بقلم محمد الطوكي
“ كلما احتد النقاش حول أمورنا الجوهرية، ازددنا عمقا للمشاكل، ووعيا بالمناهج الموصلة إلى حلها، فالمهم هو أن نعمل، على ألا نسيء وضع المشاكل، وتأويل بعض المحاولات ؛ خوفا أو مجاملة أو نقصا في التقويم “ (1) . عزيز الحبابي . |
تذكير بإصلاح جذري ناجح : بالتربية يمكن استرجاعه كل ما ضاع(2):
قراءة في معاهدة الحماية، المبرمة بتاريخ 30 مارس 1912، تدل دلالة قاطعة على أن المستعمر قد سحب من المخزن المغربي جميع اختصاصاته، ولم يترك له سوى الأمور المتعلقة بالشأن الديني؛ كالتعليم العتيق في جامعي القرويين وابن يوسف والعدالة الشرعية، فعن طريق هذا المتروك سيسترجع المخزن، كما يرى عبد الله العروي، تدريجيا ما ضاع منه. فإصلاح العدالة واستوزار أبي شعيب الدكالي وبعده بلعربي العلوي له دلالته، وكذلك الأمر بالنسبة لتنظيم التعليم في الجامعين العتيقين؛ في فاس ابتداء من سنة 1936 وابن يوسف سنة 1938.
ونظرا لجسامة هذه المسؤولية التربوية وخطورتها فقد كان المرحوم، بعفو الله،الملك محمد الخامس يترأس بنفسه المجلس العلمي الأعلى للقرويين والمعاهد الدينيةسنويا، ويدرس قضاياها التربوية والتعليمية والإدارية وما يثوي في حناياها من روح وطنية، وكان، رحمه الله، في كل جلسة يضيف جرعة مناسبة من الإصلاحات التي يقتضيها الظرف، فمن طبيعة الفعالية التربوية المواكبة والتجدد. وأعْتَبرُ هذا الإصلاح نموذجا ناجحا ؛ لأنه حقق ما علق عليه حامله ومبدعه من تطلعات، على رأسها استرجاع المخزن لما سلبه منه عقد الحماية، أي أنه أفضى في نهاية مطافهإلى الاستقلال .
فهذا صحفي رسالة المغرب يصف جلسة من جلسات المجلس الأعلى للقرويين، برسم سنة 1943، برئاسة المغفور له الملك محمد الخامس قائلا :
“لأول مرة حضر الصحفيون جلسة هذا المجلس، وإن لم تكن هذه أول عناية ملكية شملتهم في عهد جلالته.
اجتمع هذا المجلس صبيحة يوم الاثنين 8 نونبر سنة 1943 تحت رئاسة الجناب العالي بالله، وكان ذلك في قاعة مقابلة لقبة العرش، وهي ردهة فسيحة جميلة، إحدى واجهاتها زجاجية مشرفة على الرياض والقصور السلطانية مفروشة كلها بالزرابي المغربية، مؤثثة بأفخر الرياش والزينة. تصدر جلالته المكان على أريكة ملكية، وجلس عن يمينه ويساره وقبالة وجهه الكريم أصحاب المعالي الوزراء وغيرهم من أصحاب السعادة والفضيلة أعضاء هذا المجلس الموقر.
والذي يلاحظ في هذه الجلسة على وجه العموم أمران :
أولا: أنها كانت تجمع بين هيبة الملك وجلال السلطان، ووقار العلم، وبين الديمقراطية الحق، التي تتجلى في جميع المناقشات التي كانت تشتد وتحتدم في بعض الأحيان، فيسيرها جلالته بحكمة ولباقة وعدل وإنصاف ما له مثيل ولا عليه من مزيد. وقد تمثلت إزاء تلك المظاهر الباهرة والأخلاق المحمدية الطاهرة بقول أبي العتاهية :
أتــتـه الخــــــــــــــــلافـــــــــة منـــــقــــــــــادة إليـــــــه تــــــجــــــــــــرر أذيـــــــــــــالــــــــــــــــهــــــــا
فــــلــــــــــم تــــــــــــــك تصلح إلا لـــه
ولـــــــــــم يـــــــــــــك يصلــــــــــــــح إلا لهــــــا
ولــــــو أحــــــــــــــــــد غــــيـــــــره رامـــها لـــــزلـــــــزلت الأرض زلـــــــــــــزالـــــــهــــا
ثانيا : إن حضرات الأعضاء كانوا من حرية الرأي وسعة الفكر وقوة الإرادة ما جعلهم يدافعون عن أفكارهم، ويتشبثون بآرائهم، فلا يتخلى أحد منهم عن رأيه إلا بالحجة الناصعة، أو نزولا عند رأي الأكثرية. ولا يسع الكاتب المنصف إلا أن يسجل لحضراتهم بكل إجلال وإكبار هذه الشجاعة الأدبية، في مثل هذا الموقف الرهيب أمام ملك البلاد وسلطان العباد.
