الصفحة الرئيسيةعامةمراكش الذاكرة

صدمة الحداثة .. طلبة الجامعة اليوسفية في دار البارود بمراكش

بقلم فضيلة الأستاذ محمد الطوكي (خاص بالمراكشية – أرشيف 2010) 

خرجنا من مسجد الكتبية واتجهنا نحو دار البارود التي تقع على بعد خطوات منه وبمجرد ما وقفنا ببابها تهلل وجه سيدي عبد الكبير وتلا ” إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ” بالأمس القريب إبان الاستعمار الغاشم لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من مدخل الثكنة العسكرية المواجهة للمدينة، تقف في وجهها مامعة متسلطة حائلة بينها وبين فيلات الأوروبيين خارج السور. لكن قبل هذا العهد بناها سيدي محمد بن عبد الله ودعيت بدار البارود والمقصود بالدار هنا المصنع على غرار دار السلاح أي مصنع السلاح ودار السكة .

فدار البارود مندرجة في قضايا الصناعات الحربية في عهد السلطان المذكور وهي رمز القوة والتحدي تذكر بما وصلته الدولة العلوية في عهد السلطان من مناعة ومهابة. وفتح المصدر وقرأ:” فنال المولى عبد السلام نجل سيدي محمد بن عبد الله في كتابه درة السلوك في مآثر أبيه.ولما استلم سيدي محمد بن عبد الله زمام الملك كان من بين ما تشوقت إليه همته الكبرى إحياء أسطول أبيه المولى عبد الله وجده المولى إسماعيل لأنه ألفاه أضمحل وتنوسي ما كان له الشهرة والنفوذ وتعطل ما كان يستفاد منه من المداخيل والمحاصيل……

وقد انضم لذلك التشوف الملوكي إرشاد بعض علماء عصره بمسطور كبير ومنشور شهير يحثه فيه على إحياء سبيل المتعة وإعداد معداتها البحرية التي لا يستقيم تلك إلا بها وأن يسلك في ذلك سبيل والده المقدس وجده الأكبر فيما كان لهما من هذا العمل العظيم العائد بالنفع العميم من حراسة الوطن وعمارة بيت المال وقهر الأعداء الألداء”

أغلق الفقيه المصدر وقال من خلال ما شاهدنا وسمعنا استنتجتم أن عهد سيدي محمد بن عبد الله كان عهد يمن نعم من خلاله ساكنة المغرب في المدن والسهول والجبال والصحاري بالأمن والسلام وخلاله انصرف الجميع للبناء والعمل بعد اضطرابات أتت على النسل والحرث. لقد حصد المغاربة في زمانه نتائج مجهوداتهم البناءة ورمموا آثار الدمار والخراب وقد استفادت مراكش من الحب والعطف اللذين كان سيدي محمد بن عبد الله يكنهما لها. ثم حذق سيدي عبد الكبير في تلميذه لعله كان يشم فيه ملامح الوصول إلى مركز ما وقال من خلاله إلى أمثاله ولنا جميعا: بمثل هذا التعلق والتفاني ونكران الذات نريد منكم أن تفتحوا قلوبكم لخدمة مدينتكم ووطنكم عامة ولا أرغب مطلقا أن أرى من بينكم من يخون ويكذب. ومن تكون همته فيما يدخل في بطنه سيكون شخصية نذلة… وسكت عن الكلام وغابت صورته من الذاكرة التي أفرغت حمولتها عن الموضوع في علاقته بالزمن والمكان. فاستفقت من شرودي على همز بواب المؤسسة الجديدة الذي صاح بي أدخل بسرعة ليس هناك ما يخشى منه. لقد ولى زمان لاليجو وساليكان

صدمة الحضارة والبحث عن التكيف مع الحداثة

دخلنا من الباب الشرقي المهيب للثكنة العسكرية سابقا، المؤسسة العلمية والتربوية الجديدة. عنابر نوم الجنود ومخازن الأسلحة والذخيرة المستطيلة الممتدة انقلبت أقساما ملأت أرضيتها صفوف من الطاولات يتصدرها مكتب وكرسي سمرت خلفهما سبورة سوداء. رائحة الصباغة والخشب تشيان بحداثة الترميم وطرافة التجهيز.

