بقلم د. ش. أسامة شعبان
هو بشَرٌ من طين، لكنه نور على نور، بدّد الديجور، وما يزال… وقراءة قصة مولده عليه صلاة الله وسلامه لم تعد محصورةً في موسم المولد، منذ سنوات بعيدة خلت، بل صارت ختامًا لكل مناسبة خير، واستفتاحًا لكل قادم يُرجى له البركة.
والأمة الإسلامية كانت وما زالت على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؛ شكرًا لله، وتجديدًا للولاء، وزيادةً في الحب لصاحب الشريعة… وهو من ضمن السنن الحسنة التي استحسنها علماء المسلمين، كالمآذن والمحاريب للمساجد، والأذان الثاني لصلاة الجمعة، والتنقيط والشكل ووضع الشدات ونحو ذلك للمصاحف. وهذه كتب علماء المسلمين وفتاويهم ومجامعهم طافحة ناطقة باستحسان ذلك والتشجيع عليه؛ قديمًا وحديثًا؛ ما عدا فرقة تشدّدت بذلك ولم يسبقها أحد إلى التحريم! والله أعلم وأحكم.
الأُشْكُولة أن الفرقة المانعة تقول: هذه أسباب عِلّة التحريم:
1- دليل الترك: كونه لم يفعل ولم يدعُ عليه الصلاة والسلام (ولا صحابته الكرام) إلى الاحتفال بمولده.
2- عدم المزايدة: على الصحابة في الحب والخير.
3- سدّ باب الذرائع: منعًا من الأعمال غير السوية التي قد تنسحب على ذلك.
4- التمسك بالأصول السلفية كما هي.
5- الحديث النبوي: *”كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ”* [صحيح مسلم].
والجواب سهل يسير كما سيظهر:
1- إنّ ادّعاء: “لم يفعله”، يُجابه بأنه بالمقابل: “لم يَنهَ عنه”. فما حكم من نهى عمّن لم ينهَ عنه الله الرحيم ورسوله الكريم؟! إنْ هو إلّا مُتحكِّم يتكلّم بالهوى بلا سلطان وبرهان… فما أجرأه على النار! الترك ليس دليلًا في أصول الفقه وأسباب التحريم؛ وفي تعاليم أهل الحديث النبوي الشريف عرّفوا السُّنَّة بأنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، ولم يوجد لفظ “الترك”، بل المقرر عندهم: “الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يَرِدْ نصٌّ في التحريم”. وهذا من سماحة الإسلام وسهولته وتيسيره. يقول الله تعالى: *{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}*[الحشر]. ولم يقل: وما ترك فعلَه. فالترك لا يفيد حكمًا شرعيًّا غير جواز الترك فحَسْبُ؛ كتركه عليه الصلاة والسلام أكل الضّبّ (حيوان صحراوي يشبه الحرذون)، وأكل خالد بن الوليد رضي الله عنه له في حضْرته عند مُضيِّفهما، مُعلّلًا صلى الله عليه وسلم أنه ليس من عادة قومه أكلُه؛ وكتركه أيضًا عمل المآذن والمحاريب وجمع القرآن في مصحف واحد وتنقيطه ووضع الحركات والشدات على حروفه، وغيرها من المتروكات التي استحدثها المسلمون فيما بعد واستحسنها علماؤهم من باب المسنونات التي حث عليها النبي عليه الصلاة والسلام؛ وسمّها ما شئت: “بدعة مستحسنة”، “سنة حسنة”، “مصلحة مرسَلة”…
ولْيكُنْ في الحسبان أنّ من حكمة ذلك وجودَ آليات صلاح في الإسلام لكل زمان ومكان.. فتأمَّلْ!
2- أشدّ الناس حبًّا ودفاعًا وولاءً لرسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أصحابُه رضي الله عنهم، وهم قدوة الأمة في الدفاع عن الدين ونبيّ هذا الدين؛ لكنهم عايشوه وعاشروه وجالسوه وعانقوه وقبّلوه ونهلوا منه… فلمّا امتدّ الزمان احتيج إلى تجديد الحبّ في نفوس الأجيال، فكان الاحتفال بمولد صاحب الجميل والجمال.. تأمَّلْ كم أثّر ويُؤثّر ذلك في نفوس المؤمنين المشتاقين!
