بقلم الدكتور مولاي علي الخاميري
ملاحظة أولية : قامت هذه القراءة لكتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) في طبعته الأولى لسنة ( 1443 هج / 2022م ) الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط على تتبع أفكار الكتاب المتنوعة ، ومحاورة مضامينه الأساسية بأسلوب يقوم على الفهم والتعقب والتعقيب المشارك في فهم المعاني وتوسيعها بحسب ما يسمح به سياق الأفكار المطروحة ، واعتَمَدَت في ذلك على قواعد وآليات تساعد على الاستيعاب الصحيح ، وإبداء الرأي المناسب والتوجيه المساهم في عملية الرصد وحصول المتعة المعرفية ، وستُقَدِّم محصولَها عبر حلقات .
الحلقة الثانية :
أولا : نسق الإفادات : هي كثيرة الورود في الكتاب ، ونعني بها كما قلت تلك الفرص والمُغرَيَات الفكرية الإيجابية التي تبدو لكل باحث جديد ، أو قديم ، وتدعوه إلى استئناف رحلة التأمل في الموضوع انطلاقا من خاصية التواصل والتفاعل والتعارف بين الأفكار في مظانها المختلفة والمتنوعة بحثا عن ملاذ تكامل الأنوار المأمول .
والإفادات بهذا المعنى تحوز على فوائد ، وتتكون من وجهات مختلفة ومتنوعة ، وهي وإن كانت تُرَغِّبُ الباحث في فضيلة البحث والتقصي فإنها تُشعِر القارئ كذلك بضرورة مواصلة فعل القراءة المتزنة والمتوازية في أنسقة تبدو متباعدة ومتعارضة إلى أنها تتحد في الدلالات النهائية ، بالإضافة إلى أنها تكشف عن هُوِية الباحث المُؤلِّف الفكرية ، وتسمح لحرارة عقله بأن تبرز كما هي منسجمة في أحكام وحِكَم تستند عليها مواقف الإشادة والتبني أو مواقف الإبعاد والإقصاء .
ونستطيع هنا أن نحصي ونذكر مجموعة من الإفادات الفكرية الخلاقة التي شكلت عمود الكتاب الفكري ، وسمحت للمؤلف بالحركة وبناء مشروعه الجذاب ، وسننطلق معها حسب عملية البناء وأطوارها المختلفة لرسم صورة مجزأة بعناية مدركة ، تمكن القارئ من معرفة الخطوات وبترتيب منسق ومتميز ، وسأكون في تتبعي هذا خفيفا ومعتمدا على الإشارة المقتضبة حتى لا تتحول قراءتي إلى بحث طويل وممل ، فالاكتفاء بما فعله الأستاذ التهامي الحراق وهو يقلب ثنايا الموضوع كَافٍ ، وفيه الغِنى المطلوب ، والخِصب الموعود .
أول إفادة سأقف عليها هي إفادة التعارض التي تبدو أنها متحكمة بصفة أزلية في موضوع الأنوار ، وإفادتُها تَظهَر لنا من خلال التدليل على طبيعة البدايات المتعلقة بالمأزق الإنساني ، كما تظهر في المحاولات الفكرية المستمرة للتعرف عليها والتعريف بها ، والسعي إلى حلحلة حمولاتها ، وإيجاد الحلول الممكنة لتخطي عوائقها ، وسأكتفي بإثبات ثلاثة نصوص متتابعة ، ساقها الأستاذ التهامي الحراق في كتابه ، وسأترك التعليق للقراء ، النص الأول إيجابي ومغري كثيرا ، ورد في مطلع الكتاب ، الصفحة : 13 : ( ضمن هذا المسعى لرفع كل تناقض بين مفهومي ” الأنوار ” في السياق الإسلامي وفي السياق الأروبي ظهر في العقود الأخيرة مصطلح ” إسلام الأنوار ” وبه يشيرون إلى تصور عقلاني إنسي للإسلام ، يستوعب روح الحداثة ولا يرفضها ، ويتأسس على الأخذ بالعقلانية والعلم والتقدم وقيم الحرية وحقوق الإنسان وقبول المختلف ) .
النص الثاني مُدمَّخ بنسمة نقدية واضحة تدل على بداية مشوار المشاق كما سنرى ذلك مفصلا في بند آخر قادم ، يقول في الصفحة : 39 : ( خلاصة رأي غينو أن على الحداثة الغربية التي رفعت شعار ” تقويض الميتافيزيقا وتفكيكها ” أن تعترف أنها ليست قادرة على فهم هذه الميتافيزيقا بحكم الطبيعة المحايثة والمادية لأدواتها ) .
