للمراكشية: ذ محمد الطوكي – كلية آداب مراكش
لا يكاد يحل رمضان من الرمضانات إلا ويحضر في الذاكرة الجمعية المراكشية اسم المرحوم العلامة الرحالي الفاروق، فقد وشمها بدروسه الدينية الماتعة بموضوعاتها ؛ الجامعة بين الشرعي، والاجتماعي، وما يهم المسلمين بصفة عامة، وأسلوبها المسترسل أحيانا، والمذكر بأساليب أمراء النثر الأندلسي تارة أخرى، دون أن ننسى طريقة إلقائه المتميزة بنبرتها السرغينية البدوية. كانت تلك المحاضرات تغطي الشهر المبارك كله أو معظمه، تبتدئ عادة بالانتهاء من صلاة الصبح وقراءة حزبه، وتختم بارتفاع قرص الشمس بالمقدار المؤذن بصلاة الضحى والشروع في الأعمال وطلب المعاش، إنها دروس حافلة، لم تعد الحمراء تشهد لها نظيرا، يتقاطر ويتسابق إليها جمهور غفير من مختلف أحياء المدينة، وما كان يتخلف عنها ، رحمه الله ، إلا بإلقاء درسه الحسني، ليعود إليها في اليوم الموالي، دروس حسب تدخل أحد المواظبين عليها، من حضور النادي، دامت قرابة ثلاثين سنة، وعلق المتدخل قائلا : لو قدر لتلك الدروس أن تجمع وتفرغ من أشرطة الحريصين على تسجيلها ، وذكر منهم بعض الأسماء، لجاءت في أسفار.
ولا أدري كيف انساقت أدوار الكلام مع أحد المتدخلين إلى ذلك الدرس الحسني الذي ألقاه الرحالي الفاروق بين يدي جلالة الملك المرحوم ، بعفو الله، الحسن الثاني في رمضان سنة 1394هـ . وكان موضوعه تفسير قوله جل ذكره : ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله … ﴾ سورة البقرة الآية 177 .
وأضاف المتدخل قائلا ، إذا كانت دروس الجامع اليوسفي قد غاب منها العين وبقي الصدى والحنين، فإن هذا الدرس الحسني الموثق والمنشور من شواهد مبلغ علم الرجل وهمومه. وقام واستل من رف من رفوف المكتبة الجزء الثالث من الدروس الحسنية لسنة 1394 هـ، وفتحه على ص 124 وقرأ منها الفقرة التالية : ﴿ “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب” قرأ حفص الدوري، وحمزة بن حبيب الزيات الكوفي بالنصب، (ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) والباقي قرأ بالرفع (ليس البرُّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). والاختيار قراءة الرفع ؛ لأن اسم ليس شبيه بالفاعل وخبرها شبيه بالمفعول، والفاعل قبل المفعول.
ولأن عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه قرأ بالباء ” ليس البر بأنْ تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب” ولأن القراء أطبقوا على القراءة بالباء في قوله تعالى : “وليس البر بأنْ تأتوا البيوت من ظهورها ” والاستعمال العربي قاض أن الباء تدخل في خبر ليس ولا تدخل في اسمها، كما أن نافع بن أبي نعيم المدني وعبد الله بن عامر الشامي قرآ بالرفع والتخفيف قوله تعالى : ﴿ولكن البرُّ من آمن بالله واليوم الآخر” والباقون من السبعة قرأوا بالنصب والتشديد (ولكن البرَّ من آمن بالله واليوم الآخر) ﴾ (1).
وقال : فهذه الفقرة من الدرس. بالذات، كانت موضوع نقاش حاد بين العلامة الرحالي الفاروق والفيلسوف المشارك الدكتور عبد الواحد وافي، ولو عثر على ذلك النقاش الدائر بينهما لأغنى مكتبة الدراسات القرآنية.
وانفض المنتدى وانصرف كل منا إلى حال سبيله، منا من اكتفى بمتعة الكلام والتواصل، وكنت ممن أهمه الموضوع وشغله، فقررت الإلمام بأهم قضاياه ؛ محللا نص الفقرة التي وردت في درس العلامة الرحالي الفاروق، ومعقبا عليها بمقتطفات من ردود الدكتور عبد الواحد وافي.
