المراكشية: محمد الطوگي//
“من لم تكن له في المنطلق أصول لا يمكن بالتالي أن تكون له استقلالية ولا سيادة“ *
Paul Ricœur
———————————-
في اختيار فضاء مشروع مدينة ، تمت مراعاة مواصفات استراتيجية، كالأمن الغذائي القائم على وفرة المياه، واتساع الفدادين، وخصب التربة ، ونقاء الهواء (12)، والتحصن الطبيعي الدارئ من تهديد الأعداء.
مداخلتنا تقتضي الوقوف عن دلالة كل من ، طبوغرافية، ومدينة، ومسجد جامع، وساحة، لنتطرق بعد ذلك إلى الإشكالية المشار إليها في عنوان المداخلة .
1- الطبوغرافيا : Topographie، تتكون لاتينيا من topos وتعني مكان،و graphein بمعنى وصف، وبذلك التركيب يُصبح المفهوم وصف الأمكنة. هذا عن الدلالة اللغوية .
وتدل في الاصطلاح على فن مسح وتخطيط مختلف أشكال الأراضي ؛بالتفاصيل والوظائف والمعالم التي تشتمل عليها طبيعيا وعمرانيا (1).
2- المدينة : المدلول المجسد ماديا للمدينة، بصفة عامة ، من الكثرة بمكان،وقد مثلته معالم وآثار ضاربة في القدم تحيل على حضارات سادت ثم بادت ؛يونانية ورومانية، وفرعونية وعربية … الخ وتلك المآثر واللقى مؤشر على ازدهارالمدن رغم اندراسها. لكن الدين الإسلامي”مثل منعرجا تاريخيا وحضاريا جديدا في تاريخ الإنسانية قاطبة، فاتخذت المدينة الإسلامية مفهوما متميزا عن المفهوم الحضاري العام” (2).
فالمدينة في المعجم اللغوي العربي العام راوحت بين دلالة الجذرين : مدن، ودين. “مَدَن بالمكان أقام به ، فعل ممات، ومنه المدينة فهي فعيلة، وتجمع على مدائن بالهمز، ومُدْن ومُدُن بالتخفيف والتثقيل.
وفيه قول آخر أنه مَفْعِلـَة من دِنْتُ أيْ مُـلِكْتُ …
وقال ابن بري : لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مدن، وفلان مدَّن المدائن، كما يقال مصَّر الأمصار، قال : وسئل أبو علي الفسوي عن همزة مدائن ، فقال فيه قولان، من جعله فعيلة من قولك مَدَن بالمكان أي أقام بههمز، ومن جعله مَفْعِلة من قولك دِين أي مُلِكَ لم يهمز، كما لا يهمز معايش، والنسبة إليها مديني. والمدينة اسم مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، غلبت عليها تفخيما لها، شرفها الله وصانها، وإذا نسبت إلى المدينة فالرجل والثوب مدني، والطير ونحوه مديني لا يقال غير ذلك.
ويقال للأمة مدينة أي مملوكة، ويقال للعبد مدين وقد فسر قوله تعالى : “إنا لمدينون” أي إنا لمملوكون بعد الموت.
ومدن الرجل أتى المدينة، وقال أبو منصور : هذا يدل على أن الميم أصلية وإذا نُسِبَ إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قلت : مَدَنِي وإلى مدينة المنصور مَدِينِي ، وإلى مدائن كسرى مدائني، للفرق بين النسب لئلا يختلط ” (3).
ومن التوفيق بين الدلالة اللغوية لكل من الاشتقاقين ؛ مَدَنَ وَدَيَن نستشف مواصفات وشروط المدينة والتمدن، من إقامة بالمكان فلا حضارة مع الارتحال وعدم الاستقرار، وتفيد المكاسب، والقانون، والمَلِك، أو السلطان الذي يسهر على تطبيق القانون وضمان الأمن والاستقرار والتحضر. ولخصوصية المدينة المنورة دارت النسبة إليها بين تطبيق قاعدة النسب والخروج عنها.