النص الثالث وفيه تفصيل أكثر ، وإقرار للمأزق واضح ، يقول في الصفحة : 42 : ( وفي هذا السياق نستضيء ببعض إشارات كتاب ” الدين بعد الأنوار ” للألماني هنريش لوبة heinrich lubker الذي رفض إقرار أطروحة موت ثقافي واجتماعي وشيك للدين ، إذ كان يرى أن ما ينبغي تفسيره هو بالأحرى الحيوية الاستثنائية للدين في المجتمعات التي أنتجتها الأنوار ، لذلك أولى اهتمامه للأنوار التي نجحت لا الأنوار التي أخفقت ) .
الإفادة الثانية التي تهم الموضوع ، ويلجأ إليها الباحثون بكثرة للاحتماء بوهجها وحضورها عندما تقع تلك التعارضات المستمرة ، ويقفون أمامها كالحيارى لأنها لا تعجبهم ، ويرون فيها غلوا وفسادا متعمدا لاصقا بالموضوع ، وأقصد بها دورات النقد والمراجعة المصاحبة لمختلف الآراء المشتتة ، وسأزود القارئ بنصين ، الأول ورد في الصفحة : 34 يُقِر بما تم في الخطاب الديني وينطلق في رحلة جديدة مع الواجب الضروري فعله في مجال الحداثة : ( لقد سبق أن خصصنا دراسات عديدة لنقد الخطاب الديني السائد والناطق باسم ” أنوار الإسلام ” لذا سنركز في هذا المدخل على نماذج من المراجعات التي خصت بها أنوار الحداثة ، وهنا نسجل أن الفكر الأروبي المعاصر عرف حركة نقدية حيوية حيال مسار الأنوار ومصيرها….) .
والثاني ورد في الصفحة : 40 يُفصٍح عن مزايا النقد الروحاني للحداثة : ( إن للنقد الروحاني للحداثة مزايا إجرائية خاصة ، فمع هذا النقد لن يبقى لشعار ” نزع السحرية عن العالم ” <…..> والذي شكل برنامج التنوير في أروبا معنى تعرية العالم من القدسي المتعالي ، بل قد يعني فقط تحريره من الطابع الأسطوري ، أو المقدس الوثني وما يتعلق بهما من أعمال السحر ) .
ولعل محتوى النصين السابقين قد نشط ذاكرة الأستاذ الحراق ، ورفع من معنوياته الفكرية ، وتوضحت أمامه الرؤية الفكرية التي يراها إيجابية وصالحة للنبش في الموضوع ، يقول في الصفحة : 44 بحماس ويقين لافتين : ( على أن من بين أهم المراجعات الجارية في السياق الغربي أيضا تلك المتعلقة بإعادة النظر المفتوحة في حضور الدين ضمن الفضاء العام بالمجتمع الحديث ) .
الإفادة الثالثة هي قاعدة التأثير وسأسوقها باقتضاب كبير ، وأركز على الجانب السلبي منها ، لأنه فظيع جدا ، ودالًّ على قوة الانحراف في تفكير الإنسان للأسف الشديد ، يقول الأستاذ الحرارة في الصفحة : 37 : ( ويرى رونيه غينو [ الشيخ عبد الواحد يحي ] أن اللغات الأروبية الحديثة فقدت القدرة على التعبير عن المعارف الميتافيزقية التي ترتبط بالكتب المقدسة ) .
الإفادة الرابعة تخص المشاق الكأداء التي تعترض سبيل كل مُقترِب وباحث في ثنايا موضوع الكتاب ، وهي كذلك ملموسة عند القراء ، وحاضرة في تتبعهم لخيوط الأفكار المعالجة داخل مؤلَّف الأستاذ الحراق ، فهي كثيرة ومتنوعة ، ويقتضي بناؤها في سياق مقبول ومفيد قوةً في الانتباه والتقليب ، والكَر والفر المُضنِيين ، يقول الأستاذ الحراق في الصفحة : 36 : ( إنها بعض معالم المراجعة النقدية لموقف الأنوار من الدين داخل الفكر الغربي نفسه ، مراجعة تهتدي بنقد أشكال ” خيانة ” وعود الأنوار في المعرفة والاجتماع والتاريخ لطرح سؤال جذري على علاقة الأنوار بالدين ، على أننا هنا لا نكتفي بالخلاصة التي انتهى إليها فيليب نيمو من كون ” ما بعد الحداثة ” صارت تعتبر فكرة دحر الإله ” مرهقة على المستوى الميتافيزيقي ” وليست ذات منظور إنساني ، بل نذهب بعد الدعوة إلى نقد الحضور اللاعقلاني واللاروحاني لأشكال التدين في السياق الحديث إلى المطالبة بالاستعادة النقدية ل ” الأساس المتعالي ” للمحافظة على مركز الإنسان في الكون ، وكذا المطالبة بإعادة روحنة الحداثة ونقدها من منظور روحاني ) .
