من أرشيف المراكشية : ألبير بن سوسان / ترجمة عبد المنعم الشنتوف
يتقدم هذا النص الذي نقدم ترجمته العربية باعتباره اقترابا من بعض تمثيلات الصراع والاختلاف بين فيديريكو غارسيا لوركا وصديقيه ورفيقيه في إقامة الطلاب بمدريد سلفادور دالي ولويس بونويل. ويجلي الكاتب الحضور القوي للتعاطي العنصري لسلفادور دالي ولويس بونويل حيال فيديريكو غارسيا لوركا باعتبار أصوله الأندلسية من خلال التبئير على التأويل السلبي الذي احتفظ به شاعر غرناطة لفيلم ‘كلب أندلسي’ الذي أنجزه دالي وبونويل وعرض لأول مرة في باريس عام 1929.
بموازاة هاته التفاصيل التي ترتبط بتاريخ الحضور العربي في إسبانيا وتبعاته الرمزية والثقافية الثقيلة، يحيلنا هذا النص إلى بعض السمات المميزة للرؤيا الموجهة لتجربة الكتابة الإبداعية عند لوركا في شقيها الشعري والمسرحي، وخصوصا فيما له تعلق بالإيروس والثاناتوس أو غريزتي الحياة والموت وتمثيلاتهما. ولا ننسى أيضا تلكم الإشارة إلى اهتمام لوركا بالكتابة السينمائية؛ وهو ما تمثل في السيناريو الذي كتبه لفيلم ‘رحلة إلى القمر’ويبقى هذا النص الاستثنائي من حيث وفرة تفاصيله التاريخية والسيرية وإيحاءاته الجمالية إسهاما آخر في تسليط الضوء على أبعاد مجهولة في سيرة ومنجز الشاعر الغرناطي القتيل.
النص:
كان من المألوف في إقامة الطلاب بمدريد، وشأن كل الأوساط الجامعية وداخل الدوائر المغلقة، تنميط الآخر والزج به داخل علب مغلقة، والسخرية والهزء بهذا الأصل أو ذاك وتسقط العيوب والنقائص والمباذل عند الذي لم يولد في عين المكان، أي الغريب بشكل من الأشكال. تتوفر اللغة الإسبانية على لفظتين للدلالة على الأجنبي وهما إسترانخيرو وفوراسطيرو.. تدل كلمة إسترانخيرو بشكل حرفي على الغريب؛ أي الشخص الذي ولد في بلاد أخرى والذي يحمل جنسية أخرى. أما فوراسطيرو فتعني ذاك الذي لا ينتمي إلى الأصل الخالص، أي المدينة أو القرية والمنطقة. كان لوركا أثناء إقامته في مدريد محسوبا،إذن، على الفوراسطيرو، والأدهى من ذلك أنه كان أندلسيا. والحال أننا نتساءل: ما الذي يعنيه الأندلسي بالنسبة إلى القشتالي؟ يلزمنا أن نصوغ السؤال بدقة أكثر كي نحدد طبيعة المرحلة : ما الذي كان يعنيه الأندلسي في زمن لوركا؟
قام بونويل ودالي بتاريخ 6 يونيو عام 1929 بعرض فيلمهما السريالي الموسوم ‘كلب أندلسي’ في قاعة استوديو لي أورسولين في باريس في سياق سهرة خاصة حضرتها مجموعة من الوجوه الفنية من قبيل بيكاسو وكوكتو وجورج أوريك ولوكوربوسيي وأندريه بروتون وحواريوه. كان اسم الفيلم قد أثار حيرة العديد وتم تصنيفه بسرعة في خانة غرابات سلفادور دالي والافتقار السريالي إلى المعنى. يراودنا الانطباع يقينا حين نشاهد الفيلم بأننا حيال مقاطع حالمة تمتح من الهلوسة وغير متجانسة ويمكننا أن نقول بأن للأمر تعلقا بمخزون من الصور ولا شيء غير ذلك، وأن المسألة عبارة عن تمرين أسلوبي خاص وموجه لإثارة واستفزاز البورجوازية كما كان يقال ويشاع حينها.
