عبد الوهاب بن منصور
ما ألف عن مراكش : خططها ومآثرها ، وأنساب . شرفائها وعوامها ، وتراجم صلحائها وأعيانها ، وعادات أهلها وأعراف مجتمعها لا يعدو بضعة كتب أكثرها مفقود أو ناقص غير تام
وأحسب أن المغاربة لكثرة ما اهتموا بالعلوم الدينية والفنون اللغوية صاروا لا يأبهون بما عداها من العلوم والفنون ويستخفون بمتعاطيها من مؤلفين وقراء ويجهدون أنفسهم في إبلاء جديدها وتمزيق أديمها والتخلص منها بطريقة من الطرف ، والا فيم نعلل كثرة ما ألفوا في الفقه والتوحيد والتفسير والحديث والنحو والصرف وما إليها، وقلة ما ألفوا في التاريخ والسياسة ودونوا فى الأدب والفلسفة وكتبوا فى الرياضيات والطبيعيات ؟ وكيف نفسر بقاء الكتب الأولى على الأيام وصمودها أمام العواصف والأعاصير رغم تفاهة بعضها وخلوه من أي فائدة أو جدوى ترجى دنيا أو أخرى واندراس معالم الثانية واختفاءها رغم ما فيها من إمتاع للنفوس وتنشيط للأبدان ورياضة للعقول ؟
ومن المزري المُبكي أن تخلد أراجيز فى الفرائض وتأويل الأحلام ولا يبقى أثر ولا عين لدواوين فحول الشعراء من أمثال الجراوي وابن حبوس وابن خبازة ومالك ابن المرحل ، وأن يقع التعريف بالمشعوذين والممخرقين ويخص بالتأليف المجاذيب والمجانين وتبنى على قبورهم الأضرحة وتشد إليهم الرحال وتحبس الأوقاف وتقام المواسم ويهمل إهمالا شنيعاً ملوك عظام ووزراء محنكون وقادة شجعان وأدباء مجيدون وعلماء ممتازون وساسة مبرزون أسدوا لشعوبهم وأوطانهم وللمجتمع الانساني خيراً كثيراً
أين تاريخ الأدارسة لابن الودون ؟ وأين تاريخ فاس لابن جنون ؟ وأين تاريخ المرابطين لابن الصيرفى ؟ وأين تاريخ فاس لابن الوراق ؟ وأين تواريخ سجلماسة والبصرة ونكور للرقيق، وأين المقباس لابن حماده ؟ وأين المستفاد لابن الكتاني ؟ وأين نظم الجمان لابن القطان ؟ وأين المن بالامامة لابن صاحب الصلاة ؟ وأين ذيل الصلة لابن فرتون ؟ وأين البستان لابن أبي زرع ؟ وأين الاشادة للعزفي ؟ وأين الفنون الستة للقاضي عياض ؟ وأين الكواكب الوقادة للحضر مى ؟ بل من هو ابن الودون وابن جنون ؟ ومن هو ابن غالب والوراق ؟ ومن هو البرنسى وابن حماده وابن صاحب الصلاة وابن القطان؟ ومن هو عبد الواحد المراكشي والحضرمي والبيذق وابن أبي زرع ؟ من كان يعرف عنهم غير الاشارات العابرة والفروض والاحتمالات فليخبرنی !
… وهذه مراكش حاضرة المغرب الثانية وعاصمة ثلاث من دوله الكبرى … المدينة التي كانت خلال قرون ملء الأسماع والأبصار ، والقبلة التي تتجه اليها الأفكار والأنظار ، والمركز الذى تصدر منه الأوامر فتنفذ بحدود مصر وقلب إسبانيا وعلى ضفاف نهري النجير والسنيغال ، هذه البلدة المجيدة التي جبيت الى بيوت مالها الأموال ، وسطعت في أفقها شمس الخلافة ، وأمها التجار بأنفس البضائع وأثمن السلع ، وقصدها الفلاسفة والأطباء والأدباء والعلماء للعمل في قصورها ودواوينها والتعليم في مدارسها و معاهدها والاكتساب من أموالها وأرزاقها هذه البلدة الطيبة التي أدركت كل هذا المجد ، وجمعت جميع هذا الفضل والفخر ، شاهد صدق وبرهان حق على ما نقول : فقد قلت العناية بها قديماً وحديثا من أهلها والطارئين عليها ، ولم تخص كعاصمة بالتأليف الوفير والتصنيف الكثير كما خصت العواصم غيرها والحواضر سواها ، حتى ليكاد ما ألف عنها يساوى أو يقل عما ألف عن مدن متوسطة أو قرى صغيرة تقل أهميتها عن أهمية مراكش بكثير .
