية وبالتالي ازدهار سوق الاستهلاك، إلا وتمثلت حقيقة العالم. لقد احتاج عقل الرخاء هذا، وباستمرار إلى ذات تتسامى على مثيرات المعطى وضرورة الحفاظ على قوتها السالبة والنافية. هكذا، توالت دعوات مجموعة من المفكرين الغربيين الرافضة للارتماء الأهوج في دوامة الاستهلاك ودقهم كل آن لناقوس الخطر، وتحديرهم الشديد من السقوط في التشيؤ والآلية automatisme والروبوتيزم …، مدافعين إلى آخر نفس عن احتفاظ الإنسان بملكوته الباطني نقيا مشعا. أما شعوب العالم العربي، فلا تستنكر إلا لغويا وموسميا حين التنديد بمحرقة ما إسرائيلية ـ امريكية في منطقة من العالم ولاسيما العربية، هكذا ستعلو إلى عنان السماء صيحات مقاطعة البضائع الأجنبية ما دام الاستمرار في اللهاث خلفها يؤدي بالضرورة إلى تسمين الشركات المتعددة الجنسيات التي نُضرب بأسلحتها، لكن سرعان ما تنطفئ الجمرة وتعود الأمور إلى سابق عهدها. فالأمر يقتضي تربية يومية وتحصينا إيديولوجيا صلبا بغية تشكيل مواقف ثابتة.
تحضرني بهذه المناسبة ذكرى صديق ألماني، قدم إلى مراكش منذ سنوات بهدف تجميع بيبليوغرافيا حول المسرح المغربي، لأنه ينوي تهيئ أطروحة دكتوراه في الموضوع، وفي آخر يوم من إقامته اقترح علي القيام بجولة استجمامية كي يكشف فضاءات المدينة، وعندما مررنا أمام مطعم “ماكدونالد” وقد امتلأ عن آخره، التفت نحوي باستغراب يشد محياه مقارنا هذا المشهد بما يحدث في “برلين” حيث مثل هاته الأمكنة فارغة ومهمشة غالبا، ولا يرتادها إلا بعض المراهقين…، أخبرته بأن الأمر أكثر من ذلك فعدد الرواد عندنا يزداد يوما بعد يوم وأضحى تناول وجبة على طاولاتها، مجالا للتباهي والتفاخر… أجابني، لقد فهمت إذن كل شيء. لم ألح عليه في سؤال ماذا فهم ؟ التقت نظراتنا وتبادلنا خواطر صامتة.