انقلب اتجاه الرياح إلى الاتجاه المعاكس في الجزائر منذ إسقاط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بعد الاحتجاجات الجماهيرية ضدَّ النظام في عام 2019 فيما يعرف باسم الحراك الشعبي الجزائري. وبعد تفشِّي جائحة كورونا في عام 2020، أوقف الحراك مظاهراته الأسبوعية ضدَّ النظام والقيادة العسكرية وأصبح في الواقع هدفًا مباشرًا لأعمال الدولة الانتقامية.
هذا القرار ليس مفاجئًا ولكنه مع ذلك “صادم ومقلق للغاية” – بهذه الكلمات علَّقت الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH) – وهي اتحاد مقرُّه في باريس ويضمّ عددًا لا يحصى من منظمات حقوق الإنسان من جميع أنحاء العالم – على القرار الرسمي القاضي بحلّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وهذا الخبر لم يكن غير متوَّقع، وذلك نظرًا إلى الإغلاق التدريجي المستمر منذ عام 2020 للمساحات المفتوحة جزئيًا أمام المجتمع المدني الناقد للحكومة، والتي استمر وجودها قبل ذلك لأكثر من عشرين عامًا. ولكنه يمثِّل بطبيعة الحال ضربة قوية لمنظمات حقوق الإنسان في الجزائر.
تسرَّب في منتصف شهر يناير 2023 خبر يفيد بأنَّ محكمة إدارية في الجزائر العاصمة قد أصدرت في شهر يونيو 2022 حكمًا بحلّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان وثبَّتت هذا الحكم في النهاية كتابيًا في سبتمبر 2022. وقد أعرب نائب رئيس مكتب الرابطة في ولاية بجاية، السيِّد سعيد صالحي، عن استيائه من هذا الحكم وانعدام الشفافية لدى السلطات.
وذلك لأن الرابطة لم يتم إعلامها بقرار المحكمة بل علمت به الآن فقط من شبكات التواصل الاجتماعي، مثلما كتب على موقع تويتر الناشط الحقوقي سعيد صالحي، الذي هرب في عام 2022 إلى المنفى في فرنسا.
ومنذ أن تقدَّمت وزارة الداخلية الجزائرية بطلب إلى المحكمة لحلّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان في شهر مايو 2022، لم تكن لدى الراباطة أية فرصة للاطلاع على الملفات أو التعليق على الادعاءات، التي ما تزال غير واضحة حتى يومنا هذا، بحسب تعبير سعيد صالحي. بالإضافة إلى عدم إبلاغ الرابطة بأسباب الدعوى الرسمية، مثلما ذكرت الرابطة في بيان لها جاء فيه أنَّ هذا الحكم يشدِّد فقط على أنَّ الرابطة قد انتهكت اللوائح السارية.
ولكن هذا القرار يجب أخذه وبكلِّ تأكيد على محمل الجدّ، لأنَّ السلطات قد أمرت بعد فترة قصيرة من الإعلان عن إغلاق الرابطة بأن يتم رسميًا إغلاق مكاتب منظمتين محليتين مرتبطتين بالرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وقد تضرَّر من ذلك أوَّلًا مركز التوثيق والإعلام في حقوق الإنسان CDDH في مدينة بجاية الساحلية شرق الجزائر العاصمة وبعد أسبوع من ذلك أغلقت السلطات دار حقوق الإنسان والمواطن MDHC في تيزي وزو بمنطقة القبائل.
