بعد تشكيل الحكومة الجديدة، تظل مسألة تمويل أجرأة النموذج التنموي الجديد، الذي يتطلع المغاربة والقوى الحية الوطنية والمجتمع المدني إلى تنزيله الفعلي، ذات أهمية بالغة، لا سيما وأن الأمر يتعلق بورش متعدد الأبعاد.
الرهان كبير ! ونجاح هذا الإصلاح الواسع النطاق سيتطلب تنفيذ استراتيجية تمويل استشرافية وملائمة، خاصة وأن الأهداف التنموية، التي تم تسطيرها، ستتطلب تعبئة موارد عمومية هائلة، لا سيما تلك المرتبطة بأوراش الرأسمال البشري والإدماج.
وهكذا، ففي هذا الشق الذي يشكل محورا استراتيجيا حقيقيا لتجسيد مختلف الطموحات، ستتطلب المشاريع والإصلاحات المقترحة من اللجنة الخاصة المكلفة بالنموذج التنموي حصة هامة من الناتج الداخلي الخام لتحقيق الأهداف المسطرة.
وهذا ما سبق وأن أكده رئيس اللجنة، شكيب بن موسى. فالأمر يتعلق بتمويلات عمومية إضافية تناهز 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام سنويا في مرحلة الانطلاق (2022-2025)، و10 في المائة من الناتج الداخلي الخام في مرحلة السرعة القصوى في أفق 2030، بالإضافة إلى تعبئة قوية للاستثمار الخاص.
ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن هذه المسألة، التي تتقاطع مع مجالات التمويل والنمو الاقتصادي، بحيث أنها تشكل شرطا لا غنى عنه لتحقيق تحول حقيقي للاقتصاد، يفتح المجال لدراسة مختلف الأدوات التي يتعين اللجوء إليها قصد تنويع التمويلات.
وفي هذا الصدد، اعتبر عبد الغني يمني، الخبير الاقتصادي والمتخصص في السياسات العمومية، أن استراتيجية التمويل ليست مسألة مبدأ فحسب، بل هي قبل مسألة استمرارية في المقام الأول، وإلا فإن النموذج التنموي الجديد سيبقى “حبرا على ورق”، في حين أن كافة المغاربة يعتبرون هذا المشروع، إلى جانب مشروع الحماية الاجتماعية، من المشاريع الكبرى في عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس.
وأضاف أن هذا التمويل يجب أن يرتكز على غلاف مالي يعادل نسبة 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام سنويا، أي 6 ملايير درهم بين سنتي 2022 و2025، ثم 10 في المائة من الناتج الداخلي الخام إلى غاية سنة 2030، بمتوسط يناهز 15 مليار دراهم في السنة.
وأكد السيد يمني أن هذه المساهمة تظل دون التحديات التي يجب رفعها، حيث أن تغيير النموذج التنموي الاقتصادي مع انتقال من ناتج داخلي خام للطلب المحلي إلى ناتج داخلي خام للطلب الخارجي سيتطلب تمويلات خاصة أكبر من 5 إلى 10 أضعاف، وبنوك مغربية أكثر مرونة وأقل تحفظا، ودبلوماسية اقتصادية أكثر فاعلية وانفتاحا على رؤساء الجهات والمسؤولين المنتخبين، بغية العمل على إقناعهم بالفوائد والأرباح التي ستترتب عت تنفيذ مشاريع مشتركة مع المقاولات المغربية.
كما سلط الضوء على ضرورة أن انخراط الاتحاد العام لمقاولات المغرب في تطوير بلورة هيكلة التمويلات الخاصة، وخاصة في زرع ثقافة ريادة الأعمال من خلال التمويل التشاركي، وكتلة المساهمات، وغيرها.
التنزيل الفعال والناجع للنموذج التنموي الجديد .. أي أولويات ؟
وبحسب الخبير الاقتصادي، فإن هذه الأرقام ليست مجرد معطيات حسابية، بل تمكن من تقييم، في أفق 15 سنة، مدى بروز المغرب أو تعثره جراء بعض الإكراهات المرتبطة أساسا بالفوارق.
وأضاف قائلا “نأمل أن ينتقل نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام من 7,826 دولار سنة 2019 إلى 16 ألف دولار في أفق 2035، وخلق نمو اقتصادي سنوي يفوق 6 في المائة، والرفع من مؤشر المشاركة في القيم العالمية بنسبة 17 في المائة، والقيمة المضافة الصناعية بمقدار 22 نقطة، ومضاعفة فرص الشغل المهيكل من 41 في المائة إلى 80 في المائة، وخفض البطالة إلى 7 في المائة، وتأمين التغطية الاجتماعية لكافة سكان المغرب”.
وفي هذا الصدد، أكد السيد يمني أن العديد من البلدان، مثل الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا، نجحت في هذا التحدي معتمدة على ثلاثة محاور رئيسية، وهي رأسمالية الدولة، وتكافؤ الفرص لخلق الثروة والاستفادة منها، وازدواجية النموذج الاقتصادي من خلال وضع بدائل الاستيراد، قصد إرساء منحنى تعليمي ناجع، والرفع من مستوى الصادرات على أساس الإنتاج الصناعي والتكنولوجيا الجديدة والابتكارات الرقمية.
وبالموازاة مع ذلك، أشار الخبير الاقتصادي إلى أن العدالة الضريبية لا ينبغي أن تُبنى على الدين وعجز الميزانية، وإنما على إرساء القيمة المضافة وقيمة العمل.
وتابع قائلا “لا يجب على المغرب أن يُحدث ثورة في اقتصاده ونموذجه الاجتماعي بإعفاءات، بل من خلال مكافحة اقتصاد الريع، والتهرب الضريبي، والوظائف العمومية الوهمية”.
وذكر بأن النموذج التنموي الاقتصادي الجديد يعد أساسا نموذجا للثورة الاقتصادية، وللإنتاجية والابتكارات، وللمسؤولية الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وكذا للنهوض الاقتصادي والبيئي والاجتماعي.
ولا شك أن النموذج التنموي الجديد، الذي يندرج في إطار منطق إحداث قطيعة مع الماضي، سيشكل علامة فارقة جديدة في الصرح المؤسساتي للمملكة، وذلك من خلال مساهمته في ترسيخ المساواة والعدالة الاجتماعية والسياسية، وإعطاء انطلاقة جديدة للاقتصاد المغربي.
و م ع