بيد أن لوركا لم يسمح للوهم بأن يخاتله. ولئن لم تتح له الفرصة لمشاهدة الفيلم حين عرضه في باريس، فإنه قرأ بكل تأكيد السيناريو أثناء وجوده في نيويورك ورآه ربما في السنة الموالية. كان يشعر بأن الإيحاء موجه إليه بشكل مباشر، وأنه كان في نظر رفاقه القدامى في مدريد ‘كلبا أندلسيا’. وقد أحس فيديريكو من جراء ذلك بجرح غائر؛ لأنه كان على علم بما يختزنه هذا التعبير من دلالات. يلزمنا كي نحيط بالحمولة الحقيقية أن نحفر بعمق في اللاوعي الجمعي لإسبانيا ونستدعي الأساس الذي قام عليه الكيان الإسباني أقصد إعادة الاكتشاف أو امتلاك إسبانيا المسيحية مقابل إسبانيا الأخرى، أي إسبانيا المسلمة التي وجدت على امتداد سبعة قرون، أي منذ 711 إلى 1492 التي تؤرخ لسقوط غرناطة ونهاية حكم أسرة أبي عبد الله.
كانت إعادة الاكتشاف أو الامتلاك هاته التي بدأت منذ هجمات القرن الثامن بواسطة المقاومة الإسبانية في جبال أستورياس طويلة ومثمرة، وكانت تتوقف غالبا وبشكل دوري بفترات هدنة وتعايش. جدير بنا الإشارة إلى تاريخ رئيس في عملية الاسترجاع هاته وتتمثل في معركة لاس نافا دي طولوسا عام 1212 التي شهدت اندحار وانسحاب القوات الموحدية المغربية نهائيا من منطقة قشتالة كي لا تحتل غير الجنوب المختزل أساسا في الأندلس. المكان الجبلي الذي طرد منه العرب نهائيا من قشتالة- وهو جرف رمزي يستحيل اختراقه والذي سوف يضع لاحقا في زمن جوزيف بونابرت القوات الإمبراطورية الفرنسية في وضعية صعبة- أطلق عليه اسم جرف الكلاب. ذلك أنه سوف يتم القذف من أعلى سلسلة جبال مورينا صوب الجنوب بغير المسيحي أي العربي المسلم أو الكلب. وسوف تتحول مملكة غرناطة والحالة هاته إلى الحصن الأخير الذي يحتمي داخله العرب المسلمون.
يمكننا أن نفترض في هذا السياق أنه بالنسبة لأهل مدريد الذين درجوا على السخرية من الأندلسيين الوافدين على مدريد من أجل الدراسة بوصفهم بالكلاب الأندلسية، فإن الأندلس ظلت بالنسبة لهم الأندلس العربية وسكانها أولئك الذين نعتهم القشتاليون قبل قرون بالكلاب. وإجمالا، فأن تقول للوركا إنك كلب أندلسي معناه معاملته إذا نحن استعملنا تعبيرا عنصريا معاصرا- على أساس كونه بونيول. بلى. كان للأمر تعلق بسلوك عنصري محض. وبالنسبة إلى بونويل الأراغوني ودالي الكطلاني، وحتى إن لم يكن للأمر تعلق بغير الدعابة والضحك، فإن الشاعر الأندلسي لم يكن إلا كلبا، أي ذميا محميا وغريبا يشيرون إليه بالبنان. وكان صحيحا أن لوركا قد شعر إذن بأنه كان عرضة للإقصاء والعزل والطرد والخيانة؛ وهو ما تجليه مراسلاته في تلك الفترة حين كانت تصله أصداء الفيلم الذي تم عرضه في باريس. بيد أن الأكثر إثارة للصدمة فيما يتعلق بسلفادور دالي أن رسام كاداكيس كان يزعم اتصال أسبابه بالموريسكيين، وكان يعتقد بأن لقبه العائلي كما رأينا في فصل سابق من المفروض أن يبدأ بـ ‘علي’ وبتشديد عربي في سياق شجرة سلالته.
