بقلم عبد الفتاح حجمري / أرشيف المراكشية
ارتبط الحديث عن اللغة العربية ، في العديد من المنتديات واللقاءات والمناقشات العمومية في السنوات الأخيرة، بهيمنة شعور عارم يخصّ أزمة تجتازها اللغة العربية في الحياة العامة، و في المنظومة التربوية والتعليمية، بحيث يبدو من الصعب تعيين مظاهر هذه الأزمة لتشعب منظوراتها وتعقدّها، لأنها تتعلق، حينا، بمنظومة القيم وسؤال الهوية، وترتبط ،حينا آخر، بخصوصية الثقافة والاجتماع والاقتصاد والإعلام والتقانات.
لا أحد ينكر اليوم أن العالم العربي تواجهه تحديات المعرفية المعلوماتية، و تحتم عليه النظر في وضعية استعمال اللغة العربية على الشابكة ( الأنترنيت )؛ تشير الإحصائيات بهذا الصدد، أنه من بين قرابة الملياري مستعمل للأنترنيت هناك حوالي 535 مليون من مستعمليها بالإنجليزية، مقابل 445 مليون باللغة الصينية، بينما تأتي اللغة العربية في المرتبة السابعة بما يناهز 65 مليون مستعمل بهذه اللغة، أي ما يشكل 3 ,8 من العدد الإجمالي لمستعملي الأنترنيت عبر العالم.
من هنا أهمية السعي لأن تتمتع اللغة العربية بموقع متميز على صعيد توفير المعاجم الوظيفية والتخصصية على الشابكة ليستفيد منها أكبر عدد ممكن من المهتمين والباحثين، وهذا تحدّ آخر تواجهه اللغة العربية وهي ترتاد أفق التقنيات الحديثة لتُغالبَ مظاهر التهميش، وسطوة اللهجات الممزوجة بالتعابير الأجنبية المنتشرة بوفرة في الأماكن العامة، ووسائل الإعلام والاتصال.
وفق هذا المنظور، تتجدّد العناية بشأن اللغة العربية بوضع خطة للارتقاء بها ودراسة مشكلات تعلّمها وتعليمها، ووضع الكتب المرجعية الميسِّرة لقواعدها ونحْوها وصرفها. هكذا، توجد اللغة العربية اليوم في صلب معركتنا الحضارية بكل أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ لأنها من مقوّمات وجودنا وهويتنا، وركيزة انتسابنا للعصر الحديث وقد أضحى عالما صغيرا تتداخل فيه اللغات والثقافات. كما أن تملّك رصيد لغوي موحّد، وتنسيق الجهود البحثية وتوفير شبكة عربية للمصطلحات، وإنشاء معجمية حاسوبية محيّنة، يعد اليوم من الإجراءات الكفيلة بمواجهة صعوبات تدفق العلوم ،كما أنها إجراءات تسمح للغة العربية بإقامة تفاعل نقدي مع المعرفة في مختلف مجالات البحث العلمي والاجتماعي والتقني.
لكن، هل هذه الإجراءات ،وغيرها، كفيلة بتشخيص موضوعي لأزمة اللغة العربية،ومُعِينة على تخطي آثارها السلبية في الإدارة والمدرسة والجامعة والحياة العامّة، وفق ما تقتضيه مقتضيات العصر الحالي من تحديث وتجديد لمنظومة القيم الفكرية والعلاقات الإنسانية؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال بوعي وعمق نقديين، ينبغي الأخذ بالاعتبار – من الناحية الفلسفية العامة – ما يميز الوضع اللغوي بالعالم العربي من غنى وتعدد والتباس أيضا، سواء في الحياة العامة، أو على مستوى الإدارة والتعليم والإعلام وغيرها من المجالات التي تتطلب “الاحتكام” إلى سياسة لغوية لها ما يبررها تاريخيا واجتماعيا وسياسيا.
