الهيكل عند اليهود هو بيت الإله ومكان العبادة المقدس، وطوال الفترة بين عهد النبي موسى إلى عهد النبي سليمان عليهما السلام لم يكن لليهود مكان عبادة مقدس ثابت. وكانت لوحات الوصايا العشر توضع في تابوت أطلق عليه اسم “تابوت العهد” وخصصت له خيمة عرفت بـ “خيمة الاجتماع” ترحل مع اليهود أينما رحلوا. وقد مرت قصة الهيكل بعدة أطوار عبر التاريخ منذ بناه النبي سليمان عليه السلام والذي امتد حكمه بين عامي 965 و928 ق.م.
المسجد الأقصى بني قبل ظهور نبي الله سليمان بأكثر من ألف عام وبقي منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وأن الذي بنى المسجد الأقصى هو نبي من أنبياء الله سواء كان آدم أو إبراهيم أويعقوب وأن الذي بنى الهيكل هو نبي كذلك وهو سليمان وليس من المقبول عقلا أن يأتي نبي ليهدم مكانا بناه نبي قبله ليشيد على أنقاضه هيكلا له
الهيكل في عهد سليمان
بنى نبي الله سليمان بناء أطلق عليه اسم “الهيكل” لوضع التابوت الذي يحتوي على الوصايا العشر فيه، غير أن هذا البناء تعرض للتدمير على يد القائد البابلي نبوخذ نصَّر أثناء غزوه لأورشليم (القدس) عام 586 ق.م.
إحياء قصة الهيكل
ولم يثر اليهود موضوع البحث عن هيكل سليمان وإعادة بنائه إلا في القرن التاسع عشر في طيات البحث عن مزاعم تاريخية لليهود فلسطين تمهيدا لإصدار وعد بلفور الشهير والبدء في إقامة دولة قومية لهم على الأراضي الفلسطينية، فظهرت كتابات يهودية في كبريات الصحف الغربية تدعو إلى إعادة بناء الهيكل في فلسطين. ثم كانت أولى الخطوات العملية في هذا الاتجاه يوم 20/3/1918 حينما وصلت بعثة يهودية بقيادة حاييم وايزمن إلى القدس وقدمت طلبا إلى الحاكم العسكري البريطاني آنذاك الجنرال “ستورز” تطالبه بإنشاء جامعة عبرية في القدس وتسلّم حائط البراق (المبكى) في الحرم القدسي، إضافة إلى مشروع لتملك أراض في المدينة المقدسة.
ثورة البراق (1929)
وبعدما عرفت الحركة الوطنية الفلسطينية بتلك المطالب اندلعت ثورة شعبية عارمة عام 1929، ففي ذلك العام خرجت مظاهرة عنيفة اشتبك فيها المسلمون مع مجموعة من الصهاينة أرادوا اقتحام المسجد الأقصى وإقامة احتفالات دينية عند حائط البراق، وقد أسفرت تلك المظاهرات عن إنشاء جمعية “حراسة المسجد الأقصى” التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية، واشترك المسيحيون مع قادة الحركة الوطنية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية، فانتخبت في تلك الفترة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي المسيحي التي قامت بعدة زيارات خارجية للدول العربية وبعض العواصم الأوروبية تحذر من الخطر المحدق بالمسجد الأقصى ومحاولات اليهود بناء هيكل لهم على أنقاضه.
نص تقرير عصبة الأمم
ونتيجة لتلك الاضطرابات والتحركات السياسية التي صاحبتها شكلت عصبة الأمم لجنة دولية للتحقيق في ملكية الحائط، وأعدت تقريرها الذي نشر عام 1930، وجاء فيه ما نصه: “تصرح اللجنة استنادًا إلى التحقيق الذي أجرته بأن ملكية الحائط وحق التصرف فيه وما جاوره من الأماكن المبحوث عنها في هذا التقرير، عائد للمسلمين، ذلك أن الحائط نفسه ملك المسلمين لكونه جزءاً لا يتجزأ من الحرم الشريف.. والرصيف الكائن عند الحائط حيث يقيم اليهود صلواتهم، هو أيضًا ملك للمسلمين”.
حريق المسجد الأقصى
وقد أتى حريق المسجد الأقصى عام 1969 في إطار المحاولات اليهودية لهدمه وإقامة هيكل سليمان مكانه، ففي يوم 21/8/1969 قطعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية المياه عن منطقة الحرم ومنعت المواطنين العرب من الاقتراب من ساحاته، في الوقت الذي حاول فيه أحد المتطرفين اليهود إحراق المسجد الأقصى.
وقد اندلعت النيران بالفعل وكادت تأتي على قبة المسجد لولا استماتة المسلمين والمسيحيين في عمليات الإطفاء التي تمت رغماً عن السلطات الإسرائيلية، ولكن بعدما أتى الحريق على منبر صلاح الدين واشتعلت النيران في سطح المسجد الجنوبي وسقف ثلاثة أروقة.
