بقلم الدكتور حسن جلاب
موقع مراكش: اختار المرابطون هذا الموقع لبناء المدينة لأسباب عديدة أهمها: طبيعته شبه الصحراوية، فمن جملة ما وصف به الأشياخ المكان المتفق عليه للأمير قولهم: (قد نظرنا لك موضع صحراء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام، ولا تنبت إلا السدر والحنظل ) (1).
فالغزلان تناسبهم، والسدر يناسب أنعامهم.
وردوا على من اقترح عليهم من سكان أغمات البناء عند نهر تانسيفت (نحن من أهل الصحراء ومواشينا معنا لا يصلح لنا السكن على الوادي …) (2).
وقد لاحظ لامرتينير (LAMERTINIER) أن الدول التي اتخذت مدينة مراكش عاصمة لها ترجع أصولها إلى الصحراء فهي شبيهة في طبيعتها ببلادهم. (3)
و سيكون لهذا المناخ الحار الشبه صحراوي أثر على المدينة وسكانه فمعدل التساقطات لا يتعدى 243 ملمتر، في السنة مع جفاف تام مرة كل ثلاثة ســــــنوات. (4)
أشار صاحب الاستبصار لذلك بقوله (كانت قبل ذلك -أي مراكش- يطير الطائر حولها فيسقط من العطش من العطش و الرمضاء).(5)
والظاهر أن المرابطين لم يفكرو في الجانب الفلاحي والغذائي للسكان لتعودهم حياة الشظف والصحراء، بل اهتموا بالمناخ المناسب أولاً، ثم الموقع الإستراتيجي ثانياً. وقد أدركوا أن (زمام جبل درن بيد أميرها طول زمانها ).(6)
وفي النصوص ما يشير إلى أنهم اعتمدوا في تأمين غذاء سكانها على المنطقة أساساً. فقد قال ابن عذاري:
( فنظروا له ذلك الموضع لكي يكون وادي نفيس جنانها، ودكالة فنائها).(7) مشكلة الماء: ستطرح منذ تجمع جيوش المرابطين في المدينة في انتظار استكمال توحيد البلاد، لأن الإسلام دين نظافة و طهارة. وسيبدأ الأمر في التعقيد مع الشروع في بناء قصر الحجر، والدور الخاصة. وعند ابن أبي زرع أن الناس اتجهوا إلى حفر الآبار للتزود بالماء.(8)
إلا أن الأزمة قد بلغت حدها عندما ارتفع عدد السكان بعد توحيد المغرب والأندلس وتحول المدينة إلى عاصمة لإمبراطورية عظيمة فسيحة الأرجاء، وعندما عزم علي بن يوسف على بناء المسجد والأسوار فكان لابد من أسلوب آخر غير أسلوب الآبار.
من البئر إلى الخطارة:
فكر المرابطون في جر الماء من وادي وريكة وبدأوا في ذلك فعلاً، (مشروع سينفذه الموحدون).ولعل توقفهم عن ذلك عائد إلى استخراج المهندس الأندلسي عبيد الله بن يونس لنظام الخطارات بمراكش.
وقد تحدث صاحب وصف إفريقيا عن هذا النظام بإعجاب، فقال: ( إن هذا الرجل المذكور … جاء إلى مراكش في صدر بنائها و ليس بها إلا بستان واحد لأبي الفضل مولي أمير المسلمين- المقدم ذكره-فقصد إلى أعلى الأرض مما يلي البستان فاحتقر فيه بئراً مربعة، كبيرة التربيع، ثم احتفر منها ساقية متصلة الحفر على وجه الأرض ومر يحفر بتدريج من أرفع إلى أخفض متدرجا إلى أسفله بميزان حتى وصل الماء إلى البستان وهو منسكب على وجه الأرض يصب فيه، فهو جار مع الأيام لا يفتر…
فاستحسن أمير المسلمين من فعل عبيد الله بن يونس المهندس وأعطاه مالاً و أثوابً وأكرم مثواه مدة بقائه عنده، ثم إن الناس نظروا إلى ذلك، ولم يزالوا يحفرون الأرض ويستخرجون مياهها إلى البساتين والجنات، واتصلت بذلك عمارات مراكش، وحسن قطرها ومنظرها).(9)
وإذا تجاوزنا الخلافات البسيطة حول اسم هذا المهندس (عبيد الله أو عبد الله) وأصله (عربي صحراوي، أو أندلسي…) فإن المؤكد حسب الوثائق التاريخية – أن هذا النظام كان موجودا من قبل في الحجاز وإيران وأرمينيا وتوات وتافيلالت. كان الطوارق يسمونه (افلي) والأمازيغ ( أفري)، ووجدت شبكة من الخطارات في موقع مدينة مدريد.(10)
وكانت الخطارة تطلق في الأندلس على عملية رفع الماء من الوادي بواسطة آلة رافعة أو عجلة أو أرجوحة.
