تلتصق كلمة بهجة بمدينة مراكش و سكانها ترافقهم أينما حلوا و ارتحلوا، حتى صارت علامة كرسها التاريخ لتمييز هذه المدينة و أبنائها في مختلف ربوع المغرب، و أضحى كل من يغترب عن مدينته من المراكشيين يلقب بالبهجة كما لو كانت المدينة بكاملها تحل في روحه و تسكن جوانح نفسه .
وبما أن المدينة ليست فقط مجالا وإنما صيغة في الوجود وأسلوب في التعامل مع الذات و الآخرين ونمط من العيش، وتأويل للذاكرة، فقد كانت البهجة تعني صيغة خاصة في الوجود واسلوب متفرد في العيش لدى المراكشيين، أساسها الحبور و المرح و خفة الدم و استثارة الانشراح المبهج في الحياة و جعله شيئا راهنا في كل لحظة و إبداع آفاق مختلفة لتجريب قيمة الفرح و اختبارها عينيا في الحياة . فها هو الأديب الحسن بن اليماني ” التنبيه المغرب عما عليه الآن حال المغرب ” قائلا :
” اعلم أنه لا خلاف في كون مراكش مدينة كثر خيرها، و انتفى ضيرها، وانبسطت أرضها، و تفسحت أرجاؤها و طولها و عرضها، و فيها من البهجة و الإشراق و الانشراح العام في أنحائها و الآفاق، ما لا نزاع فيه بين الناس، ولا يتطرق إليه احتمال ولا التباس، وفيها من رخص الأسعار وكثرة الخيرات والثمار والأشجار المنوعة الأزهار، والنخيل الكثير الزخار، ما لا يختلف فيه اثنان ولا ينكره إنسان.. وأنها كثيرة المرافق، بعيدة عن العوائق والبوائق وهي بلدة تقبل من جاءها، وتؤنس الغريب إذا أتاها وقصد أرجاءها، و استمطر سماءها، و تنسيه في ذويه و أهله، و تال جهدا في لم شعثه و جمع شمله، و كل الناس لهم حنين إليها و اشتياق، لتيسر المعاش بها و الأرزاق، و بها من الحدائق و الجنات، و البساتين الموفرة الخيرات، و المنتزهات الفائقات، المتكفلة المسرات، ما لا يوجد في غيرها من مدن المغرب على الإطلاق و العموم و الاستغراق ..”
و يضيف في وصف أهلها :
” .. و حق لها أن تسمى شام المغرب و تلقب بالأنيس المطرب.. فمن وصلها لا تسمح نفسه بعد بفراقها، و لا تطاوعه في الانفصال عنها و طلاقها، فهي تألف كالمومن و تولف، و ترأف و تشفق و تتعطف، فالقلوب بها مستريحة، و اعتقادات أهلها في جانب الله تعالى صحيحة، يقنعون بالقليل، و يعاملون بالجميل و يتوكلون على الله الغني الجليل، و تلك الطباع فيهم مغروزة و راياتها المرفرفة في ساحاتهم مركوزة، لذلك ينسبون لكثرة الصلاح و يرجى لهم النجاح و الفلاح..” ( ص.129 ـ 130 حققه العلامة محمد المنوني ).
نفس الصفات و الخصائص استوقفت صاحب الرحلة المرحوم ابن الموقت الذي قال في بيان ذلك على لسان محاوره في الرحلة :
” إن أول مظهر من مظاهر جمال الطبيعة الذي يشاهده الوافد على هذه العاصمة المراكشية تلك الابتسامات الدائمة التي يراها مرسومة في ثغر كل منظر من مناظرها الخلابة و في وجوه جميع سكانها و أهاليها بل في طلعة كل ما تضمه جدرانها، و تحيط به أركانها ، فأينما أدرتما نظركما تريا ازدهاء ظاهرا، و ازدهارا باهرا لا يلبث أن ترتسم على مرآة محياكما صورة منه و تستولي على مشاعركما عوامله القوية و إن كنتما مهمومين مغمومين ..”
