الترجمة قبل أن تكون نقل المعارف من لغة إلى أخرى، فهي فن يشمل الاختيار الذكي والدقيق والحاجة الثقافية، وهو ما يجيده خالد بن الصغير( كلية الآداب- جامعة محمد الخامس بالرباط) الذي أثرى المكتبة المغربية بتأليفات وترجمات أسهمت في مراكمة معرفة تاريخية وثقافية لها أهميتها في أسئلة الحاضر وقضاياه.
وقد اختار مؤلَّف ” القضاء المتعدد: اليهود والمسلمون في المغرب المعاصر” الصادر في لغته الإنجليزية سنة 2017 ضمن منشورات جامعة يال الأمريكية لمؤلفته جسيكا مارجلين، الأستاذة والباحثة في تاريخ الأديان والقانون والتاريخ المعاصر بأمريكا. كتاب يتحدث عن موضوع جديد “لم تسبق معالجته إلا بطرق عرضية في بعض الدراسات الكولونيالية، ويتعلق الأمر بالقضاء والعدالة في المغرب المعاصر؛ وذلك من زاوية العلاقات بين المغاربة واليهود وجيرانهم المسلمين منذ أواسط القرن التاسع عشر، إلى حدود الحقبة المعاصرة”.
ومما جاء على ظهر الغلاف عن مضمون هذا المؤلف أنه يستند إلى تجارب آل أصراف، العائلة المغربية اليهودية من مدينة فاس، مستكشفا كيفية إسهام القانون في نسج الروابط وتمتينها بين اليهود وجيرانهم المسلمين، ليفضي الأمر، في نهاية الأمر، إلى تقسيمهم في سنوات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كما تطلعنا فصول الكتاب على كيفية نجاح المغاربة اليهود في التنقل عبر حدود مختلف المؤسسات القضائية (المحاكم اليهودية والإسلامية والمخزنية والأوروبية)، المجددة لمقومات النظام القضائي المغربي التعددي، إلى أن أدت الإصلاحات الاستعمارية، فجأة، إلى تقليص حراكهم الفضائي المعهود لديهم في ما سبق من الزمن. وبدلا من التركيز علی أرشیف يخص نوعا واحدا من هذه المحاكم، اختارت مارجلين التعامل مع مؤسسات قضائية مختلفة استخدمها المغاربة اليهود، فاعتمدت، في دراستها، على وثائق ومستندات قضائية متنوعة محررة باللغات العبرية والعربية والأوروبية لم يسبق استغلالها. ولا تقتصر هذه الدراسة الرائدة على إتاحة إمكانية تعميق فهمنا للعلاقات المعاصرة بين الرعايا المغاربة اليهود والمسلمين، بل سعت أيضا إلى إحداث تغيير في الطريقة التي تفكر بها في التاريخ المغربي وفي طبيعة العلاقات بين المغاربة اليهود وجيرانهم المسلمين في العصر الحديث.
تقع ترجمة هذا المؤلف في 452 صفحة من الحجم الكبير (منشورات كلية الآداب الرباط – ط1 – 2021) وتتضمن بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، سبعة فصول بلغة تزاوج بين السرد الممتع والتأريخ الموثق استنادا إلى الوثائق والشهادات والاستنتاجات الدقيقة وباعتماد منهجية صارمة في الكتابة، وتضمن الكتاب أيضا تسع صفحات في البداية هي عبارة عن “شكر وامتنان” تشكل وثيقة ودرسا في البحث العلمي والأمانة مثلما تقتضيها أعراف الكتابة الرصينة. كما أن تجربة خالد بن الصغير في الترجمة مع مخزونه اللغوي وتجربته وموقعه العلمي، منحت الكتابة سلاسة في البناء واللغة وعمقا في الأفكار.
