القاص الليبي محمد الأصفر / أرشيف معالم-المراكشية (2004)
(1)
الساحة مقسمة إلى حلقات ، تحيط بها العربات التي تبيع عصير البرتقال والتمر والمحمصات . الحلقات مكتظة ببشر يسترزقون بالرقص بالسحر بالغناء ، حواة الثعابين والأفاعي وفقهاء البخت والنصيب، ودراويش يطلبون ويطبلون ويرطمون أصابعهم الملبسة بالمعدن ببعض مع لف رؤوسهم التي تكسوها الطرابيش، فترى ( الشنوارة ) تدور وتدور ، وباعة الماء بلباسهم الأحمر يقرعون أجراسهم ويسقون العطاشى، وعربات الحصانين وسيارات الأجرة تتقيأ السائحين. كل العربات البائعة تفتح إلى الخارج فالذين داخل الساحة لا يشترون !!
(2)
أصعد مطعما فوق السطح ، أتغذى الكسكس وأنظر إلي تحت ! فأراهم يرقصون ويغنون، والعربات المتلاصقة المرقمة تبيع للمارة ، والسواح يشترون من الخارج ، وداخل الساحة تلتهم مشاعرهم المرفهات الشعبية، ولا يدفعون إلا بعد استجداء ذليل
وعندما يحل المساء يخرج الحواة والراقصون والفقهاء، وتفترش الساحة المطاعم المؤقتة وتفتح العربات أبوابها إلى الداخل .. البيض الملون ، الحريرة ولحم الرأس والسمك والقواقع والحلزون والكباب والسواح يلتهمون الزاد على أصداء أنغام النهار الذي مضى بدقائقه النحيلة الجائعة
(3)
في ساحة جامع الفنا فتحت حلقة وصرت حاويا أتاجر في الكلم بنوعيه ، والوعود والدعوات المباركة ، أقرأ الكف والفناجين والطواسي والطناجر وحتى البراريد ، ولكني فشلت أن أقرأ الغرابيل والأقماع والكساكيس، فبكيت حتى أغمي علي. وعندما صحوت أقفلت حلقتي بـ ( خوطة حوطة واللي يقربها أمه مخبوطة ) وذهبت إلى سيدي بلعباس هناك التقيت فقيها أعمى شكوت له عنتي في قراءة الخروم والمثقوبات .. فضحك بهستيرية مخيفة لم يتوقف حتى دسست في يده خمسين درهما ، عندها همس في أذني : اقرأ الطوالع ببصيرتك العمياء
(4)
في الصباح عدت إلى حلقتي وبدأت عملي ، كانت أول زبونة فتاة مغربية ترتدي برنسا منكفئا إلى الوراء ، قلت لها : لماذا تتركين المغاربة وتأتين إلى الأجانب ؟ .. قالت لي : لا كرامة لنبي في أرضه .. قلت لها : أنا عربي والمغرب أرضي .. فابتعدت جرياً وبرنسها يدفع ظهرها قائلة : لا أتكلم في السياسة يا أخي، أسندت خدي على كتفي أستمع لتوترات جسدي وأتطلع إلى البقعتين اللتين خلفتهما أمصال ولقاحات الستينات على أعلى ذراعي ! .. جاءت زبونة ، ثانية سألتها نفس السؤال أجابت : مطرب الحي لا يطرب …. قلت لها : أنا زامر عربي زيتوني النزعة !!! ابتسمت ولم تهرب ، قرأت لها كفها المنقوش بالحناء وكفها الآخر ، وتطورت قراءاتي فقرأت لها باطن قدميها ، أعطتني عشرة دراهم، نصف درهم لكل أصبع .. زبون آخر مد خمسة وآخر عشرين وسائح ياباني خمسين وفي نهاية اليوم وجدت حصيلة لا بأس بها ، تكرر الأمر فاشتريت مظلة وصندوقا أجلس عليه وكرسيين ، وازدهرت حلقتي وتمطت قراءاتي لتصل إلى البطون والسرر والحلمات والظهور. ألبس نظارة سميكة حتى أتبين مسامات الجلد من خلال الزغب الذي يحرقني … اخترعت مرهما لإزالة الزغب وفتحت موقعا على الإنترنيت ومكتبا في إحدى عمارات شارع محمد الخامس وفرعاً للحالات المستعجلة في فندق من عشر نجوم . صرت أقرأ للخاصة بالمواعيد ، شغلت حتى سكرتيرات ومترجمين ولكن رغم كل هذا الثراء لم أترك حلقتي سبب شهرتي في ساحة جامع الفنا .. ففي كل صباح أتدثر باسمالي البالية وألوث بدقيق ( الفارينا ( ونخالة الشعير وأتقرفص على صندوقي العتيق منتظرا الأرزاق مثل كل الحواة والمشعوذين في هذا العالم الهاروتي الماروتي . ، كنت وجهي
(5)
وذهب الصيف والخريف وهل الشتاء .. فجاءني الفقيه الأعمي الذي أعطاني سر القراءة بالبصيرة العمياء ، رحبت به أيما ترحيب ، شبكت له كرسيين لكبر عجيزته ! ، طلبت له براد شاي منعنع وطبق حلوى شباكية وتمراً وفطيرة مسمنة بالعسل وزيت الزيتون و حارة ” بيض مسلوق وسيجارتين من الكيف المخدر ! ، توقفت عن العمل رغم قدوم بعض الزبائن الأسخياء ، قلت في نفسي ربما محتاج ، فدسست في يده ورقة 500 درهم .. ابتسم لي شاكرا ثم خلع نظارته السوداء وتطلع إلى شمس الصباح، ابتسم أكثر دون ضحك ، تأملني في شره : صار يغوص ببصره إلى عمق أعماقي ، لم أقابل عينيه خشية سلبي عن طريق التنويم المغناطيسي !!
ابتسمت معه ونظرت معه حيث نقل طرفه إلى أشعة الشمس وهي تتسلل من سحاب ” أوريكا المثلوج ، رشف من الشاي ، رشفت من … قال لي : قل مبروك .. قلت : مبروك مبروك هل تزوجت ؟! .. قال : لا يا صديقي .. ولكن أجريت جراحة في المستشفي أعادت لي النور فجئتك متبرنا من نصيحتي السابقة …. الشاي