3- ماذا يحصل في احتفالات إحياء المولد الشريف المُنيف؟ إظهار الفرح بمولد الصباح المحمدي، والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات، عُدَّها معي: تلاوة عاطر القرآن، والحديث النبوي، والسيرة الطاهرة، ودروس العلم المفيد، وقراءة المولد الشريف، والابتهالات الرّبّانيّة، والمدائح النبوية، والإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة والسلام على صاحب الفضائل والشمائل، وإطعام الطعام ومَدّ الولائم؛ توسعةً على المسلمين، وتذكيرًا لهم بهذه النعمة العظيمة، والموهبة الكريمة، ليجتمع في هذا الاحتفال أنواع وأشكال من العبادات والقُرُبات، كل واحدة منها مشروعة برأسها، فتأمَّلْ كيف بها إذا انضم بعضها إلى البعض الآخَر!
4- لقد عصم اللهُ هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة، وها هم علماء الخلف سِلْكُ ذهَبٍ متّصلٌ بعلماء السلف؛ ومما يدل على عناية علماء الإسلام بأمر المولد أنه قَلَّ أن تجد عالمًا من العلماء أو حافظًا من الحفّاظ لم يؤلِّف مولدًا للنبي صلى الله عليه وسلم… وهو عمل مندرج تحت أصول شرعية كلية، بدءًا من صومه الاثنين وقوله عليه الصلاة والسلام: *”ذاكَ يومٌ وُلِدتُ فيهِ”* [صحيح مسلم]، مرورًا بصيام يوم عاشوراء شكرًا على نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون الأثيم الملعون، وانتهاءً بزيادة الحب لصاحب المولد، وبسْط خِلاله وخصاله، ونشر الأفراح بصَوالح التقديمات والمبرّات.. فتأمَّلْ حاجة المؤمنين في عصر السرعة والمادة والانطواء ومسخ القلوب إلا من رحم الله… إلى مثل هذه المناسبات الإسلامية والتراثيات العريقة، لإرواء القلوب الظّمِيئة وإنعاش الأرواح الجافّة، والتذكير بأمجاد الإسلام، واستعادة الأمل والعزم إلى أجيال المسلمين من جديد، ليكون عمل المولد حاجةً مُلحّةً في سبيل تحقيق هذه المقاصد المشروعة. تأمّل أنه ينسحب عليه الاحتفال بسائر ذكريات الإسلام المجيدة، كالإسراء والمعراج، والهجرة، وبدر، وفتح مكة، والنصف من شعبان، والتماس ليلة القدر…!
5- قال الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت676هـ) (شرحه على صحيح مسلم): ” “قوله صلى الله عليه وسلم: *”كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ”*: هذا عامّ مخصوص، والمراد غالب البدع”. وقال أيضًا: “قوله صلى الله عليه وسلم: ” *”مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا…”* إلى آخره، فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسنّ السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات… وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: *”كلَّ محدثةٍ بدعٌة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ”*، وأن المراد به المُحدَثات الباطلة والبِدع المذمومة”.
والبدعة في اللُّغة: كلّ شيء عُمل عَلَى غير مثال سابق. والبدعة في الشرع خمسة أقسام: واجبة (كاستخراج أهل العلم الأدلة في الرد على الملاحدة وأهل الزيغ)، ومندوبة (كالاحتفال بالمولد المحمدي، وتأليف مصنفات العلم، وتشييد الكتاتيب والمدارس والرُّبُط والخانقاوات)، ومحرَّمة (كضلال الفِرَق أصحاب الفكر المخالف للشريعة الإسلامية كالقدَرية والمُرجئة والجبْرية)، ومكروهة (ككتابة “ص” أو “صلعم” بعد اسم النبي عليه الصلاة والسلام)، ومباحة (كالتوسع في أنواع اللباس من دون ما تَشبُّهٍ بالخاص عند المشركين)… فتأمَّلْ.
د. ش. أسامة شعبان
o.shaaban1976@gmail.com