في ما يلي فقرة من بداية هذا الكتاب:
بعد ظهيرة يوم من أيام شهر يونيو انتظرت بفارع الصبر، في باريس، فرصة مقابلة المدعو يهودا أصرّاف. وحاولت جاهدة، وبمشقة بالغة، البحث عن ملامح خاصة بيهودي مغربي وسط حشود مصاحبة اجتاحت رصيف المارة الممتد خارج متاجر گاليري لافایت. وبعد ملاقاة بعضنا البعض، اقترح عليّ أصرّاف مواصلة المشي قليلا لبلوغ أقرب متجر يبيع هاگین داز الشهيرة. ومعروف عن المغاربة، شغفهم المفرط بتناولالأطعمة الحلوة المذاق.[…]
ويعتبر جليسي يهودا حفيدا لشالوم أصرّاف أحد تجار فاس اليهود، المولود سنة 1830، والمتوفى في عام 1910، وسبق لي أن قضيت عدة شهور أمعنت خلالها النظر في الوثائق والمستندات الشخصية الخاصة بشالوم أصراف المخزونة داخل غرفة الجلوس بإحدى الدور الموجودة في مدينة القدس، وتمكنت أيضا قبل هذا اللقاء من اقتفاء آثار آل أصرّاف بالتنقل في مجموعات الوثائق والمحفوظات المتوافرة في كل من نیویورک و نیوهافن وبروكسيل، غير أنني آملت الحصول من یهودا على تفاصيل إضافية تتعلق بأسرته، لم يسعفني في استنباطها العدد الكبير من الوثائق والمستندات التي أفلحت في جمعها، ولسوء حظي، عجز جليسي يهودا تماما، عن إفادتي بها تقت إليه من معلومات، إذ أقرّ بعدم معرفته لما قد يستحق ذكره من أخبار تخص عائلته[…] وإذا بیهودا يسألني إن كنت على بينة بالكيفية التي أصبح بها جده الأكبر شالوم في عداد الأغنياء، فأجبته بالنفي مستبشرة، ثم أصغيت لكلامه باهتمام بالغ.
كان شالوم أصرّاف، حسبما احتفظت به الذاكرة الأسرية، خرازا متواضعا يعيش مع والدته داخل الحي اليهودي بفاس. وعلى الرغم من فقره، فقد تحلى بالورع والسخاء، إذ حرص دوما، على إطعام إخوانه في الدين ممن هم أكثر فاقة منه كل أيام السبت. وذات يوم، أقبل أحد المسلمين على شالوم في دكانه، وبدلا من أن يطلب منه ترمیم بلغته، التمس استئمانه على قُلّة طينية كبيرة عادة ما تستعمل أمثالها لحفظ الزيتون ومعالجته. ومن فرط أدبه الشديد، تحاشی شالوم طرح أي أسئلة عن تلک الوديعة، فوافق فورا على طلب صاحبها، فوضع القُلة في قبو منزله حيث بقيت هناك لعدة شهور دون أن يتجدد السؤال عنها من قبل مالكها المسلم. ومع اقتراب حلول أيام عيد الفصح، بادرت والدة شالوم إلى تذكير ابنها بالقُلة العجيبة. ومن باب الاحتياط، وخشية من احتوائها على خميرة ما، أو على غيرها من أنواع الطعام المحظور تناوله أيام عيد الفصح، قررت الأم وولدها فتح القلة لمعرفة ما بداخلها، فاندهشا كثيرا حين وجداها مليئة بنقود ذهبية (اللويز بالتعبير المغربي الدارج) تُعادل قيمتها ثروة صغيرة. غير أن شالوم الرجل الأمين، واليهودي الورع، تعفف عن حيازة تلك الأموال بطريقة غير شرعية. وبعد التفكير مليا، قرر عرض نازلته على أنظار بيت الدين، باعتباره المحكمة المالكة لاختصاصات تطبيق الأحكام والشرائع اليهودية، برئاسة أكبر حاخامات فاس وأكثرها احتراما لدى أعضاء الطائفة. وفي إثر تلک الاستشارة، أفتي قضاة بيت الدين بحق شالوم الكامل في الاحتفاظ بالمال المذكور، وكان التفسير الوحيد والمعقول لتبريرهم حظ شالوم السعيد لحيازة تلک الثروة، هو اعتبارهم بأن الرجل المسلم حامل القلة، لم يكن في واقع الأمر سوی شخص متنكر في صورة النبي إلياس. وخلص الحاخامات في بيت الدين إلى أن النبي إلياس ترک وراءه القلة المليئة بالنقود الذهبية مكافاة لشالوم على تقواه وعمله الإحساني، وتبعا لذلك، أجازوا حق امتلاک شالوم، بضمير مرتاح، لذلک المال. ويبدوأن تلك القلة المليئة بالذهب، مكنت شالوم من انطلاقة جيدة في تدبير أعماله باعتباره تاجرا ناجحا، أما صاحبها المسلم، أو بالأحرى النبي إلياس،حسب الأسطورة العائلية، فقد انقطع خبره، ولم يُسمع عنه خبر أبدا منذ ذلك الحين”(ص.ص: 21-23).
(مختبر السرديات- الدار البيضاء)