فباستقراء كتب التاريخ والأنساب، واستقصاء ما كتب في الوصف والتراجم والطبقات نجد أن ما ألف عن مراكش : خططها ومآثرها ، وأنساب . شرفائها وعوامها ، وتراجم صلحائها وأعيانها ، وعادات أهلها وأعراف مجتمعها لا يعدو بضعة كتب أكثرها مفقود أو ناقص غير تام (1)
I مثل تاريخ من قدم مراكش من العلماء لأحمد بن محمد ابن بيرة ( الذيل والتكملة 467 ع 700 ) ، ودرر الحجال ، في مناقب سبعة رجال لمحمد الصغير بن محمد اليفرني المتوفى سنة 1150 وهو كتاب لا تعرف منه الا مقدمته ، والكواكب السيارة ، في البحث والحث على الزيارة تأليف المكي بن مريدة المراكشي ، لم يكمل ، وليس فيه جميع أعيانها ولا من دخلها من غيرهم ، والارتجال ، في مناقب ومشاهد سبعة رجال ، ومن اشتهر في مراكش أو دخلها من مشاهير صلحاء الرجال ، لمحمد الأمين بن عبد الله الصحراوى المراكشي المتوفى سنة 1296 و تاريخ مراكش لمحمد بن أحمد الكنسوس ؛ والتعريف بالحضرة المراكشية للحاج الحسن الغسال .
ولا يدخل بالطبع في هذا التعميم ما ألف عن سير الدول والملوك (2)
(2) مثل الأنوار الجليلة ليحيى ابن الصيرفي ، وتاريخ دولة الموحدين لعبد الرحمان السهيلي ، وتاريخ المرابطين والموحدين لأبي عبيدة المراكشي ، وتاريخ الموحدين ليوسف بن عمر الاشبيلي ، وتاريخ دولة عبد المومن وحزبه لأحمد بن محمد الفهرى الاشبيلي ، وتاريخ المغرب ومن تولاه من اتباع ابن تومرت لعلى بن يوسف القفطى ؛ وتاريخ الموحدين لابن سميرة . ) الذيل والتكملة 1 : 390 ) .
فالكتب التي اعتنت بهذا الموضوع ليست خاصة بمراكش ، بل هي شاملة لها ولغيرها ، على أيضاً أخني عليها ما أخني على سواها ، إذ جلها مفقود أو لا تعرف منه إلا نبذ (3) ، ولم يسلم منها من التلف إلا مؤلف واحد (4) حفظه الزمان وان كان عفى على اسم من ألفه
وقد تفطن فى بداية هذا القرن لهذا الاهمال الفظيع ، والتفريط الشنيع ابن من أبناء مراكش الغير وجهبذ من علمائها المعتنين ، هو القاضي المرحوم السيد العباس ابن ابراهيم السملالي، فهب لسد هذه الثكلمة وأوقف عمره لملىء هذا الفراغ بتأليف كتاب حافل جامع يعرف فيه بمراكش وشقيقتها أغمات ، ويذكر أخبار من درج بها من الملوك والوزراء ، والقادة والعلماء والصلحاء ، والفلاسفه والأدباء والأطباء ، ويسجل نبذاً من نثارهم ، ومقطعات من نظامهم ، ويثبت نماذج من نظرياتهم ومناظراتهم
من مقدمة كتاب الإخبار بمن حل بمراكش وأغمات من الاعلام