بقلم الدكتور مولاي علي الخاميري
ملاحظة أولية : قامت هذه القراءة لكتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) في طبعته الأولى لسنة ( 1443 هج / 2022م ) الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط على تتبع أفكار الكتاب المتنوعة ، ومحاورة مضامينه الأساسية بأسلوب يقوم على الفهم والتعقب والتعقيب المشارك في فهم المعاني وتوسيعها بحسب ما يسمح به سياق الأفكار المطروحة ، واعتَمَدَت في ذلك على قواعد وآليات تساعد على الاستيعاب الصحيح ، وإبداء الرأي المناسب والتوجيه المساهم في عملية الرصد وحصول المتعة المعرفية ، وستُقَدِّم محصولَها عبر حلقات .
الحلقة الرابعة والأخيرة:
ثالثا : نسق الحلول والإجابات المطروحة في ثنايا كتاب (الأنوار لا تتزاحم )
من مميزات الكتاب المذكور ، ومن مفاخره الذي يجب أن يُعْتَدَّ بها تَضَمُّنُه لحلول وإجابات فكرية متعددة الروافد ، تبدو واقعية ، وقابلة للإنجاز ، تبعث الأمل في النفوس ، وتؤكد على قدرة الإنسان في التخطي والوعي بمشاكله الوجودية ، والبحث عن مخارج لها .
الحلول والإجابات الواردة في كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) يمكن أن ينظر إليها من زاويتين متكاملتين ، الزاوية الأولى تضم الحلول الكلية ، وتتميز بحركيتها وتدفقاتها المعرفية الكبيرة ، وإرسائها على معالم الذات والعقل ، وأظنها هي لب مضامين الكتاب ، إذ تشغل فضاء واسعا يمتد على أزيد من مائة صفحة ، ويتنوع إلى حلول تستدعيها الظرفية الراهنة ( انطلاقا من الصفحة : 93 ) ثم تصعد إلى الحلول الفكرية المقترحة ، وتمثل لنا نصيب الذات في التصور والاسترشاد بالميراث العرفاني العام في مجراه المُحتفِل بالنفس والفكر ( انطلاقا من الصفحة : 121 ) وأعتبره عطاء فكريا مُثمِرا وغيرَ محدود أتحفنا به المؤلف ، فمجاله في اتساع دائم ، وآفاقه تحاول أن تحيط بالإنسان في مآزقه ، وتوجهه إلى ناحية الجمال الروحي ، وضرورة الاتكاء عليه عند تدبير الأزمات .
إننا نحترم الأستاذ التهامي الحراق في هذا التحديد لمجال نراه واسعا وشاسعا أكبر وأكثر ، وقادرا على عملية الاستيعاب والتكامل ، والتمدد على خريطة التفكير والإبداع بِسَعَةٍ تناظر مساحة عمر الإنسان التفكرية في الكون ما دام ينبع من عشق وتجربة ذاتية يومن بها الرجل ، ويتيه بين أجندتها ، وشخصيتُه في بنائها وتكوينها هي جزء من ذلك البناء العرفاني الذي سرده علينا المؤلف بعناوين تحاول ملامسة مشاكل الأنوار ، وتراعي قيمة الإنسان في الوجود ، وتسعى جاهدة للميل به نحو منعطف النجاة الروحي والفكري ، ولعله أدرك هذه الملاحظة حين فكر ، وقدم لنا نموذجا دالا ، يلبي حاجة مَن يجد ، ومَن لا يجد في العرفان والجمال البُغْيَةَ المطلقة ، وأقصد هنا وقفته الطويلة مع فكر محمد إقبال رحمه الله ، ومسايرة الدعوة الطافحة الآن ، المنادية بعلم كلام جديد ، يخلو من تلك الأبحاث التي لا تناسب زمننا حسب بعض الآراء وإن كان الأستاذ الحراق لا يميل إلى هذه الرؤية ، بل يكتفي بإعادة النظر في كل مضامين علم الكلام القديم والجديد ولكن بمستخرجات ثقافية وفكرية معاصرة ، تستفيد من المنجز العلمي المتاح في زمننا ( انطلاقا من الصفحة : 181 ) .