فبخصوص الرحالي الفاروق نص على أن قوله تعالى : ” ليس البر” قرئ بالرفع. والنصب قراءة حفص وحمزة، وبقية القراء قرأوا بالرفع ؛ قال العلامة الرحالي الفاروق : “والاختيار قراءة الرفع” وأضع خطا أحمر تحت كلمة الاختيار ؛ لأن في الاختيار مفاضلة أي ترجيح قراءة على أخرى من القراءات السبع، ومعيار الاختيار لدى الرحالي الفاروق قائم على الرواية من جهة، والدراية من جهة ثانية .
أ – من حيث الرواية مستندها كثرة الرواة، فإن من قرأ بالرفع أكثر ممن قرأ بالنصب.
ب – من حيث الدراية، اعتمد فيها على مقولات من الدرس النحوي .
1 – فاسم ليس، في نظر المحتج ، في حكم الفاعل، وخبرها في حكم المفعول، والفاعل عمدة والمفعول فضلة، والعمدة مقدمة على الفضلة، إذ الرفع من الناحية اللغوية الصرفة يدل على الوجاهة والرفعة فهو تدخل وفعل ، بينما النصب انفعال واستقبال لحدث.
2 – الدليل التركيبي الثاني قراءة ابن مسعود “ليس البر بأن تولوا ….” إذ الباء تدخل على خبر ليس ولا تدخل على اسمها .
3 – من المرجحات الموازية – لدى الرحالي الفاروق – ” ولكن البر” قرأها نافع وعبد الله بن عامر بالرفع والتخفيف، وبقية السبعة بالنصب والتشديد.
هذا فيما يتعلق بالدرس منطلق النقاش.
وفي نفس الأسبوع الذي ألقى فيه الرحالي درسه، نشرت جريدة العلم نقدا مطولا للدكتور عبد الواحد وافي غطى أعمدة قرابة صفحتين ، وخلاصة تدخله : تنطلق من القول بأن لا مفاضلة بين القراءات التي ثبتت بالتواتر.
عجبت من السرعة التي أنجز فيها المقال المطول للدكتور عبد الواحد وافي، والذي جمع فيه بين دقة تحليل كلام المدعي – الرحالي الفاروق – ونقض دعواه نقطة نقطة ودعم ردوده بالاستشهاد على ذلك بنصوص مختارة من مصادر متعددة ، ومحال عليها بالطريقة المتعارف عليها في مجال البحث العلمي، وبخصوص هذه الناحية الشكلية فإن معظم علمائنا لا يعيرونها كبير اهتمام.
بيد أن العجب المستولي علي لم يلبث أن تبدد تدريجيا مع تقدمي في البحث، حيث وقفت على أن الدكتور عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع بالقاهرة، كان عضوا ضمن أول لجنة عامة للإشراف على تنفيذ إخراج أول مشروع للمصحف المرتل والتي شكلت بتاريخ 2 مارس 1960. ومن بين أعضائها الدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ أبـو زهــــرة ، والشيخ محمد خليل الحصري وكيل المقارئ وقتئذ، والشيخ عبد الفتاح القاضي رئيس لجنة مراجعة المصاحف، والشيخ عامر عثمان أستاذ بمعهد القراءات قسم التخصص التابع للأزهر وآخرون، ففي إطار هذه اللجنة العتيدة علميا طرحت ونوقشت عدة قضايا خاصة بالقراءات، ونوقشت مناقشة اختصاص معمق، ومن بينها إشكالية المفاضلة بين القراءات ، وتبعا لذلك فقد سبق للدكتور عبد الواحد وافي أن أهتم بالموضوع، وألم بجوانبه وجمع مواده وشارك في الكتابة فيه، ولهذا فعندما أثيرت تلك القضية في الدرس الحسني، مع العلامة الرحالي الفاروق، لم يجد أي صعوبة في معاودة الكتابة فيه.
وأعتقد لو أن العلامة الرحالي الفاروق اكتفى بالاحتجاج بالرواية لما نشب بينهما خلاف، وأن مظنة الخلاف هو احتجاجه بالاجتهادات النحوية سيرا على نهج الزمخشري وابن جرير الطبري، في حين أخذ الدكتور عبد الواحد وافي بما أخذ به الجمهور وهو السماع. يقول : “ظل القراء يتداولون القراءات ويرونها إلى أن كتبت العلوم ودونت، فكتبت فيما كتب من العلوم، وصارت القراءات كما يقول ابن خلدون صناعة مخصوصة وعلما منفردا تناقله الناس بالشرق والأندلس في جيل بعد جيل، إلى أن ملك شرق الأندلس مجاهد من موالي العامر بين وكان معتنيا بهذا الفن من بين فنون القرآن، أجتهد في تعليمه وعرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته، فكان سهمه بذلك وافرا” (2).