كان من المفروض أن تصدر الشتيمة التي خص بها لوركا عن بونويل الذي كانت مثلية لوركا الجنسية تثير حفيظته والذي بذل قصارى جهده كي يثير الشقاق بينه وبين ودالي؛ وذلك بتحريضه هذا الأخير على اللحاق به في باريس. يكفي إن خامرنا الشك والحالة هاته أن نرصد في رسالة بونويل إلى دالي بتاريخ 24 يونيو هذا المقطع الذي يشير إلى رحلة لوركا إلى أمريكا: ‘ لم يمر فيديريكو ابن العاهرة من هنا، لكنني أحطت علما بمغامراته اللوطية الجديدة’. ابن العاهرة والكلب الأندلسي؛ وهو ما يضعنا وجها لوجه حيال سجل تعبيري ينضح بالمقت والاحتقار. وكان بونويل لا يدخر جهدا في تدمير لوركا والحط من شأنه في حضرة دالي.
علينا أن نلقي نظرة على الصورة الفوتوغرافية لشاطئ كاداكيس والتي تمثل سلفادور ولويس. ولا يمكننا والحالة هاته أن نخطئ الانطباع القاضي بأنهما كانا يشكلان زوجا.. بونويل الجالس في الخلف وقد لاحت عضلات جسده ومخبره الإيجابي والمقتحم والظافر الذي ميزه طيلة مرحلة الشباب، وقد احتضن الذراعين العاريتين والنحيفتين لدالي الجالس أمامه بجسد مطوي بعض الشيء ونظرة غائمة وشاردة في البعيد. وكان لسان حاله يقول: إنه ملك لي.
لا يبقى أمامنا الآن إلا أن نهتم بعض الشيء بهذا الفيلم الذي حقق نجاحا مدويا والذي كان يرشح بدلالة الفضيحة المستمرة: كلب أندلسي. علينا أن نزور متحف الملكة صوفيا في مدريد والذي خصصت داخله قاعة لبونويل، يتم فيها العرض الدائم لفيلمي ‘الكلب الأندلسي و’العصر الذهبي’. ويعتبر هذان الفيلمان محصلة التعاون الخصب والعابر بين لويس وسلفادور، ولا يسعنا أن نخطئ الغياب الفادح للجمهور. يمكننا أن نبقى ساعتين جلوسا فوق مقعد وعيوننا مثبتة على الشاشة ثم نحيط علما بأنه ليس وسط الجمهور إلا من يبادر إلى رفع الستارة ويكتفي بمشاهدة بعض الصور ثم ما يلبث أن يرخي الستارة ويواصل زيارته في أروقة المتحف. ليس ثمة من زائر يتوقف لمشاهدة الفيلم ولا وجود لأي شخص يفتتن بهذا الفيلم الأيقونة الذي استطاع في مساحة زمنية لا تتجاوز سبع عشر دقيقة أن يفجر نسقا جماليا بكامله.
تعتبرا لصورة الأولى حابلة بالرموز. يصور مخرج الفيلم نفسه في الشرفة وهو آخذ في شحذ شفرته وتقليم أظافره، لكنه حين يرفع عينيه صوب السماء، ويرى القمر في تمامه وغيمة منسلة بشكل أفقي تقترب منه، يباغت بانبعاث وجه فتاة صغيرة فيما أصابع لويس بونويل تشرع إحدى عينيها، ثم يتقدم بشفرة، وتحجب الغيمة القمر. تقطع الشفرة العين التي يندلق سائلها الزجاجي. يلمس النقد السينمائي في هذا المشهد الصورة الأولى للدم في تاريخ السينما. ولن تكون هذه الصورة بالأخيرة؛لأن الفيلم يغص بتنويع من الحالات المزاجية المتعلقة بالدم والعفونة. بيد أن المهم في هذا الفيلم يتمثل في أن بونويل هو الذي نراه بقامته الفارعة والمتينة والمدمجة التي كان يتوفر عليها وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وما يميزه تلكم النظرة المحجوبة بدخان سيجارته المدسوسة بين شفتيه.