افتتح جلالته الجلسة بالثناء على مجهودات وزرائه الكرام ومساعديهم وما يبذلونه من ذلك للصالح العام. وذكر جلالته أن الجهود المبذولة في سبيل التعليم قد أثمرت ثمرات طبيعية، وخطت خطوات شاسعة في هذه السنة وأنه يأمل أن تشفع بأمثالها وأكثر منها في السنة والسنوات المقبلة ؛ لأن رقي المغرب ونهضة الأمة مرهونة بالتعلم، ثم أطنب جلالته في مدح العلم وبيان فضيلته … إلخ (3)
ثم أمر جلالته بالبث في النقط التي بقيت عالقة في الجلسة السابقة بالمجلس،ليبتدئ الاستماع إلى تقريري جامعي القرويين وابن يوسف. فعن هذا الأخير يقول صحفي رسالة المغرب:”وقعت المصادقة على ملاحظة مدير ابن يوسف، فيما يرجع إلى القسم العالي الذي افتتح في هذه السنة، وللزيادة في أجور الموظفين. وأخبر جناب المدير جلالته بأن بعض المحسنين بمراكش عزم على إنشاء مدرسة قرآنية، وقد حبس دارا لإنشاء المدرسة فيها، وريعًا يغلُ نحو المائة ألف فرنك في السنة للإنفاق من ريعه عليها، وهو مستعد لتعزيزها بثانية إذا سوعد على ذلك. فأمر جلالته معالي مندوب المعارف بمساعدته، وشكره على هذا الإحسان العظيم”.
فهذا المقام – بالمفهوم البلاغي– بأشيائه وأشخاصه ومستويات مراكزهم ومناصبهم، وتداول الحوار والكلام فيما بينهم، كل ذلك وغيره، يوحي بأن المشروع التربوي قد توفرت له جميع المقومات المبشرة بنجاحه؛ الإرادة السياسية، والتيار الفكري السلفي المغربي الحامل له، وانخراط الدولة فيه، والحماس الوطني المعرب عن محبة الخير لهذا الوطن، والتطلع إلى تقدمه.
يقول جوزيف لوكسيوني: “يمكن القول بأن التعليم الإسلامي التقليدي بجميع مستوياته ولغاية سنة 1933 لم يحظ بأي إصلاح جوهري، فوضعيته فيما بعد الحماية بقيت على ما كانت عليه قبلها، وأن الذي أحياه وأعطاه انطلاقة جديدة ؛ابتداء من تلك السنة هو سيدي محمد الخامس، وبقي حريصا على المزيد من وتيرة تطويره لغاية سنة 1953 (4) “.
المسألة التربوية في مغرب ما بعد الاستقلال :
عولجت المسألة التعليمية في البدء، أي في مستهل ما بعد الاستقلال، بما أتيح لمعالجتها من إمكانات، وأفضت إلى الأخذ بالمبادئ الرباعية المعلومة: تعميم التعليم، توحيده، مغربته وتعريبه.
فالتعميم: مقابل الأمية والعنصرية والنخبوية في عهد الاستعمار.
التوحيــــد: مقابل التعدد المفضي إلى التفرقة وتكوين عقليات لا يجمع بينها جامع.
المغــــربة: مقابل هيمنة الأطر الاستعمارية .
التعريب: مقابل الفرنسة.
ولن تختفي هذه المبادئ وخاصة منها ثنائية التعريب والفرنسة من نقاش الإصلاحات المتوالية، وستظل تؤزها أزًّا لتنتهي بالأخذ بالازدواجية، أو إيثار الفرنسية كما في البكالورية الدولية اليوم وأقسام النخبة .
“إن الأخذ بهذه الأصول الرباعية في بادئ الأمر، لم يكن ليرقى أو يستجيب للتطلعات، نظرا لأن تصورها كان حماسيا هلاميا فضفاضا، وقد أعوز تشخيصه الوسائل العلمية القمينة بدقة تشخيصه وكذا الوسائل المادية، مما أدى فيما بعد إلى سلسلة من الإصلاحات قمتها الميثاق، الذي جاء أكثر نجاعة؛ حيث توفرت له الوسائل والإمكانات، فتميز بالدقة إلا أنه غابت عنه شمولية الرؤية، واكتفى بما كان يفرضه السياق العالمي، من ضرورة مطابقة التعليم لسوق الشغل، وما يشيعه الخطاب النيولبرالي من خيارات وأساليب، ولما كان يعتبر من وسيلة التصدي للحركة الإسلامية.
فعيب هذه المقاربة التي غلب عليها التوجه الليبرالي، أنها كانت تخضع لإملاءات خارجية، وتأتمر بتوجيهات خبراء لهم رؤية عامة ليست بالضرورة مطابقة لواقع المغرب، كانت هذه المقاربة ترى أن الوسائل المادية كفيلة بتجاوز الاختلالات.وعلى كل حال فإن هذه المقاربة ذات الطابع التكنوقراطي لم يكتب لها أن تحل المشكل.