يجب أن ننتبه إلى أن درجات الإجابات والحلول المقترحة من لدن الأستاذ التهامي الحراق لم تكن متكافئة ، ولم ينظر إليها الرجل بعين واحدة ، إنما كان السياق يدفعه إلى أن يخوض في بعض مسائل الحلول لتكتمل الرؤية ، ولكي لا يُحسَب عليه سهو أو اجتزاء للأفكار الواجب توفرها في مثل مواضيع كتابه ، وهذا الاستنتاج يستفاد من طبيعة المعالجة ، والتعاضي مع مضامين كل حيز ، فاللغة خداعة وتشي بكثير من التفاصيل ، فبالمقارنة البسيطة بين ماجاء في باب الميراث العرفاني ، وما جاء في سؤال التجديد الديني يحصل القارئ على صفتين متكاملتين لشخصية الأستاذ التهامي الحراق ، شخصية منغمسة ومتحيزة بالمعنى الإيجابي ، وخَدُومة لمشروع فكري بكل حواس الذات المتكلمة ، وشخصية أخرى تسير مع التفكير العام في أنسقته المختلفة ، وترى من باب الضرورة الفكرية ولوجَ عوالم فكرية مجاورة للجانب العرفاني ، وهذا حق في الاختيار لا نجادل فيه أحدا إلا بما تقتضيه الإشارة ويستدعيه التبيين ، لأن النتائج والحلول المذكورة في الكتاب تقوم على مثل هذا التفريق والتمييز ، فقد كانت محكا وقاعدة لإنشاء كثير من المواقف والرؤى المتفاوتة في الأهمية ودرجة الاهتمام ، ويكفي أن نذكر أن حديثه غير المألوف مع ابنته وما نتج عنه على صعيد الممارسة الفكرية كان من وحي تلك التصورات العرفانية وغيرها مما يومن به الأستاذ الحراق ، ويقيم حياته الفكرية على أسسه وأعمدته .
أما الزاوية الثانية الخاصة بالحلول والإجابات الممكنة عن الإشكالات المطروحة في الكتاب فتروم نحو تلك المواقف التي نجدها مشتتة بطريقة مصاحبة لمجموع مناحي البحث ، وتهدف إلى الإحاطة بجميع المتاح المساهم في خلخلة معضلات الإنسان ، وعلى مساحات جغرافية ومكانية أوسع وأشمل .
في مقدمة هذا الصنف من الحلول والإجابات سنجد المؤلف يتكئ ويدعو إلى فضيلة الحوار ، والتمسك بالعلم والمعرفة التي تتكامل ، والانتباه إلى التصورات الفكرية التي تقدم حلولا ممكنة على أرض الواقع ، والسعي إلى بناء حلول فكرية متداخلة كما يستفاد من قوله في الصفحة : 58 : ( ولهذا فإننا حين نراجع النضج العقلي بالمدلول الأنواري الكانطي في صورة ” الرشد الإبراهيمي ” فإننا نطلب إعادة النظر في اعتبار تحرير العقل مشروطا بالانفصال عن الدين ، أو بإخضاع هذا الأخير لحدود العقل النسبي ، مستحضرين أن ثمة تجارب أخرى انتعش فيها العقل ، وتحرر بالدين لا من الدين ) .
ويقول في سياق المراجعات النقدية للحداثة مستحضرا فضيلة الحوار ، الصفحة : 45 : ( إن هذه النماذج من المراجعات النقدية لأنواع الحداثة، ولنتائجها ومآلاتها ، وخصوصا تلك المراجعات المتعلقة بعلاقة الدين بالحداثة تمثل بالنسبة إلينا ، وعلى تنوعها واختلاف منطلقاتها علامات في أفق الحوار المطلوب بين أنوار الدين وأنوار العقل …) .
ويقول في الصفحة : 49 عن التصورات التركيبية لبلورة الحلول الممكنة للمعضلة الأساسية في موضوع الأنوار : ( لذلك لم يدع إقبال إلى تحرير العقل بإنكار بعثة الأنبياء ، ولا بإنكار الوحي ، إنه لم يشترط مخاصمة السماء لتجاوز قصور العقل ، وتحريره من الوصاية ، واستنفار جرأة إعماله وتفعيله ، بل اعتبر أن هذا التحرير مقصد ديني يتجلى في اكتمال النبوات بإغلاق إنزال الوحي الكتابي ، وختم بعثة الأنبياء بإعلان سيدنا محمد خاتما للنبيئين والمرسلين ، ذلك أنه لا فرق عند إقبال بين ” فهم أن الإسلام يعلن ختم النبوة والقول إنه يشير إلى ميلاد العقل الاستقرائي ” ) .