ومن النصوص التي يغلب على الظن احتجاج الدكتور عبد الواحد بها :
– قول الداني في كتابه “جامع البيان” وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر وإن الأصح في النقل ، والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة ؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها (3).
– روى ابن الجزري عن أحد من ترجم لهم من القراء، وهو أبو العباس الطنافسي البغدادي أنه قال : ” من أراد حسن القراءات فعليه بقراءة أبي عمرو ، ومن أراد الأصل فعليه بقراءة ابن كثير، ومن أراد أفصح القراءات فعليه بقراءة عاصم، ومن أراد أغرب القراءات فعليه بقراءة ابن عامر، ومن أراد الأثر فعليه بقراءة حمزة ، ومن أراد أظرف القراءات فعليه بقراءة الكسائي، ومن اراد السنة فعليه بقراءة نافع”.
ويستفاد من هذا القول الخطير أن قراءة أحسن من قراءة ، وأن قراءة هي الاصل وغيرها ليس أصلا ، وأن قراءة أفصح وأخرى فصيحة، وقراءة غريبة وغيرها أقل غرابة أو ليست غريبة ، وقراءة هي الأثر وما عداها ليس أثرا، وقراءة هي أظرف من قراءة، وقراءة هي السنة وغيرها دونها سنية.
وعندنا ، يقول ابن الجزري، أن هذا خطأ غليظ ما كان يحق للطنافسي بحال أن يذهب إليه، فالقراءات لا بد توقيفية وليست اختيارية) (4).
– ويقول ابن المنير في كتابه الانتصاف معلقا على قول الزمخشري، (وهي قراءة حسنة فصيحة)، وهذا يوهم أن القراءات موكولة إلى رأي الفصحاء واجتهاد البلغاء، فتتفاوت في نظره فصاحة لتفاوتهم فيها) (5) وهذا خطأ .
لقد رد العلامة الرحالي الفاروق على الدكتور عبد الواحد، وجاء رد الرد من الدكتور، تمسك الأول بمنطلقه ووجد في النصوص ما يزكيه، وعقب الثاني من منطلقه في الرواية ناقضا حجج خصمه .
وليس هذا بأول درس حسني يناقش ، فقد سن المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني مناقشة الدروس الحسنية التي تلقى بين يدي جلالته، وكان أول درس نوقش بأمره وفي مقامه درس للعلامة الحسن الزهراوي، ناقشه العالمان محمد يسف وحماد الصقلي ، وأخبرتني وسطى بنات العلامة الحسن الزهراوي، الفقيهة الأصولية والفرضية، الثقة، الزاهدة، البعيدة عن الأضواء والتهافت على تسليطها، وأبوح أنها لو علمت ما حليتها به لطلبت التشطيب عليه، ومن ذا يكون أعلم بها مني ؟ ! أخبرتني نقلا عن والدها، أن الوزارة اتصلت به في شأن التأطير القبلي للمناقشة وتنسيق الأسئلة والردود، فاعتذر عن ذلك، ملفتا انتباههم إلى أن صاحب الجلالة أرادها مناظرة فعلية حية وحيوية لا شكلية صورية باردة ، وأضاف، على كل حال، فإن الدرس بين يدي المقترحين للنقاش، ولهم واسع النظر، أن يلغموه بما شاءوا من الأسئلة والاستشكالات. فالدرس الذي ألقى بين يدي جلالة الملك يحاور نصوصا سابقة عليه، وهو مسرور بإغنائه بملاحظات السادة المناقشين، وهو شاكر لجلالته التفضل بإجرائه امتثالا لأمره وبحضرة المقام العالي بالله.
الإحالات :
1 – الرحال الفاروق : تفسير قوله تعالى “ليس البر” سورة البقرة الآية 177 الدرس الحسني لعام 1394، وزارة الأوقاف المغربية ، ج 3 ، ص 124 .
2 – الدكتور لبيب سعيد : الجمع الصوتي الأول للقرآن أوالمصحف المرتل، دار المعارف القاهرة ، ط 2 ، 1978، ص 138 .
3 – نفسه ص : 146.
4 – نفسه ص : 147-148 .
5 – نفسه ، ص 145.