وادعت إسرائيل أن الحريق تم بفعل تماس كهربائي، وبعدما أثبت المهندسون العرب أنه تم بفعل فاعل، عادت إسرائيل وادعت أن شاباً أسترالياً هو المسؤول عن الحريق وأنها ستقدمه للمحاكمة، ولم يمض وقت طويل حتى أذاعت بأن هذا الشاب معتوه ثم أطلقت سراحه.
واستنكرت معظم دول العالم هذا الحريق، واجتمع مجلس الأمن وأصدر قراره رقم 271 لسنة 1969 بأغلبية أحد عشر صوتاً وامتناع أربع دول عن التصويت من بينها الولايات المتحدة الأميركية، والذي أدان إسرائيل ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس. وجاء في القرار أن “مجلس الأمن يعبر عن حزنه للضرر البالغ الذي ألحقه الحريق بالمسجد الأقصى يوم 21/8/1969 تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ويدرك الخسارة التي لحقت بالثقافة الإنسانية نتيجة لهذا الضرر”.
وذكر بيان مجلس الأمن الدولي بقرارت الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة ببطلان إجراءات إسرائيل التي تؤثر في وضع مدينة القدس، وبتأكيد مبدأ عدم قبول الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، ونص على أن “أي تدمير أو تدنيس للأماكن المقدسة أو المباني أو المواقع الدينية في القدس، أو أي تشجيع أو تواطؤ للقيام بعمل كهذا يمكن أن يهدد بشدة الأمن والسلام الدوليين”.
سيناريوهات الهدم
تشكلت أكثر من 15 منظمة وجماعة دينية متطرفة داخل إسرائيل وخارجها تهدف جميعها إلى هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان على أنقاضه، وانقسمت هذه المنظمات في الوسائل المتبعة لتحقيق هذا الغرض إلى أربعة أقسام:
1- الأعمدة العشر
أولى النظريات تدعو إلى بناء عشرة أعمدة بعدد الوصايا العشر قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى، بحيث تكون الأعمدة على ارتفاع ساحة المسجد حالياً، ومن ثم يقام عليها “الهيكل الثالث”، ويربط هذا المبنى بما يعتقدون يأنه عمود مقدس يوجد حالياً كما يتوهمون في ساحة قبة الصخرة المشرفة.
2- الشكل العمودي
أما النظرية الثانية وهي شبيهة بسابقتها فتطالب بإقامة الهيكل الثالث قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى بشكل عمودي بحيث يصبح الهيكل أعلى من المسجد الأقصى، ويربط تلقائياً مع ساحة المسجد من الداخل.
3- الترانسفير العمراني
وتتبنى النظرية الثالثة فكرة ما يسمى بـ “الترانسفير العمراني” ومفادها حفر مقطع التفافي حول مسجد قبة الصخرة بعمق كبير جداً ونقل المسجد كما هو خارج القدس وإقامة الهيكل.
4- الهدم الكامل
أما آخر النظريات الأربع فتدعو إلى هدم المسجد الأقصى برمته وإنشاء الهيكل على أنقاضه.
جماعة أمناء الهيكل
من أهم الجماعات الدينية الإسرائيلية المتطرفة التي تعمل على إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى جماعة تطلق على نفسها اسم “أمناء جبل الهيكل”. وقد بدأت هذه الجماعة عملها منذ عام 1967 بالحفر تحت البيوت والمدارس والمساجد العربية المحيطة بالحرم بحجة البحث عن هيكل سليمان، ثم امتدت في عام 1968 تحت المسجد الأقصى نفسه، فحفرت نفقاً عميقاً وطويلاً تحت الحرم وأنشأت بداخله كنيساً يهودياً.
وتقوم هذه الجماعة بتصميم نماذج للهيكل والترويج لهذه النماذج بين اليهود والمسيحيين الأصوليين الذين يعتبرون قيام إسرائيل عام 1948 تأكيداً لنبوءات التوراة حول نهاية العالم وإحلال مملكة جديدة مع المجيء الثاني للمسيح بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة، وينتظر هؤلاء المسيحيون – وفقا لتصوراتهم – اكتمال خطة الرب بعد تأسيس إسرائيل.
ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال عدة ملايين يؤمنون بهذه العقيدة من بينهم رؤساء ووزراء سابقين في الإدارة الأمريكية، ويعتبرون مصدرا مهما للدعم السياسي والمالي لنشاطات هذه الجماعة، ومن أهم ممولي هذه الجماعة المليونير الأميركي المسيحي الأصولي تيري رازنهوفر.
وقد أنشأت مدرستين تلموديتين بالقرب من حائط البراق لتدريب مائتي طالب على شعائر العبادة القربانية وهي الشعائر الخاصة بالهيكل، وإحدى هذه المدارس “معهد جبل الهيكل” (يشيفات هبايت) وظيفتها الأساسية التعجيل ببناء الهيكل.
الهيكل والمزاعم الصهيونية
وقد حاولت الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر استخراج قصة الهيكل من طيات التاريخ القديم واستغلالها كزريعة لاحتلال فلسطين، في حين أن الحقائق التاريخية تثبت أن اليهود لم يكن لهم كيان سياسي إلا لمدة 70 عاما وهي المدة التي تولى فيها نبيا الله داود وسليمان عليهما السلام الملك في الفترة من سنة 1000 ق.م حتى سنة 928 ق.م، في حين بقيت فلسطين عربية إسلامية منذ الفتح الإسلامي لها في القرن السابع الميلادي حتى الآن، والفترة القصيرة التي كون فيها اليهود مملكتهم لا تخول لهم سندا تاريخا للمطالبة بفلسطين.