ويضيف في وصف بهجة نفوس المراكشيين :
” و أينما أدرتما بصركما أبصرتما انشراحا محسوسا فسكانها دائما منشرحو الصدور متهللو الوجوه لا يعرفون معنى الكدر و العبوس و معالمها أبدا تبعث في النفوس انشراحا كأن طينتها عجنت بماء السرور و مزجت بمادة الانبساط و الاغتباط ..”
لكن لماذا هم هكذا سكان هذه السرور ويبهج الحياة ؟ هل هناك جذر تاريخي أو اصل طبيعي لتشكل هذه الميل التلقائي نحو البهجة و الانشراح ؟ فالحياة عندهم كما لو كانت لم تمنح أصحابها إلا لكي يكون فرحا و الإيمان لا يكون صحيحا إلا إذا وهب صاحبه الرضى عن النفس الذي يترجم نفسه في الاحتفال بالذات و الانتشاء بها. و حتى سنوات القحط و البؤس التي دونتها ذاكرتهم ” كعام التوفيس ” و ” عام الجوع ” و ” عام الطاعون ” و ” عام البون “.. كانوا يواجهون فيها بؤسهم بالفرح et البهجة .
من التفسيرات الطريفة حقا لهذه الظاهرة، ما أورده ابن المؤقت في كتابه ” الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية على لسان محاوره في فقرة حملت هذا العنوان الدال : ” الحكمة في أن مدينة مراكش و أهلها في سرور” حيث قال :
” إن مؤسسها رحمه الله تحرى بواسطة مُنجِّميه وضع أول حجر من تأسيس بنائها في برج العقرب الذي هو برج الغبطة و السرور، لتبقى دائما دار سرور و حبور. و ذاك السر في كون السلو و النشاط يغلب على سكانها و يفيض من بين أركانها .”
فحسب هذا المنطق فالمراكشيون مرحون لأن مدينتهم بنيت على برج العقرب كما أراده لها مؤسسها يوسف بن تاشفين !! و من ثمة كان قدر كل من يعمر بها و يشرب من مائها و يحيا بهوائها أن يؤخذ بما أخذت به مدينته و أن يرصد طالعه على البرج الذي بنيت عليه .
إلا أن ابن المؤقت يضيف فيما بعد تفسيرا آخر يربطه بطقس مراكش إذ يقول :
” و قال آخرون: إن السر في روح السرور و الانبساط التي يشعر بها المقيمون في مراكش هو حرارة جوها، لأن الحرارة من شأنها أن تنعش النفوس و الأرواح، و تحرك فيها كوامن المسرات و الأفراح ..”
ها قد صار الحر الذي وجد فيه ابن خلدون واحدا من أهم العوامل المبطئة للتطور لأنه يجعل الأجسام تميل للتثاقل والنوم و العقول تستسلم للتراخي و الكسل، صار مع ابن المؤقت سببا حاسما في إشاعة روح الحبور و المرح في نفوس سكان المدينة.
أما صاحب “الإعلام من حل بمراكش و أغمات من الأعلام” فقد أرجع تسمية مراكش بالبهجة إلى كثرة حدائقها اتساع جنانها حيث قال في نص أورده الدكتور حسن جلاب :
” إن لكثرة العراصي بمراكش أثرا واضحا في حياة السكان وثقافتهم، بل لقد أدى ذلك إلى ظهور اسم آخر نافس اسم المدينة الأصلي و هو البهجة” ( عراصي مدينة مراكش و دورها في تكوين الشباب و تثقيفه مجلة دعوة الحق ع345 يوليوز 1999 ).