ومع ذلك فهناك فراغات فكرية أخرى لم يستطع الكتاب أن يفصل فيها الكلام تفصيلا مفيدا ، فكتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) يقيم بناءه الفكري على أربع دعائم مفاهيمية هي : الإنسية والعقلية والعرفانية والجمالية ، وعندما قرأتها على المنوال المعالج في الكتاب تساءلت : هل باستطاعة كل العقول أن تلم بها على النحو الذي يريده المؤلف ؟ وهل يمكن أن نجد ظلالا وارفة لها ، وقبولا بهذه الحفاوة على أرض الواقع الفكري والديني المعيش في جميع الممارسات الفكرية العالمية ؟ .
استنجت أن هناك بونا شاسعا سيبقى متحكما في أوصال الجمالية العرفانية ، وأن حضورها سيخضع لعملية التجميل أو التصنيع لكي نحصل على إجابات إيجابيةفكرية وميدانية ، مما يعني أننا أمام منحى نخبوي فكري ، لا يفقهه إلا القليل ، وليس له مجال في التطبيق واسع ، ومَن ينظر إلى التاريخ الفكري الخاص بالإنسان سيلاحظ هذا بسهولة ، وسيلاحظ أيضا أن الأفكار المناوئة الأخرى وإن اتسمت بالغلو على مستوى الدين أو العقل قد تكون أحسن حظا في الرواج داخل دروب الفكر ، لأن الطريق العرفاني بعقليته وإنسيته وجماله يستوجب شروطا إن لم تكن قليلة الحصول فهي تعد وصفا موقوفا على فئات محددة ، وأنه طريق مركب تركيبا يجمع ما بين فطرة الذات ونور الفكر بمقاييس دقيقة ، وبعضها غير مرئي ، يشبه في التسمية والحضور مدلول معنى الحكمة المفقود إلا بإذن علوي : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) .
ثم إن التعرض بالدرس والتحليل لمشكل الأنوار السماوية والأرضية لا بد فيه من مراجعات وتكييفات وتعديلات دائمة في مسارات الفكر الإنساني العام لكي تتلاءم مع نظرة السماء ، وأظن أن هذه الهوة ستزداد اتساعا في زمننا والأزمنة المقبلة خاصة ونحن نرى دعاة الغلو والتطرف هم الذين يفوزون بنتائج الانتخابات في مختلف أرجاء العالم ، ويتصدرون دوائر القرار والفعل الإنساني وعلى مستوى الفكر والتعقل ، ونرى صعودا مبالغا فيه ومحميا من صناعه بمختلف الحمايات الممكنة يدعو إلى تفكك الأسرة ، ونشر المثلية والرذيلة والفواحش تحت عناوين عقلية وفكرية براقة ، تحاول أن تقلب كل المفاهيم الدينية والتنويرية المتزنة….فأين سنصل بذلك ، وكيف سينفعنا مسلك الأنوار مثلا في مجابهة هذا التيار التدميري المتصاعد باسم الحرية والتعايش والانفتاح وقبول الآخر……وغيرها من دعوات التفكير الملوثة بانحرافات شتى ومتنوعة في وقتنا المعاصر ؟! .
وأخشى – مع هذا الواقع المتصدع – أن يمارس نوع جديد من الاستبداد الفكري على ضعفاء الأرض من المتدينين عموما لكي يُعترَف بهم ، ويحصلون على رضى الآخر المتعنت في مواقفه وجبروته ، فيقع نوع من الانحسار والتضييق الفكري على جهة واحدة ، فيطلب منها نسيان تراثها ، وتُدْفَع دفعا إلى عملية التحوير والتصويب والاستدراك والقضم غير المجدي ، ويتحول المشهد إلى نوع من التلاعب بالدين والتحايل على أساسياته باسم العقل والحداثة ، وقد ينزلق الوضع أكثر ، ويهرب منا جميعا لنشاهد شرارة التطاوحن الوجودي مستعرة باسم الدين والعقل على غرار التلفيق الحاصل لمفهوم ( حوار الحضارات ) الذي تحول إلى صدام مستمر بقوة وعنف تتقوى مضامينه الفكرية ، ويتكاثر أنصاره الغُفْل ، وألسنة نيرانه الحارقة تثار في وجه الجميع ، وتلتهم كل منابت الفكر المعتدل والمتكاثف والمتكامل ما بين الإنسان والإنسان ، وما بين السماء والأرض .
