بقلم ذ. عبد االله أونين
أثناء مزاولة ما يطفئ لظى عشق الدفء مابين أسوار هذه المدينة التاشفينية التي لا يتوقف القلب عن النبض باسمها، هذه المدينة الموغل عشقها في أغوار ثنايا القلب والآسر لكل الأحاسيس ، أثناء التجوال بين احيائها ، كما هو معتاد، كلما سنحت الفرص وطاب عود الجسم المنهك بطاحونة السنين للقيام -للاستمتاع – بلفة بحاراتها المتجذرة في عمق التاريخ لما يربو عن تسعة قرون ، تجد النفس ما بين تلك الأحياء والدروب والأزقة الحبلى بذكريات الطفولة والشباب ما يزكيها ويحلق بها في سماوات جميل تداعيات الذكريات، ويخفف عنها حمل الرتابة الذي يخنقها بين حيطان بيوت بأحياء صماء صمم حجارتها وحديدها خلف الأسوار.
تغير لون العيش بالحمراء المستمر توهج حيطان بيوتها المترهلة بذلك اللون الطيني البهيج الذي اختير ليكون رداء لكل جدارات وأسوار مراكش منذ القدم ،وصار بعض السكان الجدد يتمردون عليه امام صمت الجهة المسؤولة رغم ان طلاء حيطان مراكش بذلك اللون مرسخ بقرار بلدي مستمر يعود إقراره إلى 1936، تغير نمط العيش إلى الأحسن وتغيرت أشياء وأشياء بكل أسف إلى ما يحز في النفس تغيرها أو انمحاؤها ، فقد لبست المدينة رداءات التحضر حيث ارتبطت الدور بقنوات الصرف وقنوات الماء الشروب ، وودعت الحارات أزمنة لعوينات و”المْعِيدات ” وغابت السقايات التي طالما جعلت أعين الجيل الأول بعد إعلان الاستقلال تقف على مشاهد “الكرابة” والسقائين وهم يملأون قربهم او أسطالهم بالماء وإيصالها إلى خوابي البيوت مقابل سنتيمات ( فرنكات وفق التسمية القديمة ) – الله يرحم دادا مسعودة سقاءة اهل عرصة الغزايل وعرصة الحوتة- ،كما اختفت من تلك الدور أثاثات لم يكن للناس حينذاك غنى عنها لحفظ الماء وتبريده كالخابيات و القلل منذ عقود بعدما تمددت أنابيب توصيل المياه إلى الصنابير المثبتة بداخلها ، وصار الناس يستعينون بالبرادات الكهربائية و المروحيات ومكيفات الهواء ، وتجددت قنوات الصرف الصحي ،ورُصّفت أرضية زقاقات وعلقت مصابيح بالحيطان بعدما تم الاستغناء عن أعمدة النور الخشبية و الحديدية وأضفيت مسحة من المكيجة على طرقات الواجهة، و في المقابل طمست آثار معالم سيظل استحضار طمسها يفني الجسد كمدا ، و ردمت خطارات وآبار ظل المراكشيون لقرون يسقون من معينها . وتحول ما بقي من السقايات إلى أطلال تتحسر على أيام صيتها ، واجتزئت منها أجزاء تحولت لمآرب سياحية مثلما هو الحال بالنسبة لسقاية باب دكالة وسقاية المواسين وسقاية اشرب وشوف التي لم يعد فيها ما “يتشاف ” وأغلقت مدارس لا تزال حيطان فصولها تحيى بما فضل لها من دافق ذكريات أيام امجادها.حين كانت مناهج التعليم رغم بدائيتها نافعة ومجدية وغير مستوردة ومدراس صارت في خبر كان ،كمدارس :القنارية ،أكدال ابا احماد، دار السي السعيد وغيرها والحسنية والفضيلة (وهاتان الأخيرتان مدرستان حرتان)،وأخيرا وليس بآخر مدرسة سيدي بوتشيش ومدرسة يوسف بن تاشفين و مدرسة المتنبي … وفي حانب يجابي تغيرت أسماء مدارس أخرى كانت تسمياتها مرتبطة بما التصق بتلك المدارس سواء من حيث موقعها كمدرسة ” الحمير ” التي ارتبط اسمها هذا بالمكان الذي احدثت به بحي لموقف والذي كان عبارة عن اسطبل حمير فلصق اسم الاسطبل بالمدرسة عند العامة ومدرسة الخيرية (عرصة باني) التي ارتبط اسمها بتموقعها بدار الأطفال قبل فصلها عنها .أو بزينتها كمدرسة الكدور(سيدي جابر ) فارتباط اسم المدرسة بالقدور يعود لديكورات زين بها سور المدرسة وكانت تلك الديكورات عبارة عن قدور فغاب اسم المدرسة ولصق بها اسم ديكور سورها ونفس الشي بالنسبة لمدرسة الدروج بقاعة بناهيض (ابن يوسف) التي ارتبط اسمها هذا بالأدراج التي تفضي إليها ومدرسة سيدي بوتشيش(أبي صفرة) ومدارس أخرى سميت عند العامة بغير أسمائها فارتبطت أسماؤها عندهم باسم مديريها مدرسة الطرمباطي (يوسف بن تاشفين بعرصة المعاش التي اشير إلى إغلاقها ومدرسة ابن حمزة بجنان العافية … .
وأحيلت على تقاعد قسري صالات سينيمائية كانت بها للأقران لحظات رسخت في النفوس الألفة والتساكن وتقاسم سويعات الترفيه والفرجة الجماعية، صالات صارت بعد التطور الصارخ الذي عرفته الوسائل السمعية البصرية في الزمن الرقمي المتمرد حتى على القيم وبعد ما استظلت القرصنة تحت جناح الشرعنة ،وتناسلت القنوات الفضائية ،صارت تلك القاعات كلها بالمدينة باستثناء غزالة التي تحولت إلى قيسارية و واحدة من القاعات السبع التي كانت داخل السور هي التي لا زالت تقاوم ، في حين صارت الصالات الخمس الأخرى تسبح في الظلام و حيطانها التي يزحف بها التآكل إلى الانهيار تسترجع بحزن وتأسٍّ يضاعف حزننا وتاسينا رجع صدى صفيرنا الذي كان يصك الأسماع كلما انقطع شريط الفلم أو ظهرت على الشاشة خربشات تنذر بقطع لقطات “تبتيخة ” كما جاءت في قاموس المراكشيين .صالات كان ارتيادها يتطلب الكد طيلة الأسبوع من اجل جمع مابين 0,90 درهم و1,60 للظفر بتذكرة للاستمتاع بسويعات فرجة، كد كان يتطلب أيام عمل لدى خياط أو نجار أو سيكليس (ميكانيكي دراجات) أو بيع حلوى (الكوكو والباليفي ) …أو جمع سنتيمات تجود بها -مكافاة على سخرات- صرة الأم أو جيب الأب الذي ما كان يعرف سوى رنين القطع النقدية أما الورقة من فئة 5 دراهم فناذرا ما تشرف جيبه لذا فا “تبقشيشة” لاتتعدى 20 سنتيما في اليوم وفي أفضل الأحوال 50 سنتيما ..وطمس المسبح الوحيد الذي كان بحضن اسوار المدينة والذي كان وراء تألق سباحين مراكشيين وصار اطفال وشباب المدينة يلجأون لمسابح خارج الاسوار كلما تعاظمت بدواخلهم رغبة الاستمتاع بالسباحة