من خلال هذه الفذلكة اللغوية نعلم أن كلمة مدينة تعتمد عناصر جغرافية وبشرية ومعمارية، تدخل في علاقة جدلية فيما بينها لتعطي مفهوم المدينة. وحينئذ فالمورفولوجية العامة للمدينة تتلخص في موقع جغرافي وتجمع بشري وعمارة (4).
3 – المسجد الجامع : المسجد لغة مفعِل بالكسر اسم لمكان السجود،والمسجَد بالفتح اسم للمصدر. قال أبو زكرياء الفراء كل ما كان على فَعَل يفْعُل كَدَخَل يدخُل، فالمفْعَل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا لا يقع فيه الفرق، مثل دَخَل مَدْخَلا، ومن الأسماء ما الزموها كسر العين، منها المسجِد، والمطلِع، والمغرِب،والمشرِق وغيرها، فجعلوا الكسر علامة للاسم ، وربما فتح بعض العرب، فقد روي المسجِد والمسجَد، والمطلِعْ والمطلَع (5). ، قال والفتح كل جائز وإن لم نسمعه. قال في الصحاح : والمسجَد بالفتحة جبهة الرجل حيث يصيبه السجود. قال أبو حفص الصقلي في كتاب تثقيف اللسان، ويقال مَسْيَد حكاه غير واحد، فتحصل فيه ثلاث لغات والمِسْجَدُ (6) بكسر الميم الخُمْرة وهي الحصير الصغير قاله العسكري في التصحيف (7).
أما المسجد شرعا : “فكل موضع من الأرض يتخذ للصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم “جعلت لي الأرض مسجدا” وهذا من خصائص هذه الأمة ، قال القاضي عياض؛ لأن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقنون طهارته ، ونحن خصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنا نجاسته، وقال القرطبي : هذا ما خص الله به نبيه، وكانت الأنبياء قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبِيع (جمع بيعِه بكسر الباء) والكنائس (8).
وقد سميت المساجد كذلك ” لما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه، اشتق اسم المكان منه، فقيل مسجِد، ولم يقولوا مركع، ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس، حتى يخرج المصلى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه ، وكذلك الربط (9) والمدارس فإنها هيئت لغير ذلك” (10).
أما الجامع : فهو وصف للمسجد، وإنما وصف به لاجتماع الناس فيه لإقامة الجمعة. والمسجد الجامع الذي يجتمع فيه الناس وتقام فيه الجمعة، ثم أخذوا يطلقون الوصف أي الجامع على كل مسجد تقام فيه الجمعة. وفي هذه العصور المتأخرة توسعت الدلالة فأطلق الجامع على كل مسجد يصلى فيه (11).
4- الساحة : وهي في هذه المداخلة رحبة مراكش المشهورة بساحة جامع الفناء، وهي من الساحات المصنفة عالميا ضمن التراث العالمي اللامادي، ترتاد من قبل ساكنة مراكش، والسياحة الداخلية والخارجية للاستمتاع بالفرجة التي تعرضها مختلف حلقاتها. وقد ساهم في إذاعة صيتها عالميا ؛ فنانون وأدباء أجانب مثل إلياس كانتي مبدع رواية أصوات مراكش الحائزة على جائزة نوبل،و كويتي صولو الذي استهوته المدينة ، فاستقر بها وسكن في حي القنارية الذي يعتبر مدخلا من مداخل الساحة التي عشقها وكان من أهم المساهمين في استصدار قرار الاعتراف بها دوليا من لدن اليونسكو.
علاقة المسجد بتخطيط المدينة الإسلامية أو نشأة عمارة المدينة الإسلامية :
يراعى في اختيار فضاء مشروع المدينة ، مواصفات استراتيجية، كالأمن الغذائي القائم على وفرة المياه، واتساع الفدادين، وخصب التربة ، ونقاء الهواء (12)، والتحصن الطبيعي الدارئ من تهديد الأعداء.