لابد من توفير شروط لشق الخطارة:(11)
1- وجود شبكة مياه غير عميقة.
2- عدم وجود منحدر كبير.
3- أن تكون التربة من النوع القابل لتسرب المياه.
وتكون الخطارات القريبة من الأنهار أقصر، وأقل عمقاً. ومع الابتعاد عنها -أي الأنهار- تزيد الخطارة طولا و عمقاً.
ويتراوح طول الخطارة بمراكش بين خمسمائة متر وخمسة كلمترات. وقد تصل آبارها المفتوحة للترميم والصيانة إلى ثلاثمائة بئر، يبعد الواحد عن الآخر بحوالي عشرة إلى عشرين متراً.(12)
يتجمع ماء الخطارات في صهاريج كبيرة لاستغلاله عند الضرورة لأنها دائمة السيلان ليل نهار، ومنها يوزع على الأجنة و العراصي بواسطة المصاريف، وعلى الحمامات والمساجد والدور الخاصة بواسطة “القواديس” الفخارية.
ويلاحظ أن المنطقة الشرقية من المدينة عرفت أكثر من الغربية نظام الآبار والخطارات، ولعل السبب في ذلك عائد إلى توفر ضمانات أكثر للملكية في هذه المنطقة.
وبالرغم من ظهور أساليب أخرى للري والتوزيع بقي للخطارات سحرها وروعتها، فاستمرار الاهتمام بها، حتى إن بول باسكون ((P.Pascon قد أحصى في منطقة الحوز خمسمائة خطارة، عرفت المدينة منها خمس عشرة ومائة خطارة، تتوزع كالتالي:
-98 عمقها أكثر من عشرين متراً.
-17 عمقها أقل من عشرين متراً (13).
و الخطارات ثلاثة أنواع:
1- الكبيرة: أكثر من كلمترين طولاً ، وهي في ملكية الدولة ( أو المعمرين في فترة الحماية).
2- متوسطة: طولها حوالي كلمترين بصبيب بين 10 و 20 لتراً في الثانية. وتكون في ملكية الأحباس العامة لتزويد المساجد والحمامات والدور بالماء أو في ملكية بعض أغنياء المدينة لسقي حقولهم وعراصيهم و رياضاتهم.
3- الصغيرة: وطولها حوالي خمسمائة متر بصبيب لا يتعدى خمسة لترات في الثانية وهي في ملكية الخواص أو الأحباس الخاصة.(14)
و تذكر المصادر 18 عيناً من العيون الكبرى التي تزود خطارات مراكش بالماء، تضاف إليها مئات العيون الصغرى التي تشير إليها الظهائر وحوالات الأحباس الخاصة والعامة والكناشات العلمية وكتب النوازل.
فمن الخطارات التي تملكها الدولة:
أ- تلك التي تروي أكدال، ودار المخزن (إضافة إلى سواقي الموحدين ) وعيونها هي: عين للاشافية، عين الدار، عين البادرة القديمة، عين البادرة الجديدة، عين سيدي موسى و عين الزمزمية.
ب- عين المامونية: تجاور عين المزوضية الداخلة من باب الرب، وهي تسقي عراصي المامون بن محمد بن عبد الله داخل باب الرب.(15)
ج- خطارات أحريللي: أحر يللي من أكبر عراصي مراكش خارج باب دكالة، ومن أكثرها عيوناً، وقد كانت في ملكيات خاصة ثم اشترى المولى عبد الرحمان أغلبها بين سنتي 1266 و1267 هـ، وهي: ( عين دادة، عين هنتانة، عين حميدة مول أتاي، عين بوستة، عين الجبابدي، عين البقال، عين بوشارب، عين الجاوصية، عين البكار، عين فريمة، عين بن بلا، عين حمو بن سالم، عين الصواف).(16)
ولجمال هذه العرصة و كثرة مياهها يذكرها عيط الدقة المراكشية :
آ الشبان را العـام زيــان نمشــو لنــزاهــا ونكيمــــو
فابـــاط سليمـــــان النــــزاهــا وقـــت النــوار
فــــاحريللي واحر يللي سيــدي ربـي نرجـاك يــا العالي
يزيـان حوزنـا ترخـاص كل أمـالي
د- عين أبي عكاز خارج باب الطبول بمراكش: أحياها محمد بن عبد الرحمان العلوي وأقام المزارع حولها، وشيد قلعة يأوي إليها الحراثون بأنعامهم ومواشيهم، واعتنى بتربية الخيول فيها، وكانت تسمى قلعة الماشية. (17)
ومن خطارات الأحباس العامة:
عين المواسين: رأسها بأكدال، وتدخل المدينة من باب الرب، صبيبها 30 لترا في الثانية.