يقول لنا المخرج السينمائي إنه يضطلع في هذا الفيلم بدور الشاعر الذي يصنع الصورة ويخلق ويفجر جمالية جديدة متأسسة على الاستئصال أي ذلك الذي يحض على النظر والرؤية بطريقة مختلفة والذي يغير كل رؤية للعين. وفي السنة الفارطة، أوضح جورج باطاي في ‘تاريخ العين’ شخصية مراهقة ذات أخلاق منحرفة تنتزع عين راهب تمت التضحية به كي تدسها في عضوها التناسلي، والتي كانت تتملى من خلالها السارد/ المؤلف. يتعلق الأمر بجمالية جديدة في طور التخلق. واسمها السريالية. بيد أن بونويل وليس بروتون هو الذي يعتبر الصانع الأولي. ذلك أن بونويل يدمر في هذا الفيلم، الجمالية القديمة والأفكار الموروثة والجاهزة؛ وهو ما كان الثلاثي لوركا وبونويل ودالي يطلقون عليه في سياق لغتهم الخاصة الإنتان.
يبسط الفيلم إذن تنافرا مضاعفا. لوحات تؤشر على زمن الحكاية: ثمان سنوات لاحقا، قبل ستة عشر عاما، حوالي الساعة الثالثة، في فصل الربيع. غير أن هاته الإشارات لا تمارس أي تأثير على الشخصيات ولا تحتفظ بأية صلة بالديكور. يتعلق الأمر بلوحات مقحمة بشكل اعتباطي بين الفقرات. ويشير المؤلفان من خلال ذلك إلى حقيقة أنهما يسخران من الزمن؛ بحكم أنه مفهوم لا وجود له. هل سوف يتذكر لوركا ذلك أم تراه سوف ينضم إلى هاته الموجة الجمالية حين كتابة مسرحيته الكبيرة عن الزمن الذي يعبر فيما نبقى في وضع الجمود: حين تنصرم خمس سنوات؟ لا شك في ذلك، لكن بطريقة مختلفة كليا. أما فيما يتعلق بالفضاء، فيظل متقطعا. نفتح باب شقة باريسية ونلفي أقدامنا منقوعة في الماء على ضفة شاطئ نورماندي. سوف ينضم كل من بونويل ودالي إلى دادائية الرسام البلجيكي روني ماغريت اللذين كانا يعرفانه ويمحضانه الإعجاب والتقدير. وسوف يمضي ماغريت بالفعل جزءا من صيف عام 1929 على شاطئ كاداكيس في ضيافة دالي وبصحبة إيلوار وغالا التي سوف تهجره كي ترتبط بشاب كاطالاني وسيم.
سال حبر كثير في خصوص رمزية صور دالي في الفيلم. وكان ثمة في الحقيقة بعض الشطط واللغو؛ ذلك أن بونويل كثيرا ما كان يغرق في الضحك وهو يقرأ بعض المقالات التي تتناول فيلمه بالتحليل وخصوصا تلك التي تمتح من علم النفس. ومن فرط اللهاث خلف شرح وتفسير وفهم كل شيء، فإننا ننتهي بأن نخطئ الحمولة الحقيقية للفيلم الذي لم يكن يشتمل على غاية أخرى غير خلق موجات صادمة من خلال الصورة في عقل المتفرج الذي ينبغي لاستيهاماته من خلال الفيلم أن تتاخم الوعي وتتيح في التزام تام بأكثر الأشكال الأرسطية قدامة فعل التطهير؛ أي إيقاظ الوحوش السابتة وتطهير الرغبات.