وأول ما يبنى بعد استكمال هذه المواصفات المسجد، وبالقرب منه القصر للعلاقة بين الديني والسياسي ثم الأسواق، وعلى مبعدة رمية رمح تبنى المساكن،ويأتي السور بعد ذلك ليحيط بكل ذلك إحاطة السوار بالمعصم، وخارجه تقام محترفات الصناعات الملوثة، كالدباغة، وأفران الجير والفخار الخ. والبدء بتأثيثالفضاء بالمسجد ومراكز القرار سنة متبعة لأول مسجد بني في الإسلام.
لقد ” كان الإعلان عن مولد المدينة الإسلامية بعد سبعة أشهر من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب (13) من أرض الحجاز، فإن أهل يثرب أقطعوا الرسول أرضا مواتا، وتولى بنفسه توزيعها على المهاجرين معه وعلى الأنصار، وأقام مسجده ومساكنه، وانتظمت الأحياء أو الخطط حول المسجد،وجعل مصلى العيد خارجها، وأنشأ السوق حولها، وتفرعت عن المسجد شوارع رئيسة تمتد شمالا وغربا وجنوبا، واستعمل دور بعض الأنصار للضيافة واستقبال الوفود، وحفر الخندق شمال المدينة وأقام سورا داخله حول المنازل القريبة منه،واهتم بالنظافة ومرافق السكان فأقام المنشآت الاجتماعية .
وقد أطلق على يثرب اسم المدينة لأنها مثلت تحولا في تاريخها، جاء ضمن التحول التاريخي الذي عرفته البشرية كلها، وهو يتمثل في تطوير جوهري لنفوس القبائل التي كانت تسودها العصبية والتشتت، وذلك بتوحيدها بفضل نظام سماوي جديد واضحة معالمه، بينة أهدافه .
وترجمت عن هذه الوحدة عمارة المدينة التي نظمت حياة المسلمين وفق الدستور الجديد المتمثل في القرآن، وأصبحت المدينة المنورة مثلا يحتذى في كل منشآتها الدينية والمدنية” (14) فالرؤية الإسلامية الجديدة اقتضت تخطيط مدينة منسجمة مع نسقها.
فالتخطيط جامع بين التصور والبناء والتنظيم والتنسيق والخصوصية،فخروج المدينة الجديدة الإسلامية عن عمارة مدن الحضارات السابقة ناجم عن تغيير رؤية العالم ، فهناك علاقة جدلية بين ممارسة تدبير الشأنين الروحي والعام وسلطة البناء، إن أناقة الرؤية الإسلامية الجديدة وجماليتها وروعتها وهديها إلى خير الدنيا والآخرة، استدعت مدينة في مستوى ألَقِها ونبل مقاصدها (15).
أكدنا على أن تخطيط المدينة المنورة كان هو الطابع العام الذي ستحتذيهالمدن الإسلامية الوسيطة مشرقيها ومغربيها، ونموذجنا هو مراكش .
تخطيط مدينة مراكش ونواتها مسجدها :
تؤكد المصادر التاريخية والجغرافية وكتب التصوف والمناقب والتراجم (16) والسير، ما ذهبنا إليه من مواصفات اختيار مشروع فضاء المدينة ، يقول ابن عذاري :
“في هذه السنة (461هـ) ضاق المجمع بمدينة اغمات أوريكة عن الخلق فيها، فشكا أشياخ أوريكة وهيلانة بذلك إلى الأمير أبي بكر بن عمر مرة بعد أخرى، إلى أن قال لهم : عينوا لنا موضعا أبني فيه مدينة – إن شاء الله تعالى –وكان سكناه مع إخوانه في الأخبية حتى ابتنى بزوجه زينب النفزاوية هذا العام، فزاد الخلق باغمات … فوقع تدبيرهم أن يكون موضع تلك المدينة بين بلاد هيلانة وبين بلاد هزميرة ، فعرفوا بذلك أميرهم، أبا بكر بن عمر، وقالوا له : قد نطرنا لك موضع صحراء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام، ولا تنبت إلا السدروالحنظل … فنظروا له ذلك الموضع لكي يكون وادي نفيس جنانها، ودكالة فدانها، وزمام جبل درن بيد أميرها طول زمانها. فركب الأمير أبو بكر في عسكره مع أشياخ القبائل فمشوا معه إلى فحص مراكش وهو خلاء لا أنيس به ، فقالوا له : ابن هنا مدينة تكون متوسطة بين هيلانة وهزميرة ” (17) .