ففشل المنظومة التربوية، إن صح أن نسميها منظومة، يتمثل في العطالة والفقر وانتفاء المعنى، وتردي الأخلاق واللهات وراء المادة وتفشي العنف، وتوزع المجتمع طرائق قددا، وتنافر المثقفين بين اتجاهات متضاربة وتنابزهم وتفرقهم، ومن يلقي نظرة على عناصر نخبتنا الماسكة بمقاليد القطاعات استراتيجية المالية والاقتصادية يرى أنها جميعا لم تتخرج من مؤسسات تعليمنا المغربي، فمؤسساتنا لم تستطع تخريج مثل هذه القيادات.
إن العملية التربوية شأن يستلزم ويستوجب الأناة، فليست العملية قطاعية خاصة بوزارة التربية ومفصولة عن باقي مكونات المجتمع، فالمنظومة التعليمية تتأثر بمحيطها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وهذه رؤية نخبة من ذوي الرأي، ويبقى لها أن يدعمها اتجاه فكري بل سياسي وأن تلقى قبولا لدى الدولة التي تدعو الفاعلين للانخراط فيها.
فالتربية مهمة الدولة بالأساس، وأداتها لترسيخ بناء الأمة وتقوية لحمتها، ورسم معالم المجتمع ، وسبيلها لتكوين نخبتها وأطرها التي بها ضمانها واستمراريتها.
وإذا فمدرستنا بين خيارين لا ثالث لهما ؛ مدرسة لا نرسم معالمها وتقودنا إلى حيث تشاء من التمايزات الطبقية والثقافية وتغذي الأحقاد وتشكل عبئا ماديا، وتفرخ عاطلين حاقدين أو معطلين جانحين. وإما مدرسة نرسم لها غاية فكرية وسياسية وتنصهر فيها التمايزات، وتهيئ لتدبير الاختلافات، وتكون أداة للارتقاء الاجتماعي وتكوين كفاءات ترتقي بالبلاد، وبالمنظومة التربوية، وتخضع للمراجعة المستمرة والنقد الحصيف.
فالخيار الأول هو واقع مدرستنا، والخيار الثاني هو ما نصبو إليه” (5).
إن كل خطاب هم بمعالجة المسألة التعليمية في المغرب ما بعد الاستقلال، إلا وتجده يرشح بتيمة التأزم والإحباط والمأساوية. وقد رصد الدكتور عزيز الحبابي هذه العلامة المميزة في فكرنا العربي بصفة عامة، فعللها انطلاقا من تياره الفلسفي الشخصاني، واقترح سبيلا للخلاص من معوقاتها، يقول :
” لقد اكتشف المفكرون المعاصرون بعدا هاما في الطبيعة البشرية، هو البعد المأساتي المشترك بين جميع الأفراد والشعوب لكن، بينما الآخرون يصعدون الشعور بالمأساة ويجعلونه طاقة في توتر خلاق، لم نع نحن المأساة بعد، على مداها الحقيقي، وحتى الذين شعروا بها، لا يحيونها إلا على حدة، وبحياد، إما خوفا من مواجهتها مجتمعيا، وإما لأنهم لم يجدوا وسائل دقيقة للتعبير عنها، أو للسببين معا. على كل حال، الشعوب العربية لم تع بعد المأساة، لذا ما تزال تتخدر، في الغدو والآصال ب” ليلى يا عيني … يا ليلي …” ويطلع الفجر فيتساوى مع الغروب في تفاهة المصير وعبث الأيام الرتيبة. وقديما قالوا بخرافة : التاريخ يعيد نفسه، واليوم، نحن العرب، نعيش على هامش التاريخ، نحيا في تاريخ لا يفعل ولا ينفعل ولا يعيد شيئا ؛ لأنه دون حركة، ودون نَـفــْـس ودون نـَـفـَس، إن مرجع هذه القطيعة بيننا والتاريخ هو انفصال النخبة عن الشعب”(6).
الإحـــــــالات :
1– جاءت هذه الفقرة في ختام محاضرة لعزيز الحبابي بعنوان أن نكون أولا نكون هي المشكلة، ألقيت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة دورة سنة 1973 .
2 – فهذا الفيلسوف الألماني فختة يرسل صرخة مذوية في بني وطنه عندما احتل نابليون بروسيا سنة 1812 قائلا : لقد فقدنا كل شيء ولم يبق إلا التربية.
3 – رسالة المغرب، العدد الرابع، فاتح دجنبر 1943، السنة الثانية ص 91 -92 .
4- Joseph Luccioni : les fondations pieuse « Habous » du Maroc, imprimerie royale – Rabat – 1982. P.250
5– حسن أوريد من أجل ثورة ثقافية.
6– الدكتور عزيز الحبابي، نفسه ص 239.