خلافات داخلية
يمثِّل حلُّ هذه الرابطة، التي تأسَّست في عام 1985 وتم ترخيصها رسميًا في عام 1989، ضربة قاسية للمجتمع المدني في الجزائر، فقد كانت هذه الرابطة واحدة من أكثر مجموعات حقوق الإنسان نشاطًا في الجزائر وكانت لديها اتصالات جيدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وعلى الرغم من أنَّ الخلافات الداخلية قد أدَّت إلى انقسام في الرابطة في بداية القرن الحادي والعشرين – ومنذ ذلك الحين كانت المكاتب الإقليمية الخاصة بالرابطة تعمل بشكل منفصل عن بعضها – ولكن مكاتب الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان ظلت مع ذلك جهات فاعلة مركزية في التصدي لأعمال الدولة الانتقامية ضدّ المعارضين والمخالفين والحركات الاحتجاجية ومن أجل حقوق اللاجئين والأقليات الدينية أو العرقية.
لقد تعرَّض حلّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان لانتقادات حادة من قِبَل المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية الجزائرية والنشطاء وأحزاب المعارضة مثل حزب التجمُّع من أجل الثقافة والديمقراطية RCD، الذي أعلن رئيسه، السيِّد عثمان معزوز، في بيان أنَّ “الحلّ شبه السرّي” للرابطة كان تعبيرًا عن استبداد سلطوي أكثر من كونه مجرَّد قوة سلطوية.
المجتمع المدني مُستَهدف من قِبَل النظام
وقد أشارت في الوقت نفسه وكالةُ الأنباء الجزائرية الرسمية في خبر غريب يوم الحادي والثلاثين من كانون الثاني/يناير 2023 إلى “مصادر موثوقة جدًا” من صحفية جزائرية (الصحفية ليلى حداد) قالت إنَّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان “تم حلها بقرار من العدالة بسبب غياب مسؤوليها المقيمين بالخارج”.
ومن جانبه ردَّ نائب رئيس مكتب الرابطة الجهوي في ولاية بجاية، سعيد صالحي، على هذا الادعاء في حسابه على موقع تويتر بالإشارة إلى أنَّ رئيسي جناحي الرابطة، حسين زهوان ونور الدين بن أسعد، ما يزالان يعيشان في الجزائر.
ولكن على الأرجح أن تكون الأسباب الحقيقية لإغلاق الرابطة هي موقفها الناقد تجاه الحكومة وكذلك تلقيها “تمويلات من هيئات تابعة بشكل مباشر لمصالح أجنبية”. لقد كان هذا السبب الأخير (تلقي أموال أجنبية) بشكل خاص ومنذ فترة طويلة بمثابة علم أحمر بالنسبة للحكومة الجزائرية ويُنظر إليه بشكل عام بعين الريبة والشكّ. غير أنَّ السلطات غالبًا ما كانت تتسامح حتى الآن مع المساعدات المالية المقدَّمة من الخارج للمنظمات غير الحكومية الجزائرية وقد لمّحت إليها بشكل لاذع فقط أو وضعت عقبات إدارية في طريق المنظمات المنتقدة للسلطات.
وقد أشار ضمن هذا السياق الخبر المنشور لدى وكالة الأنباء الجزائية الآن أيضًا إلى “الغموض الذي اكتنف عملية التسيير المالي للرابطة التي باتت منحلة” – وهذا مؤشِّر واضح يشير إلى الهدف الحقيقي لحلّ الرابطة.
انقلب اتجاه الرياح إلى الاتجاه المعاكس في الجزائر منذ إسقاط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بعد الاحتجاجات الجماهيرية ضدَّ النظام في عام 2019 فيما يعرف باسم الحراك الشعبي الجزائري. وبعد تفشِّي جائحة كورونا في عام 2020، أوقف الحراك مظاهراته الأسبوعية ضدَّ النظام والقيادة العسكرية وأصبح في الواقع هدفًا مباشرًا لأعمال الدولة الانتقامية.
وقد قامت السلطات منذ ذلك الحين وعلى نحو متزايد ومنهجي برفع دعاوى قضائية استهدفت منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالحراك وأحزاب المعارضة اليسارية الليبرالية وأمرت بمنعها، بينما تم سجن المعارضين وإسكاتهم.