كم عمدنا إلى تأويل ربطة العنق ذات الخطوط التي خلفها الرجل الميت في علبته العامرة بالمفاجآت؟ ونعرف في الحقيقة، بأن زوجة بونويل قد ذهبت خصيصا لشراء ربطة العنق هاته مباشرة قبل البدء في تصوير الفيلم، ولأن زوجها كان راغبا في ربطة العنق هاته، فإنها قامت باختيارها بنفسها ودون أن يحبل رسمها بأية دلالة. والأهم من حيث الدلالة دون شك يتمثل في صورة الرجل الراغب في الوصول إلى المرأة والذي كان يداعب نهديها ومؤخرتها بكثير من الفحش والبذاءة. ويبدو من الملائم أن نتحدث في هذا المعرض عن لعب وليس مداعبة. وسرعان ما سوف يلفي الرجل نفسه مغلولا إلى حبلين يجران راهبين يرتديان المسوح الكنسي ويعتمران الكيبي – سوف يضطلع دالي ذاته بدور اليسوعي اليميني- ويكونان بدورهما مغلولين فوق الأرض إلى جهازي بيانو فوقهما بقايا جثتي حمارين تغصان بالعفونة. أن تتبع رغبتك معناه أن تصطدم بعقبات كأداء ومستحيلة، كما يعني أيضا أن تجر خلفك أفكارا شريرة وعفنة.
ثمة صورة أخرى للرغبة في الفيلم تتمثل في تلكم اليد المغمورة بالنمل التي كان الرجل يبرزها للمرأة التي كانت نظرتها تشتعل. ويوازي ذلك مشهد الشعر الذي يستوي وجوده تحت ذراع المرأة على الشاطئ أو اختفاؤه أو انتقاله إلى الفم وخفية عن العشيق. الإيروسية موجودة بشكل ملح، ولكن في صيغة استيهام؛ بحكم أن اليدين اللتين تدعكان وتعبثان بالنهدين والمؤخرة تلتصقان في البداية بفستان المرأة التي تعمد بفعل مؤثر سينمائي إلى التمويه كي تبرز جسدها العاري بشكل خاطف. وثمة في النهاية صورة الأندروجين في غمرة الفيلم. كان واقفا في جمود حيال قبالة يد مبتورة وتقطر دما ومطروحة فوق الإسفلت، وهو يسعى بمساعدة عود إلى لمسها إلى أن يأتي عون شرطة ويمسك بها ويضعها داخل هذه العلبة الصغيرة التي تحضر من البداية إلى النهاية في الفيلم.
كانت العلبة محمولة في البداية من لدن الرجل صاحب الدراجة الذي كان يضغط على الدواستين ويرتدي لباسا ذا أجنحة جعلته شبيها من الخلف براهبة تعتمر قبعة بجناحين، ثم في المنزل حيث استلت منها المرأة ربطة العنق المخططة. يتعلق الأمر بعلبة باندور حقيقية تشتمل على رغبات واستيهامات. وهي العلبة ذاتها التي سوف نعثر عليها بعد سنوات من ذلك في فيلم ‘جميلة النهار’ حيث يذهب الياباني إلى المنزل الذي حدد فيه الموعد ويفتح العلبة السحرية في حضرة كاترين دونوف التي كانت الوحيدة التي أتيحت لها الرؤية والانتشاء. ما الذي تحتويه هذه الغرفة التي تتقد بتأثيرها عينا المرأة؟ لا أحد يعرف. وهنا يكمن أساس وكنه فن بونويل والذي يتمثل في دغدغة فضولنا وكي يتركنا في النهاية على جوعنا.
سوف يتم الاضطلاع بالدور ذاته دون شك في ‘هذا الموضوع الغامض للرغبة’ ويتمثل ذلك في كيس القنب الذي اعتاد الأنيق فرناندو راي حمله على كتفه والذي نقل فيه استيهاماته وحمولة شياطينه.. يمكننا أن نقول إذن بأن فيلم ‘كلب أندلسي’ يدشن ويؤسس سينما بونويل بكل صورها المقلقة والمزعجة والغريبة وذات القيمة الرمزية.. وكم يبدو مثيرا للأسف أن لوركا لم يتمكن من مشاهدة الفيلم حين عرضه.. كان سوف يعثر داخله حتما على كثير من المكبوتات والصور التي كان يسر بها إلى صديقيه في غمرة الليالي المقمرة.