في البدء جلسنا اثنين في الطاولة لكن ثلث الحلقة العلمية التي ننتمي إليها ظلوا وقوفا. لقد استعصى على الشكل المستطيل للأقسام رغم طوله استيعاب الحلقة نصف الدائرية للمسجد فكان لا بد من أن ينوء كل مقعد بثقل ثلاثة طلبة وأن يعاني كل جالس من مضايقة الخشب ومزاحمة الأجسام

ولم تكن علاقة الأساتذة بأشيائهم بأحسن حال من وضعية الطلبة بطاولاتهم، فجلوسهم على كرسي وأمام مكتب في مستوى واحد مع الطاولات يجعلهم لا يتجاوبون ولا يراقبون سوى الطلبة الأماميين أما بقية الصفوف فتمتد داخل دهليز عميق أشبه ما يكون بقبو منه بقسم، فكانت منفلتة من قبضتهم ولهذا اجتهد كل أستاذ في أسلوب السيطرة على هذا الفضاء، فاقتضى نظر أستاذ الفقه والتفسير إسناد المكتب إلى الحائط ووضع اللبدة عليه وخلع نعليه والجلوس عليه جلسته على المنبر موليا ظهره إلى السبورة مفتتحا درسه بالحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مختتما نصابه بالدعاء وارتفاع ذوينا بآمين، وفئة أخرى من الأساتذة كانت تترك المكتب وراءها وتلقي درسها حتى إذا أعياها الوقوف جلست عليه، وثالثة مرنة كان لها عهد بالدراسة أو التدريس بالمدارس الحرة وندرج ضمنها أعضاء البعثة التعليمية العربية، فهؤلاء وأولئك تعاملوا مع القاعة تعامل الممثل مع الخشبة فتراهم في حصصهم مراوحين بين المشي أماما أو بين الصفوف حاتين الخطى أحيانا إن ابتعدوا عن السبورة لكتابة عنوان أو تسجيل فكرة رئيسية أو ثانوية مشيرين إلى هذا أو ذاك لاختبار مدى استيعاب الحضور لما يلقى عليهم أو عدم فهمهم له

ولم يرتح لهذا الوضع الجديد كل الارتياح سوى أساتذة الفرنسية الشباب الذين كانوا في حيرة من أمرهم أيام كانوا في المساجد ببذلتهم الأنيقة وربطة العنق وقوفا على الحصير بلا أحدية محاصرين بين المنبر والحلقة الطلابية

فلما تكيف الجميع أساتذة وطلبة وإداريين مع فضاء المؤسسة الجديدة وأخذت الدراسة سيرها العادي أتت مناسبة التدشين فدعينا إلى الساحة الأمامية للإدارة للاستماع إلى الكلمة البليغة التي ألقاها وزير التاج آنذاك المرحوم المختار السوسي والتي نسجها حول الثنائية الضدية لوظيفة المكان ـ دار البارود ـ بين الأمس و اليوم، بين الأداة القمعية التي سلطت على ساكنة مراكش ردحا من الزمان وما آل إليه الأمر حيث أصبحت مؤسسة قائمة على نشر العلم وتبديد ظلمات الجهل والمساهمة في نهضة البلاد.

كان المرحوم الرئيس الرحالي الفاروقي إلى جانب الوزير وأعضاء المجلس العلمي خلفهما وهم الأساتذة المشمولون بعفو الله: الهاشمي بنميرة، والمهدي حاتم، وعبد الوهاب الصحراوي، وعبد السلام المسفيوي، والحسن الزهراوي الذي كان يشغل آنذاك خليفة الرئيس والذي كان يهز رأسه إشارة لحسن الاستماع حيث كانت تعلو وجهه سمرة مشوبة بالصفرة يحمل مظهره وملامحه ذاكرة زاخرة بما كابد جيله وعاني في سبيل المجد العلمي الذي انتهى إليه.

arArabic