وأعقبت الإغلاق الرسمي لجمعية “أس أو أس باب الواد” غير الحكومية في الجزائر العاصمة عام 2020 إجراءاتٌ قضائية ما تزال مستمرة حتى اليوم لحظر جمعية تجمُّع حركة الشباب RAJ، التي كانت ناشطة للغاية خلال احتجاجات الحراك. وفي شهر كانون الثاني/يناير 2023 تمت أيضًا زيارة تجمُّع “أس أو أس المفقودين” في الجزائر العاصمة من قِبَل الشرطة، التي كانت تريد على ما يبدو تسليم أمر استدعاء لقيادة هذا التجمُّع غير الحكومي.
لا يزال سبب هذا الاستدعاء غير واضح بالضبط، ولكن هذا التجمُّع غير الحكومي مدرج منذ سنين عديدة على قائمة المستهدفين من قِبَل السلطات، لأنَّه يمثِّل ويدافع عن عائلات الأشخاص، الذين تم اختطاف معظمهم من قِبَل قوات الأمن خلال الحرب الأهلية الدموية في التسعينيات وباتوا يعتبرون منذ ذلك الحين في عداد المفقودين. وهذا الموضوع لا يزال يعتبر من المحرَّمات في الجزائر.
الصحافة الحرة في خطر
وفي حين يبدو أنَّ الأضواء قد انطفأت بشكل جاد بالنسبة للمجتمع المدني الجزائري الناشط سياسيًا فإنَّ الصحافة الجزائرية، التي تعتبر متنوِّعة وناقدة للغاية بالرغم من نظام الحكم السلطوي، باتت تتعرَّض أيضًا للهجوم بشكل متزايد. وأصبح الصحفيون المنتقدون للحكومة يتعرَّضون مرارًا وتكرارًا منذ عام 2020 للترهيب والاعتقال والمحاكمة وحُكم على بعضهم بالسجن.
وقد تضرَّر من ذلك مؤخَّرا الصحفي إحسان القاضي، وهو مدير راديو إم على الإنترنت وموقع مغرب إيميرجون الإخباري. لقد تم اعتقال هذا الصحفي الجزائري البارز ليلة الخامس والعشرين من شهر ديسمبر 2022 في مدينة بومرداس وهو محتجز منذ ذلك الحين على ذمة التحقيق في سجن الحراش سيِّئ السمعة في الجزائر العاصمة.
وتعرَّضت بعد يوم من اعتقال إحسان القاضي مكاتبُ راديو إم وموقع مغرب إيميرجون الإلكترونيين في الجزائر العاصمة للتفتيش والإغلاق وصادرت السلطات معدَّات تقنية وأموالًا. وقد تم حظر الوصول إلى كلا الموقعين الإلكترونيين في الجزائر منذ منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2023.
فلا عجب إذن من أنَّ التفاؤل الذي أحياه الحراك الشعبي مؤقتًا – وخاصةً بين الشباب – قد اختفى في الواقع بشكل تام منذ عام 2020. ومن الواضح أنَّ الرياح قد تغيَّرت في البلاد بعد أن تمكَّنت في نهاية عام 2019 القيادة العسكريةُ الجزائرية من استعادة السيطرة على زمام الأمور في البلاد منذ إسقاط بوتفليقة وتنصيب رئيس آخر مطيع في الجزائر – الرئيس عبد المجيد تبون.
يعمل الآن الرئيس عبد المجيد تبون بالتعاون مع السلطات الأمنية والقضائية على إغلاق المساحات المفتوحة بشكل تدريجي أمام المعارضة والمجتمع المدني والصحافة الحرة وإعادة نظام الحكم السلطوي من جديد. ونتيجة لذلك يبدو أنَّ المستقبل سيكون مظلمًا بالنسبة لحرية التجمُّع وتكوين الجمعيات وحرية الصحافة والتعبير في الجزائر خلال السنين القادمة.
سفيان فيليب نصر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023