بقلم ابراهيم الهلالي
تعتبر مرحلة التأسيس لجامع ابن يوسف [الجامعة] ابتداء من تاريخ إقامة أول ندوة علمية في نفس الجامع، فور تأسيسه من طرف أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وهي الندوة التي ترأسها المهدي بن تومرت في مواجهة فقهاء المرابطين بمراكش، تحت رئاسة الفقيه العلامة، مالك بن وهيب، الذي كان ينوب عن السلطان المرابطي علي بن يوسف وعن فقهاء مراكش.
وهكذا يصطدم محمد المهدي بن تومرت، وهو زعيم الموحديين بفقهاء المرابطين، بواسطة سلطانِهم أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وذلك حسب ما يرويه كثير من المؤرخين، وفي مقدمتهم الأستاذ الكبير أحمد بن خالد الناصري في كتابه القيم الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، فقد جاء في الجزء الثالث من هذا الكتاب صفحة 18 ما ملخصه:
” ثم لحق محمد المهدي بن تومرت بمراكش، وأقام بها، ثم لقي بِها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بالمسجد الجامع (جامع ابن يوسف) عند صلاة الجمعة، فوعظه وأغلظ له في القول..
ففاوض أمير المسلمين الفقهاء في شأن ابن تومرت الذي كان ينكر عليهم جمودهم على مذهب السلف،( أي مذهب الإمام مالك).فأغرى فقهاء مراكش السلطان علي بن يوسف بابن تومرت، فأحضره الأمير للمناظرة معهم، فكان له الظهور عليهم”.
ومن الجدير بالذكر أن جامع ابن يوسف الذي عرف أولى حلقاته الدارسية في عهد المرابطين، قد أصبح في عهد الوحدين ينافس كثيرا من المساجد العلمية والجامعية في الشرق العربي، كجامع الأزهر بالقاهرة على سبيل المثال، فقد اكتظت ساحاته وردهاته الفسيحة بحلقات الدروس، التي كان يجلس فيها علماء كبار، وأساتذة عظام ومربون، ومدرسون ذوو عبقرية نادرة في مختلف مواد العلوم، وخصوصا منها تفسير القرآن الكريم، والفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام أبي حنيفة في عهد الموحدين، الذين لم يكونوا يكتفون بمذهب الإمام مالك مثل المرابطين، بل كانوا أحيانا يدرسون الفقه الإسلامي على مذهب بعض علماء الشيعة والمعتزلة، خصوصا منهم الفقيه العلامة جار الله الزمخشري صاحب كتاب :الكشاف الذائع الصيت..
وكان علماء مراكش في عهد الموحدين يدرسون في جامع ابن يوسف الحديث، والسيرة النبوية العطرة، والفكر الإسلامي، بما يحتوي من نظريات علماء الكلام من أشهر الأشعرية والمعتزلة، ولكن في غير خصام مع مذهب الإمام مالك الذي كان يسيطر على الأغلبية الساحقة من فقهاء وعلماء جامعة ابن يوسف بمراكش، على الرغم من نظرية الموحدين في مسألة الدعوة إلى فكرة الإمامية والمهدوية التي تبناها محمد المهدي بن تومرت، وتابعه فيها أميرالمؤمنين عبد المؤمن بن علي.
وبالإضافة إلى هذه المواد، فقد كانت جامعة ابن يوسف في عهد الموحدين، تعرف علماء ومدرسين في الطب، والرياضيات، والفلسفة والفكر المعتزلي والشيعي، حسب ما يتمذهب به بعض المدرسين الذين لهم آراء في الطب والحكمة والفلسفة، وعلى رأسهم العلامة أبو الوليد بن رشد، الذي ثَبَتَ أنه كانت له حلقة علمية في جامع ابن يوسف يدرس فيها، على عهد الموحدين أصول الدين، وآراء بعض الفقهاء الذين لهم نظريات خاصة في مسائل الطب، والفلسفة، حيث كانوا يعتبرون المرء مسؤولا عن أعماله خلافا لعلمـاء المذهب المالكي…