الإفادة الخامسة تروم طرح الدعاوى المخالفة لمشروع الكتاب ، والجميل هنا أن الأستاذ التهامي الحراق استطاع أن يحصيها إلينا عبر عناوين تلتصق بسياق الحداثة ، وسياق الدين وإن لم يتمكن من بسطها في سياقاتها المتعددة ، وبما أسهمت به على صعيد الأفكار المتعارضة ، وما اقتضت من تصويب ونقد ومراجعات ضمن مسيرة الإنسان في التفكير الوجودي ، وربما تَجَلِّي المسألة على هذا النحو يغرينا بطمع المزيد من فتوحات وفيوضات الأستاذ التهامي الحراق في الموضوع ، فلا زال الظمأ لم يبرد ، يقول في الصفحة : 27 \ 28 مذكرا بأمل في أفق ، ينتشل الإنسان من سقطاته الفكرية السلبية على صعيد الدين والحداثة معا : ( فسياق الحداثة اليوم يعج بدعاوى تستدعي المراجعة ، مثل دعاوى ” نزع السحرية عن العالم ” و ” الخروج من الدين ” و ” أفول التعالي ” أو ” موت الإله…..” أو على الأقل مراجعة فهومها النافية لروح الدين ، مثلما يستدعي سياق الدين بالنسبة إلينا مراجعة دعاوى ” قصور العقل ” و ” رفض القانون الوضعي ” و ” ضرورة الخضوع الأعمى للمطلق ” ضمن مفهوم استرقاقي للتعبد و ” وهم حرية الإنسان “…ويمكن القول إن حديثنا مع غيرنا عن أفق الإنسية الروحانية يدخل ضمن رهان مراجعة هذه الدعاوى، وتحقيق الوصل النقدي الخلاق بين أنوار الحداثة وأنوار الإسلام ) .
الإفادة السادسة والأخيرة هي الكشف عن الحلم الفكري المتعلق بذات المؤلِّف ، وفحوى الحلم المذكور وإن كان يبدو بعيدا ، وصعبَ التحقق على أرض الواقع بالصيغة التي يريدها المؤلف فإنه يكشف عن طموح الإنسان في بناء مشروع حضاري متكامل الأركان الفكرية ، يساهم في تعريف الإنسان بنفسه تعريفا صحيحا يدنيه من خالقه ، ويوفر له فرص الحياة الهادئة والمطمئنة ، ويزوده بمعاني السعادة الحقة ، يقول المؤلف في الصفحة : 19 : ( طبعا ليس القصد هنا استيفاء الحديث عن معالم الأنوار في المرجعيتين الحداثية الغربية والروحانية الإسلامية ، وإنما القصد هو الإشارة إلى ثراء حضور الأنوار في المرجعيتين لكن بأفقين مختلفين ، أزعم مع الزاعمين أن بالإمكان صياغة أفق ثالث برزخي تلتقي فيه أنوار المرجعيتين بحيث تتلاقح وتتكامل ، أو قل بحيث لا ” تتزاحم ” وهذا يقتضي الذهاب إلى إعادة التفكير في الأنوار ضمن الأفقين ) .
إنها رحلة الإفادات الطويلة كما بدت لنا في الإشارات المقتضبة السابقة ، وبالرغم من تنوعها ، وسلوك طريق التحبيب والإغراء بموضوع الأنوار وأجرأتِه الفكرية الشاقة إلا أنها تبقى مجرد إفادات قابلة للأخذ والعطاء والاختيار الذاتي في آخر المطاف ، فليس لها وُثُوقِية تامة وكاملة تعفيها من السؤال وعن طرح الأسئلة الدائمة الحضور في مسارات التفكير الإنساني المختلفة في الأمكنة والأزمان ، كما أنها لا تعفينا من فتح بوابات فكرية أخرى عالجت الموضوع بوجهات نظر إضافية بعيدة عما هو مطروح في الكتاب…لكن تبقى محاولة كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) معتبرة في السياق الفكري الإنساني العام ، لأنها تشكل ضلعا وازنا في المسألة ، ولها آفاقها المقتبسة من الأنوار في ميدانين كبيرين في كل شيء ، ميدان الدين الإلهي ، وميدان العقل البشري .
( يتبع )