ويؤكد المتطرفون من الحركة الصهيونية على زعمهم بأن مكان الهيكل الذي دمر عام 70 هو نفسه المكان الذي بني فيه المسجد الأقصى. وقد فند العديد من المؤرخين والأثريين المسلمين هذه المزاعم، ومن ذلك أن المسجد الأقصى قد بني قبل ظهور نبي الله سليمان بأكثر من ألف عام وبقي منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وأن الذي بنى المسجد الأقصى هو نبي من أنبياء الله سواء كان آدم أو إبراهيم أويعقوب وأن الذي بنى الهيكل هو نبي كذلك وهو سليمان وليس من المقبول عقلا أن يأتي نبي ليهدم مكانا بناه نبي قبله ليشيد على أنقاضه هيكلا له، ومن ذلك أيضا أنه قد ورد في المصادر المختلفة إشارات إلي بناء الهيكل وهدمه عدة مرات, لكن لم ترد إشارة واحدة إلي هدم المسجد الأقصي.. مما يؤكد أن مكان الهيكل ليس محل المسجد الأقصي، وأخيرا فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلية قامت بالحفر في مناطق متعددة أسفل الحرم القدسي منذ 1967 حتي الآن, ولم تجد أي أثر يدل على أن هذه المكان كان فيه في يوم من الأيام هيكلا.
وبرغم ذلك, فإن الصهاينة لايزالون يصرون على أن الهيكل جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، وأن هذا الحائط هو آخر أثر من آثار هيكل سليمان ويطلقون عليه حائط المبكي.. إلا أن هذه المقولة لا تستند كذلك إلي أي أساس ديني أو تاريخي أو قانوني، وهناك تناقض واضح في مصادرهم التاريخية التي يعتمدون عليها في هذا الجانب.
تناقض المصادر اليهودية
توجد ثلاث روايات يهودية فيما يتعلق بمكان الهيكل بعض المصادر تقول أنه بني خارج ساحات المسجد الأقصي, وتشير مصادر أخري إلي أن مكانه تحت قبة الصخرة.. في حين تدعي مصادر ثالثة أنه تحت المسجد الأقصي، وقد اختلفت أحجام وأشكال النماذج التي صمموها للهيكل تبعا لهذا مما يدحض تلك الروايات جميعا.
فكرة اقتسام الحرم
ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة اقتسام الحرم القدسي الشريف والتي خرجت من عباءة الادعاء بأن الأديان الثلاثة لها حقوق متساوية في القدس، وهي مقولة ظاهرها البراءة. وقد عبر عن تلك الفكرة بوضوح رئيس المجلس البابوي للحوار مع الأديان الكاردينال البريطاني إدوارد كاسيدي حينما قال “إن القدس عاصمة إسرائيل، وهذا أمر مهم جدًّا لا ريب، لكنها مهمة أيضًا بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون فيها، وطالب بأن يكون لليهود والفلسطينيين والمسيحيين مكان في المدينة”.
ولاقت هذه الفكرة تأييدا كبيرا من قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي حتى من غير المتدينين منهم، ومن هؤلاء على سبيل المثال رئيس بلدية القدس إيهود أولمرت الذي يرفض تعريف الحرم بأنه موقع إسلامي، ونقلت عنه صحيفة هآرتس قوله “إن الحرم ليس موقعًا إسلاميًّا.. إن جزءاً منه فقط مرتبط بالإسلام، الحرم هو قبل كل شيء موقع يهودي واسمه يدل على ذلك: جبل الهيكل – بيت المقدس – المقدس اليهودي”.
والموقف نفسه تبناه وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسي بيلين الذي دعا قبل أيام في مؤتمر حضره بعض الفلسطينيين إلى وقف ما أسماه بالعنف والبحث عن صيغة للتعايش، وكان قد أصر في حديث لصحيفة الحياة اللندنية الصادرة يوم 19/8/2000 على تسمية الحرم القدسي بجبل الهيكل الذي اعتبره أقدس الأماكن بالنسبة إلى اليهود، وأقدس من حائط المبكى، لذلك فلابد من منفذ غير مقيد به. وفي 29/7/2001 قام إسرائيليون ينتمون إلى جماعة أمناء الهيكل بوضع حجر الأساس لهذا الهيكل بشكل رمزي مما أجج مشاعر العرب والمسلمين.
مستقبل قلق
وإزاء هذه المواقف المتشددة داخل المجتمع الإسرائيلي التي تتقارب فيها أطروحات اليمين واليسار إلى حد كبير فيما يتعلق بضرورة بناء الهيكل، فإن الأوضاع السياسية والأمنية في العالم العربي باتت مرشحة لأن تدخل مرحلة من الخطورة لم تعهدها من قبل.
الجزيرة: محمد عبد العاطي