حقيق بنا أن نشير إلى أن لوركا سوف يقيم اتصالات أثناء وجوده بنيويورك بمخرج سينمائي مكسيكي اسمه إيميليو آمينو والذي كان يعتزم إنجاز فيلم بمعيته. وها هو منهمك في في تحرير سيناريو كان عنوانه يذكر بفيلم ملييس الشهير ‘رحلة إلى القمر’. يعتبر القمر موضوعة ذات حضور مطرد في مجمل التجربة الشعرية للوركا، ولكنها في الآن نفسه موجودة في صلب المقطع الأول من فيلم ‘كلب أندلسي’. نعثر داخل اكسسوارات السيناريو الذي كتبه لوركا على سرير أبيض وليل غير مرئي ورأس موصول بسلك من الحديد وفرج امرأة وقبلة ساخنة وعين في طور انبهار يعز على الوصف ورأس ضخم لشخص ميت وأيضا ‘القمر الذي ينشطر إلى نصفين’. وثمة أيضا فيما يهم الحكاية ولد وبنت ينتهيان بالعراك. يقوم الولد بعض البنت ويحاول أن يغرز أصابعه في مقلتيها. لكنها تقاوم وتدافع عن نفسها وتتمنع. وثمة اسم يظهر على الشاشة: إيلينا. إيلينا. إيلينا. إيلينا.
هل يمكننا أن نتمثل في ذلك إيحاء؟ حقيق بالإشارة إلى أن إيلينا هو الاسم الحقيقي لغالا التي أبهجت دالي والمرأة التي اقترن بها إيميليو ألدارين تدعى إليانور. وسوف نعثر على إيلينا هاته في المسرحية التي لم تنشر والتي كتبها لوركا أثناء مقامه في هافانا والتي تحمل اسم ‘الجمهور’. تغص هذه المسرحية كليا بالمكبوتات وتدفق وانثيال للصور وصعوبة اللقاء بين الرجل والمرأة. ويدافع بونويل عن نفسه من التهمة التي مفادها أنه قصد إلى الإفصاح عن شيء ما من خلال الفيلم قائلا: أنا رجل غرائز ولست صاحب أفكار’. بيد أن لوركا نفسه وكذلك دالي كانا رجلي غرائز وأفكار في آن واحد. وهنا يكمن الفرق. يعتبر هذا السفر إلى القمر بمثابة غوص في صبوات ونوازع غريزية سرية ووحوش باطنية وشهوانية عظيمة وحلول مستحيلة. وهنا يكمن لوركا بكليته.وهو ذاته كما يتجلى في الحب المرفوض في نصوصه الشعرية أو في الرغبة العقيمة والكائن المنكل به في نصوصه المسرحية، ودائما بمصاحبة ومعية صورة الموت التي تحضر باطراد ملح. ولئن كانت تحضر عند بونويل ودالي في شكل رأس رجل ميت فوق ظهر فراشة، فإنها هنا في عمل لوركا تأخذ شكل سهر جنائزي: ‘غرفة وامرأتان تبكيان وهما جالستان ومتشحتان بالسواد. كان رأساهما مستندين إلى طاولة فوقها قنديل. وكانت يداهما مرفوعتين صوب السماء’.
سوف نقرأ في مقاطع لاحقة: ‘ سرير ويدان تغمران ميتا. وما كان يبدو في فيلم ‘كلب أندلسي’ غير لعبة سريالية يفصح عن حضوره في ‘رحلة إلى القمر’ بوصفه غوصا في الجنس المرفوض والهوس بالموت. ونحن نوجد باعتبار ذلك كله في صلب لوركا والذي سوف يطوله التحول والتغيير في النهاية بتأثير الأبدية…