كما كانت جامعة ابن يوسف على عهد الموحدين تزخربعلماء نبغوا في الأدب العربي، والتاريخ، والجغرافية على الخصـوص وإذا كان شكل الدراسة في جامع ابن يوسف بمراكش على عهد الموحدين، يتفق مع الشكل والطرق التربوية التي عرفها الجامع على عهد المرابطين، فإن جامعة ابن يوسف وفقهاءها المراكشيين، كانوا في عهد المرابطين مستشارين للدولة، ومرتبطين ارتباطا وثيقا، قضائيا وإداريا برئيس الدولة، كما كان عليه الحال في عهد يوسف بن تالشفين، وفي عهد ابنه علي بن يوسف، منشئ جامع ابن يوسف، وهو خلاف ما ستكون عليه حالة هيئة التدريس على عهد الموحدين، الذين كانوا يراقبون فقهاء، وعلماء المغرب، عموما، والمدرسين بجامعة ابن يوسف على الخصوص، ولا يسمحون لهم بالتدخل في شؤون الدولة، ومع ذلك فقد كانوا يكنون لهم كثيرامن الإجلال والاحترام…
وهكذا، فقد اشتهر جامع ابن يوسف بمراكش على عهد الموحدين، بكونه أصبح مركزا عظيما للثقافة العربية، والفقه الإسلامي؛ كما غدا مركزا علميا لكثير من البحوث، في مختلف العلوم الجديدة، كالطب، والفلسفة، ودراسة المذاهب السنية الأربعة، وتدريس البلاغة، والحكمة، والتاريخ،وعلم أصول الدين، وذلك بسبب مساهمة ملوك الموحدين في تشجيع هجرة علماء الأندلس من مختلف عواصم العلم والأدب، كقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة إلى عاصمة الموحدين مراكش، وكان هؤلاء العلماء والفقهاء الأندلسيون يقومون بالتدريس على عهد الموحدين في جامع ابن يوسف، بالإضافة إلى العلماء والفقهاء المغاربة، الذين توافدوا على جامع ابن يوسف، من مختلف المدن المغربية المشهورة بعطائها العلمي، مثل مدينة سبتة، ومدينة فاس، ومدينة سلا، ومدينة تارودانت على سبيل المثال..
ولعل من أبرز فقهاء مراكش الأولين، الذين جاءوا إلى جامع ابن يوسف في عهد الموحدين، عقب تاسيس الجامعة على عهد المرابطين، هم الرعيل الأول من الفقهاء المغاربة والأندلسيين الذين قدموا إلى القصر الملكي الموحدي، والذين يشكلون النواة الأولى لهيئة التدريس في جامع ابن يوسف، وهم كما يلي بدون ترتيب:
1) محمد المهدي بن تومرت الفقيه العالم الأصولي الموحدي ، والشيعي المذهب.
2) القاضي عياض الفقيه المحدث العالم المالكي السني صاحب كتاب الشفاء، وكتاب المدارك في أربعة أجزاء.
3) الفقيه المراكشي الكبير العلامة أبو موسى الجزولي عيسى بن عبد العزيز المراكشي، الذي تلقى دراسته الأولية في الفقه والنحو، وحفظ القرآن في مدينة مراكش ثم انتقل إلى مصر، لإتمام دراسته العالية في جامع الأزهر بالقاهرة، ثم عاد إلى مسقط رأسه بمدينة مراكش، حيث أصبح يقوم بالخطبة في جامع يعقوب المنصور، وبالتدريس في جامع ابن يوسف.
ويلاحظ أن مؤرخي الأدب العربي على الخصوص، ومؤرخي الفكر الإسلامي، والتاريخ الحضاري للمغرب والأندلس، يتفقون على أن مدينة مراكش عرفت في عصر الموحدين نهضة ثقافية قل نظيرها في العالم العربي، وإن علماء الأندلس الذين هاجروا إلى مراكش أصبحوا يعلمون في المساجد المراكشية عموما، ويدرسون في جامع ابن يوسف على الخصوص، وأصبحت مراكش قبلة علماء المغرب والأندلس، كما أصبحت جامعة ابن يوسف مهدا للعلماء الكبار، والمحدثين العظام، والأطباء، والمهندسين، والفلاسفة، ورجال الفكر والأدب، كأرقى ما تكون جامعة عربية في ذلك العهد، أي في القرن السابع للهجرة، الموازي للقرن الثالث عشر للميلاد.
وفي هذا الصدد، يجمل بي أن أنقل لقراء هذا البحث المتواضع فكرة لأحد كبار العلماء الباحثين في تطور الأدب والفكر في المغرب، وهو الأستاذ الجليل العلامة محمد بن عثمان المراكشي الذي يقول:
” وقد عرفت جامعة ابن يوسف بمراكش ازدهارا ثقافيا وأدبيا كبيرا، في عهد المرابطين، وفي عهد الموحدين، حيث هاجر إليها كثير من فقهاء، وأدباء، وأطباء الأندلس، ودرسوا في أحضانها، وعلى راسهم المفكر الإسلامي الكبير ابن رشد، والطبيب الماهر ابن زهر، الذي عاش في قصور المرابطين والموحدين، واتصل بعلماء مراكش، واعتز بسكانها وأدبائها، وقام بالتدريس في جامع ابن يوسف”.