تتصفُ الوضعية اللغوية في العالم العربي بجملة محدّدات تسمح بتواجد ازدواجية لغوية بين لغة عربية فصيحة رسمية بموجب اختيار حضاري مُوحد تبنّته الأمّة العربية منذ مجيء الإسلام وقيّدته في دساتيرها، ولغة عربية عامية ينحصر استعمالها في الحياة العامة؛ كما تتصف هذه الوضعية بتواجد ثنائية لغوية بين اللغة العربية واللغات الأجنبية ( الإنجليزية والفرنسية خاصة ). في ظل هذا الوضع تتصف اللغة العربية بالضعف، كما أن تنميتها على صعيد مناهج التعليم بقيت مفتقرة لإجراءات عملية تذيّل الصعوبات، وتنمي القدرات لدى المعلمين والمتعلمين على حدّ سواء. والحال أن وضعيةً متصفة بالثنائية والازدواجية، كفيلة بأن تكون مصدر غنى للغة العربية وعونا على إضاءة مختلف المشكلات الراهنة التي تحول دون الارتقاء بها.
ما فتئ الحديث عن أزمة اللغة العربية يتسع ويتفرّع أمام ما أضحت تكتسبه اللغة ( أية لغة ) على المستوى الوطني والدولي من أهمية؛ و لأن الترابط بين المجتمع والتنمية ينتج في الأغلب الأعمّ عن التقدم الحاصل في الإنتاج المعرفي والثقافي، فإن الاعتناء باللغة يغدو سمة من سمات التقدّم تلج المجتمعات، عبْرها ومن خلالها، فضاء التحديث وتجديد القيم.
وقد استطاعت الأدبيات اللغوية العربية أن تراكم ،في هذا الصدد، العديد من التوصيات وأوراق العمل والتشريعات الرسمية، واستحداث المقررات ،وتصوّر أساليب التدريس و اكتساب المهارات اللغوية، إلا أن أغلبها ظلّ سجين التقارير ولم يجد سبيلا للتنفيذ والتطبيق، لأن الخيار السياسي ظل متحكّما في تمثل الهندسة اللغوية بتعدد مجالاتها الاقتصادية والإعلامية والتعليمية والتقنية .
بهذا المعنى ، لم تعد اللغة العربية ،اليوم، بحاجة إلى توصيات إضافية أو خطط عامة ترصد واقع الحال وتستشرف أفق المستقبل؛ بقدر حاجتها الملحة إلى تعاون عربي فعّال وموحّد للناطقين بها، وقد تجاوز عددهم الثلاثمائة وخمسين مليون نسمة بما يُحلها المرتبة الخامسة عالميا بعد الصينية والانكليزية والفرنسية والاسبانية، ويمكنها من الولوج إلى مجتمع المعرفة وما يستتبعه من ضرورة التوفر على لغة معاصرة متجهة نحو مجتمع المعلومات في الاقتصاد والتجارة والصناعة ورقمنة المعارف.
للتنمية الاقتصادية،إذن، صلة بالتنمية اللغوية. لذلك، ينبغي أن يكون التطوّر الحاصل في محددات التنمية العربية ،على مختلف الأصعدة، جزءا من التنمية اللغوية المنشودة، التي تتطلب تقويما علميا ونقديا لمجمل الخيارات اللغوية، ولواقع استعمالها في المرافق العمومية، وفي مجالات الإبداع والفكر والتعليم.
بهذا المعنى، تغدو اللغة ظاهرةً متعددة التجليات، وموطنا لرهانات تاريخية وثقافية واجتماعية واقتصادية تعدّ سبيلا للتشبع بثوابت الهوية الوطنية، والانفتاح ،في الآن ذاته، على التنوع الثقافي واللغوي والحضاري العالمي.
معلوم أن اللغة كائن حيّ خاضع لمواضعات المجتمع وتحوّلاته؛ لذلك، فإن هذا الأخير يحتاج دوما إلى لغة متجددة وما يلازمها من إعادة النظر في التصوّرات الخاصة بالثقافة والسياسة والاقتصاد. ولعل الوعي بتحوّل اللغة وتحديثها ينبغي أن يكون جزءا من التحوّل الحاصل في المجتمع ثقافيا واجتماعيا وسياسيا؛ وهذا ما بلوره مشروع النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر بارتكازه ،فكريا، على تطوير وإحياء اللغة العربية شعرا ونثرا.
فهل نحتاج،اليوم،إلى نهضة جديدة تخرجنا من وضعية الفوضى اللغوية، وحالة الشعور بتراجع العربية الفصحى، وما لهما وعليهما من انعكاسات على مقومات الهوية والقيم وحركية التنوير؟