عين البركة: منطلق من شمال تسلطانت، وتمر عبر أكدال لتدخل المدينة من باب أحمر، صبيبها 20 لتر في الثانية.
ج- عين القبة ( المعروفة بالعباسية ): تنطلق من سيدي عمارة و تحاذي السور الغربي للمدينة لتدخل من باب دكالة، صبيبها 10 لترات في الثانية .
وهذه العيون معدة أساساً لتزويد الحمامات والمساجد والسقايات والدور بالماء. ويتم ذلك بواسطة “قواديس” فخارية يتراوح طولها بين 30 و40 سنتمترا،ً وقطرها بين 10 و15 سنتمتراً تتخلل مسيرته مراكز إصلاح وصيانة تسمى “المعبدة “، وذلك لتنظيفها واكتشاف مواقع الخلل فيه، وترتفع عن سطح الأرض بنحو المتر الواحد، وتبقى مغلقة فلا تفتح إلا عند وقوع الخلل، تدخل هذه القواديس إلى الحمامات والدور والمساجد وتملأ صهاريجها في أوقات معلومة من الأسبوع وذلك بحسب أهمية العقار. ويشرف على هذا التوزيع ناظر أحباس المدينة.
د- عيون أقل أهمية تملكها الأحباس منها:
– عين تاصاغت خارج باب الدباغ: للأحباس فيها نوبتان.
– عين بو تودة خارج باب هيلانة: للأحباس فيها نوبتان.
– عين جنان أمرشيش خارج باب دكالة، للأحباس فيها نصف نوبة.
ومن خطارات الأحباس الخاصة: وهي الحباس الخاصة ببعض الزوايا أو الأسر والأضرحة، ولا نريد الإطالة بالحديث عنها وإنما نضرب لذلك أمثلة:
أ- فمن المحبسات الخاصة بأبي العباس السبتي: النصف من خطارة حميدة بن مومن، وأربع نوب من عين الكرنة، ونوبتان من عين أزدو، ونوبة من عين مولاي زيدان، وربع نوبة من عين إيطي خارج باب الخميس. (18)
ب- من محبسات ضريح الجزولي: نصف عين الإفراني خارج باب الدباغ. (19)
ج- من محبسات الزاوية البوعمرية، وهي من أغنى الزوايا بالمدينة، تمتلك:
– عين سيدي عباد: منبعها داخل المدينة بعرصة إيهيري وتنتهي إلى صهريج سيدي عباد خارج باب دكالة.
– نوبتان من عين تدقا خارج باب الخميس….
ولهذه الزاوية غير ذلك من العيون والعراصي، (20).
أما الخطارات الخاصة، فلا يمكن الإلمام بها كلها، لذلك نكتفي بالإشارة إلى أهمها:
أ- عين ابراهيم وابراهيم: تنبع من مقبرة السهلي عبر حي سيد ميمون وتمر بالحارة خارج باب دكالة لتنتهي إلى بلاد أحمد السوسي، وتسقي مجموعة من العراصي الخاصة: أماغوس- عرصة تمجا- عرصة العباسي- عرصة العمري- عرصة سينكو.
ب- وهناك عيون مهمة تخرج من جهة باب الخميس لسقي أراضي خاصة في ضاحية المدينة وهي المرستان -قاوقاو – ابن السالك- تالوجت- أمرشيش. (21)
عيون الخطارات: حل المرابطون مشكل الماء بواسطة الخطارات التي حولت المنطقة من صحراء قاحلة إلى جنة خضراء انتصبت فيها أشجار الغلل بأنواعها، و انتشرت الخضرة والمروج. فتمكنت ضاحية المدينة من إنتاج الحبوب والخضر والفواكه والزيوت ومع ذلك لم يخل هذا الأسلوب من بعض العيوب، أهمها:
أ- أن الخطارات دائمة السيلان ليل نهار وفي كل الفصول لا يمكن التحكم في مائها مما يؤدي إلى سوء الاستعمال والضياع.
ب- أن استغلالها يحتم حفر خزانات وصهاريج لحفظ المياه مما يؤدي إلى ارتفاع نفقاتها
ج- أنها معرضة للتلوث بما يسقط في آثارها العديدة من قاذورات وأوساخ الشيء الذي يتطلب صيانة مستمرة.