فهذا النص يشير إلى مواصفات الموضع الذي اختير لتشييد المدينة. فمن حيث أمنه فهو بمبعدة عن أغمات بحوالي اثني عشر ميلا حسب الادريسي (18) وفي ذلك إشارة إلى مأمنه من هجمات مصامدة درن. فجبل درن – الأطلس الكبير – هبة ربانية سُخر ليدرأ عن مراكش عواتي الصحراء وسَمومها وأنواءَها،ويغذق عليها من ذوب ثلوجه مياها سطحية متدفقة في مجاري وادي اوريكة ونفيس، وأخرى جوفية مدخرة، ناهيك عن المناخ الصحراوي الجاف.
أما المسجد الذي نعتبره نواة للمدينة وهي وليدته فهو جامع علي بن يوسف، فهو المسجد العام لا الخاص بقصر الحجر حيث “يستشف من رواية أبي علي صالح أن البدء في بناء ذلك المسجد كان في عهد علي، بعد أن أمر بهدمه ؛ نظرا لضعف مادة بنائه القائمة على الطوب والطين فقط، وخلال هذا البناء الجديد أقيمت إلى جواره بعض المنازل، كما يستشف من نفس الرواية أن قبلته عرفت تصويبا ؛ حيث اجتمع أكثر من أربعين فقيها، ضمنهم ابن رشد الجد – أبو الوليد محمد بن أحمد كان حظيا عند علي بن يوسف – وحولوا محرابه نحو الاتجاه الصحيح” (19).
ولعل مسجد ابن يوسف هذا هو نفسه الحامل لاسم مسجد السقاية ” يذكر الادريسي أن أهل مراكش، فيما يتعلق بالماء الصالح للشرب، كانوا يعتمدون على مياه الآبار، إلى أن جلب إليهم علي بن يوسف ماء من عين تبعد عن المدينة بأميال، ثم طورها بعد ذلك الموحدون، خاصة في عهد الخليفة الموحدي أبي يوسف، الذي أرسل في وسطها ساقية تشقها من القبلة إلى الجوف، ومنها استنبطت سقايات لشرب الناس، كما أقيم صهريج كبير لتجميع المياه” (20)، ولهذا المسجد أهدى الخليفة الموحدي المرتضى المصحف الذي خطه بيمينه ؛ ولا تزال إلى اليوم تجزئة منه بخزانة ابن يوسف حاملة لإهدائه لمسجد السقاية ،وقد كشفت الحفريات عن خزان للماء قبالة مسجد ابن يوسف بمقربة من ميضأة البعديين. وقد أعجب مارمول الذي كان متأخرا بهذا الصهريج الكبير الذي يغذي سائر مرافق المدينة بالمياه (21) . وبمجاورة المسجد لهذا الصهريج أو السقاية،يصبح مسجد ابن يوسف جامعا بين مفهوم الشريعة لغة واصطلاحا.”فالشريعة في اللغة تعني الماء الغزير الذي يستسقى من غير احتياج إلى رشاء أو دلاء (22)، ومنه المثل أهون السقي التشريع. أما التشريع الاصطلاحي فقد اعتبره الشاطبي في الموافقات شاملا للأحكام العملية والأحكام الأصلية العقدية،ويسمى حتى مكي القرآن بالتشريع مع أن جل ما فيه متصل بهذه الأحكام العقدية” (23) .