وإذا كان المرابطون في مراكش قد قضوا تحت قيادة أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين على كثير من الفرق السياسية، والدينية المتطرفة، التي كانت سائدة في مختلف المدن المغربية الكبرى، خصوصا منها الخوارج والمعتزلة الذين كانوا يتواجدون بكثرة في مدينة طنجة، وأقاليم الشمال، وقضوا كذلك على فرق الزندقة في قبائل برغواطة، بمدن الجديدة، وسلا، وآسفي…فإن ملوك الموحدين استطاعوا أن ينشروا عبر مدينة مراكش، آراءهم المؤيدة للمذهب الشيعي، وكان علماء، وفقهاء جامعة ابن يوسف مضطرين أن ينشروها بصفة غير مباشرة، عبر دروس التاريخ الإسلامي، وخصوصا لدى دراسة تاريخ الإمام علي كرم الله وجهه، والحرب التي واجهه بـها معاوية بن أبي سفيان، وما نتج عنها من انقسام الفكر الإسلامي بين سني وشيعي، وخارجي، ومعتزلي في العراق والشام على الخصوص.
وعلى الرغم من كون المذهب الأساسي للموحدين هو المذهب الشيعي المعتدل، وعلى الرغم كذلك من بعض الأفكار المتطرفة التي كان محمد المهدي بن تومرت ينشرها بين جنوده وأنصاره من فرقة السبعين المشهورة، فإن ملوك الموحدين قاموا، بعد وفاة زعيمهم محمد المهدي بن تومرت، بإرجاع الأمور إلى نصابـها، وقرروا التنصل من المذهب الشيعـي، والعودة إلى المذاهب السنية، خصوصا منها مذهب الإمام مالك، الذي كان سائدا في عهد المرابطين، وحاربه محمد المهدي بن تومت أثناء قيامه بمحاضرة فقهاء مراكش في جامع ابن يوسف، منتقدا عليهم تمسكهم بفروع الفقه، وترك أصوله التي هي أساس الدعوة إلى الله ورسوله، والجهاد في سبيله، والقيام بالمعروف والنهي عن المنكر..
وهكذا أصبح جامع ابن يوسف من جديد قبلة لفقهاء الأندلس، الذين ينشرون المذهب المالكي في مختلف مساجد المغرب، ورباطاته، ومؤسساته الثقافية، كما أصبح جامع ابن يوسف مركزا ثقافيا مهما، في نشر العلم، والحضارة والفكر الإسلامي، والأدب المغربي، في جميع مدن المغرب وأقاليمه وقراه، وحتى في آفاق بلاد الأندلس، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ الكبير، العلامة عبد الله كنون، في كتابه النبوغ المغربي ما ملخصه:
” فقد أصبحت مدينة مراكش حاضرة المغرب، وكرسي مملكته في عهد الموحدين،وأضحت مهوى أفئدة المثقفين، ومطمح أنظار المتأدبين..وكانت الأندلس تبذل ثقافتها، ومعارفها للمغرب،فرجالها في خدمة الدولة، وكتابها وشعراؤها وأطباؤها، يزينون بلاط مراكش”
وبتابع الأستاذ الكبير عبد الله كنون تنويهه بمدينة مراكش، وفقهائها، وعلمائها، وأدبائها الكبار، كمايستقرئ كثيرا من أمثلة نبوغهم، وعبقريتهم في جامعتهم المشهورة يومئذ بجامع ابن يوسف فيقول: ” وإن ننس، فلا ننسى جامع ابن يوسف، فهو بمدينة مراكش مثل جامع القرويين بفاس، ومنذ بناه علي بن يوسف بن تاشفين لم يزل المركز الثقافي الثاني للدراسات العلمية والفقهية..والأدبية ببلاد المغرب”
ويلاحظ أن جامع ابن يوسف (الجامعة) قد اشتهر ذكره عبر آفاق المغرب والأندلس، وإفريقية (تونس) والجزائر في عهد الدولة الموحدية على الخصوص، كما يلاحظ أن هجرة العلماء، والفقهاء، والأدباء، والمفكرين، أصبحت متداولة بين المغرب والأندلس، بحيث أضحى المغاربة هم أيضا يهاجرون إلى الأندلس، بقصد تلقي المعرفة والعلم، والأدب، في مدن إشبيلية وقرطبة على الخصوص، ثم يعودون إلىمسقط رؤوسهم ليمارسوا مهنة التدريس في المعاهد المغربية، وعلى الأخص في جامع ابن يوسف الجامعة التي اعتنى بها الموحدون إلى حد كبير، حيث كانت بماثبة مدرسة عليا لتخريج الفقهاء، والسياسيين، والضباط، والأدباء، وخطباء المساجد، والقضاة الذين يحكمون باسم ملوك الموحدين في مختلف المحاكم المغربية، وكان اجتهاد هؤلاء الفقهاء القضاة بمثابة حكم إداري تتبعه الدولة في معاقبة المتمردين على أوامرها..