المراكشية : بقلم ذ. ابراهيم الهلالي
ومع ذلك فيمكننا الإشارة العابرة إلى نضال من نوع آخر قامت به جامعة ابن يوسف، وحققته مدينة مراكش في مختلف عصور التاريخ المغربي، فقد قام المراكشيون بنضال كبير في جيش يوسف بن تاشفين البطل الصحراوي المراكشي العظيم، الذي جمع في جيشه المراد به الجهاد في إسبانيا، لتحرير الأندلس من الظلم والعدوان. وكان هذا الجيش معتمدا في مجموعه على عناصر من الصحراء ومن إقليم مراكش، من مسفيوة، وأوريكة، وأغمات، وقبائل الرحامنة، وصنهاجة، ومن إقليم آسفي ، وآنفا، كقبائل عبدة والشاوية، ومن أقاليم الشمال، خصوصا منها قبائل كتامة، وجبال الريف، ومكناسة القديمة، ومن أقاليم طنجة وتطوان وسائر الأقاليم المغربية…
وفي عهد الموحدين قام سكان مراكش، وطلاب جامعة ابن يوسف بنضال آخر يتجلى في البحث على أعمال الخير، ومحاربة عناصر الشر والفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتزعم حركة هذا الإصلاح الفقيه الموحدي محمد المهدي بن تومرت الذي يعتبر فقيها أصوليا، وكاتبا مبدعا ، ونابغة في السياسة ، والمناظرة . وقد كان مدرسا في جامعة ابن يوسف بمراكش في عهد المرابطين ، ولكنه أصبح خصما لهم عندما انتـقد عليهم اعتمادهم في السياسة والأحكام على مجلس الشورى المؤلف من فقهاء مراكش وفاس، وهم فقهاء يعتمدون على فروع الفقه دون أصوله. ولهذا السبب أمر أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بإقامة مناظرة في جامع ابن يوسف لمناظرة المهدي بن تومرت، بقيادة قاضي مراكش، والعلامة مالك بن وهيب الذي كان مستشارا في البلاط المرابطي، وحضر لمناظرته كثير من فقهاء فاس ومراكش والأندلس ، ولكن الزعيم الموحدي عرف كيف ينتصر عليهم، بحكم أنه يدعو إلى تطبيق القواعد الفقهية، والإدارية والسياسية المقتبسة من القرآن الكريم، وسنة الرسول عليه السلام، ونبذ آراء الفقهاء الذين تختلف اجتهاداتهم في فروع الفقه حسب اختلاف مذاهبهم.
وجدير بالملاحظة أن كثيرا من العبقريات العربية البارزة في العلوم القرآنية، وفي الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه، وفي الحضارة الإسلامية، والفلسفة اليونانية، قد هاجرت من مواطنها في الأندلس، وفي القيراوان، وفي صقلية، إلى مدينة مراكش على عهد الموحدين، فكانت تنشر العلوم والآداب في مختلف المعاهد الثقافية بعاصمة يوسف بن تاشفين، وفي الأوساط الثقافية الخاصة في قصور الموحدين، الذين كانوا يهتمون بالعلوم الرياضية، والفلسفية، وعلم الأصول، وعلم الكلام، والفكر الإسلامي.
كان الملوك والأمراء الموحدون يتوفرون على رصيد هائل من العلم والآداب والفلسفة، أو الفكر الإسلامي، فكانوا ينشرون هذه الثقافة والعلوم الجديدة في مراكش، بواسطة أساتذة مراكشيين، وأندلسيين، وصقليين، وذلك في الخزانات العلمية للملوك الموحدين، وفي ردهاتِِـهم وقصورهم التي كانت غاصة بالعلماء، والأدباء، والشعراء، والفلاسفة، والأطباء الذين حضروا إلى مراكش لتقديم الولاء لأمير المؤمنين الموحدي عبد المؤمن بن علي، أو لابنه يوسف بن عبد المومن، أو لحفيده يعقوب المنصور، وهؤلاء الملوك كانوا من أبرز العلماء، والفقهاء، والحكماء، والفلاسفة في العصر الموحدين..
وقد كان هؤلاء العباقرة الأندلسيون والمغاربة والصقليون، والإفريقيون الذين هاجروا إلى مراكش، عاصمة الموحدين ينشرون ثقافتهم، وعلومهم، وأفكارهم على تلامذتهم وطلابهم المراكشيين، في جامع أو جامعة ابن يوسف بمراكش، التي أصبحت في عصر الموحدين تزخر بعلماء الرياضيات، والهندسة، والطب، والفلسفة، والحكمة، وعلم أصول الدين، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، خصوصا منها آراء علماء الكلام، والمعتزلة الذين كانوا يخالفون علماء السنة في مسألة خلق القرآن، وتكفير من يرتكب الكبائر من الذنوب، واتباع مبدأ المنزلة بين المنزلتين، ويقصدون بِها أن مرتكب الذنوب الكبيرة، والجرائم الخطيرة لا يعتبر مومنا حتى مع التوبة، خلافا لمذهب أهل السنة، ولكنه يعتبر في منـزلة بين منـزلة الإيمان ومنـزلة الكفر، ويفوض أمره إلـى الله.
“إن كثيرا من هذه العقول والعبقريات الأندلسية اتخذت من مدينة مراكش موطنا ثانيـا لها، فعاشت بين أحضانها معززة مكرمة، وساهمت في تنميتها العلمية والفكرية بمعرفتها وفلسفتها، ومؤلفاتها الرائعة، وكثير من هذه العبقريات العربية ساهمت في سياسة الدولة المغربية، إما بالشورى أو بالنصيحة، وبقيت تتنقل بين المساجد ومدارس مراكش، وفي مقدمتها جامع ابن يوسف الخالد”