هكذا قرأت كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) بأبعاده الكلية ، وبحمولته الفكرية ، وكذا بإيجابياته ونواقصه ، والمهم عندي أننا أصبحنا نتوفر على مرجع في موضوع الأنوار ، حاول أن يجتهد ويدرس ويحلل ، ويجمعَ نُشدانا للكمال الفكري النسبي ، معتمدا في كل ذلك على ازدواجية تتفرق ما بين الذات بملامحها الفطرية والذوقية ، وبما يفرضه عليها طابع الانتماء والعشق والاختيار ، وما بين الفكر بتشعباته وأبحاثه وامتداداته الثقافية ، وتراكماته المعرفية .
وأود في الأخير أن أنبه الأستاذ الحراق إلى بعض المعالجات الفكرية المشابهة ، تدعو ضرورة الموضوع المعالج إلى الرجوع إليها ، والاستفادة منها ، وبما أنني على يقين بأن المؤلف سيعود لموضوع الأنوار بنفَس جديد ، ورؤية مغايرة ومتطورة عما جاء في كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) تضيف وتستدرك وتوسع أكثر فإنني سأذكره بداية بضرورة التعرض لمشروع المفكر التونسي الأخضر عفيف ( انتحر سنة : 2013م ) فقد كان صوتا صادحا بوجوب تخليص القرآن الكريم من آيات الحدود والقصص ، وتنقيته من مضامينها ليتماشى مع منطق العصر ، وليُدمجَ فيه ، كما أتمنى أن يراجع كتابي الأستاذ إبراهيم السكران : ( التأويل الحداثي للتراث ) و ( مآلات الخطاب المدني ) فسيجد فيهما ما يتصل بالموضوع ، ويغني تفاصيله الفكرية بكثير من الإضافات المعززة والموسعة للمدى المتصل بالأنوار ، ولا بأس به إن التفت في رجوعه لموضوع الأنوار إلى بعض الكتابات التراثية الأخرى التي ستمكنه من الانغماس والإحاطة أكثر ، وهنا أوجهه إلى بعض آثار الراغب الأصفهاني ( ت : 502 هج ) وعلى رأسها كتابه : ( تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين ) وكتابه : ( الذريعة إلى مكارم الشريعة ) .
وسيبقى للكلام والبحث في موضوع الأنوار أمكنة تضاف دائما بتفاعلاتها الخصبة والجديدة ، وبروافدها الفكرية المعطاءة ، فقد مرت بنا أقوال ومواقف من أزمنة مختلفة ، بعضها رحب به المؤلف لأنها تتساوق مع نظرته القرائية ، وبعضها الآخر أهمل لسبب مخالفته للشرط العلمي المتحكم في الكتاب ، وهكذا كل كتابات البشر تنطلق من محدد وتنتهي إلى هدف مرسوم ، ويبقى الخطر الداهم هو المدعي والمسوق لأفكار واهمة باسم العلم ، تتوافق مع بعض ما يروج في المجال مما يشاهد على صعيد تدمير الذات وانهزامها ، والدعوة إلى الإكبار المبالغ فيه بما عند الآخر ، والإشادة به وكأنه المنقذ الوحيد للإنسان من مستنقع معضلاته الوجودية الآسنة ، ومن حسن الحظ أن كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) تصدى للبعض منها بيقين معرفي ، ولغة دالة وفاضحة للسم المخبوء ، فعلينا أن نستفيد ونتعظ بعقولنا وحواسنا وأن نكون مستقلين بحرية تامة ، وملمين بقواعد العلم الصحيحة ، وألا نستصغر ذواتنا وإرثنا الحضاري الزاخر أمام كل الأسماء الفاعلة في مجال الفكر ، وألا ننبهر بلا دليل ، وألا نصفق بلا تمعن وتقليب ، وألا يأخذنا العجب السلبي الفارغ والمتناقض مع الملامسة النقدية السليمة ، والقائمة على القراءة والتحليل والفهم الصائب ضمن ما يقتضيه شرط المعرفة ، وما يتساوق مع حقيقة وجود الإنسان حين يغامر ، ويحلق ليطوي بُعد المسافات ، ويتقارب فكريا ، ويَنشُد الإفصاح عن مركزية رسالته الوظيفية الإيجابية على مجرى الكون ، والفوز بحلم السعادة الفكرية والوجودية برضى وتكامل الأرض والسماء .