قامت هذه العراصي بدور كبير في حياة أهل مراكش انطبعت آثاره في أسلوب عيشهم. على الخروج إلى النزهة مرة واحدة في الأسبوع على الأقل و شجع الحرفيين على تنظيم النزه بها للترويح عن النفس من عناء العمل المضني.. فنشأ أدب النكتة و أغاني الكف، و الطنجية المراكشية.. و هي أشياء عرف بها المراكشي ـ و ما يزال ـ و تميز بها عن غيره .”
و كانت “النزاهة” هذا التقليد الجميل الذي أجهز عليه التوسع الاسمنتي البشع بعد التهامه لأغلب هذه الجنان و العراصي و الحدائق التي كانت تستوي في مختلف أرجاء المدينة وفي محيطها، وجها آخر لهذا الذي أتقنه المراكشيون في صنع لحظات الفرح و تهييئ فضاءات المرح و السرور فكانت الأسر تنخرط بشكل جماعي في هذا الطقس، موفرة الوقت و المجهود و المال لذلك بحماس منقطع النظير. حيث كانت تقضي أياما جميلة في حضن هدوء هذه العراصي و الجنانات مستعيدة ذكرى الجنة التي لم تعد مفقودة و إنما حاضرة بشكل عيني في حياتهم على الأرض. و ينفقون أوقاتهم هذه في إبداع مواقف مبهجة من غناء و رقص و نكت و اصطناع مقالب مرحة لبعضهم البعض ..
و لم تكن العراصي تهيئ هذا الفضاء الساحر للتنزه فقط بلعبت دورا كبيرا في الإشعاع الثقافي و الأدبي كما أشار إلى ذلك الأستاذ جلاب، حيث كانت مجالا تعقد فيه المنتديات الأدبية et اللقاءات الفكرية، كالأسبوع الأدبي الذي نظم في آخر رجب وبداية شعبان من سنة 1354هـ/1935م et الذي تم فيه تكريم الشاعر الطاهر الأفراني بعرصة البياز.. et أشار إليه المختار السوسي في المعسول قائلا :
” تلقته مراكش بكلتي اليدين و أدباء الشباب متوافرون في الرميلة، فتدفقت القوافي و الحفلات في أسبوع سميناه: ” أسبوع الأدب ” قد كان أسبوعا أدبيا رائعا .”
و ألقى عدد من الشعراء قصائد في حق المحتفى به و في مقدمتهم المختار السوسي و محمد بن عبد الله الروداني و أحمد شوقي الدكالي و الحسن التناني، وحضر هذا الأسبوع الأدبي عدد كبير من أعلام المدينة كعبد الله إبراهيم و عبد القادر حسن و مولاي أحمد النور و شاعر الحمراء الذي ألقى قصيدة في توديع الشاعر الطاهر الأفراني .
. ” فأقيم له ـ ما يسميه المراكشيون ـ يوم الراحة في إحدى عرصات المدينة، و تتابع الشعراء يلقون القصائد في المناسبة، إلا أن أغلبها لم يدون منهم: الحسن التناني، و علي بن المعلم التاورتي و غيرهم..” ( حسن جلاب)
لماذا المراكشيون مرحون إذن ؟ هل لأنهم عاشوا في فضاء استوعب فكرة الجمال ؟ أم لأن مدينتهم بنيت على برج العقرب ؟ أم لأن حرارة طقسها تشيع روح الحبور و السرور في النفوس ؟ كيفما كانت وجاهة هذا التفسير أو ذاك، فالأكيد أنهم هكذا لأن تصورهم عن الحياة سمح لهم ذلك. فقد عاشوا و هم مقتنعين بأنهم جديرون بمتعتهم و فرحهم، و أن مهمتهم هي إضفاء أقصى حد من الروعة على حياتهم الشخصية كما لو كانوا في ذلك يتمثلون عبارة ميشيل فوكو: ” إن أهم أثر فني يجب الاعتناء به، و أهم موضوع يجب أن نطبق فيه قيما جمالية هو نفسنا، و حياتنا الشخصية و كينونتنا ” ربما كان المراكشيون أبيقوريين دون أن يدروا بذلك ؟! ربما