وهكذا نرى خضوع البنيات العمرانية في المدينة المغربية الوسيطة، من خلال نموذج مدينة مراكش، للفكر والنظر العمراني الإسلامي والتقنيات المستمدة من تعاليمه، وقد تفطن المستشرقون المنصفون إلى خصوصية المدينة الإسلامية الوسيطة وتميزها عن بقية مدن الحضارات الآخرى. فهذا ليفي بروفنسال (24)(1894-1956) عمدتهم، بل عمدة الباحثين في تاريخ الغرب الإسلامي، ينص في محاضرة قيمة له على أن “المركز الحقيقي الذي يعد قلب المدينة الخفاق هو المسجد الجامع وما يلاصقه. والمسجد الجامع، في أي مدينة إسلامية لها شيء من الأهمية، ذو منزلة تعلو على كل إطناب، ذلك بأنه ليس بيتا للعبادة فحسب،ولكنه المركز الذي تدور حوله الحياة الدينية والعقلية والسياسية في المدينة. وليس من المبالغة أن نقول إن مكانة المسجد الجامع في المدينة الإسلامية شديدة الشبه بمكانة الأجورا Argora أو الفوروم Forum في المدينة اليونانية أو الرومانية. فكما أن السلطان الإسلامي يعتبر صاحب السلطتين الدينية والسياسية، كذلك يكون للمسجد دور مزدوج يقابل ذلك .
فقد كان المسجد في المدن الإسلامية الأولى ؛ كالمدينة والبصرة والكوفة والفسطاط يقام في وسط المدينة وبجانبه مقر الولاة ؛ لأن صاحب السلطان هو صاحب الصلاة وصاحب الخطبة ، وإنما يكون اتصاله برعاياه من فوق كرسي الخطبة الذي هو المنبر، فمن فوقه تلقى الخطب الدينية، ومن فوقه تعلن للناس الأخبار الرسمية ؛ كنتائج الغزو وإبلاغ البيعة والإعلامات الخاصة بجباية الأموال. وقد كان المسجد أيضا مقر الإدارة الإسلامية الأولى، ونحن نعلم أنها لبساطتها كانت تحتمل ذلك، ثم إن المسجد ظل وقتا طويلا المقر الوحيد لمجلس القاضي، والمركز الوحيد للتعليم الديني .
فالمسجد الجامع على العموم، لا مقر الحاكم ، هو الذي يجب أن يتخذ مفتاحا لكل دراسة طبوغرافية أو تاريخية في أي مدينة إسلامية . والواقع أنه من النادر أن يصف جغرافي عربي مدينة إسلامية دون أن يبدأ بجملة من الأخبار عن المسجد الجامع فيها، بحيث إنه يذهب بالنصيب الأكبر من الوصف. فالإدريسي عندما يصف قرطبة يخص جامعها بالنصيب الأكبر من الوصف،وكتاب مثل زهرة الآس الذي يتناول فاس في عصر بني مرين يكاد يقتصر على وصف جامعيها ، جامع القرويين وجامع الأندلس.
ثم ملاحظة أخرى لا بد منها وهي أن جوهر الحياة الاقتصادية في المدينة إنما يرتكز في جوار المسجد الجامع، والأغلب أن يفصل شارع واحد بين بيت العبادة والأسواق التي تقام فيها تجارة المنتجات الصناعية وسلع الترف وغير ذلك من تجارة القيسارية ” (25).
سقنا هذا النص ، بالرغم من طوله، لوزنه العلمي ونفاسته ودلالته على أن المسجد هو مفتاح المدينة الإسلامية ؛ الديني والسياسي والإداري والاقتصادي والثقافي . وهذه نظرية عامة لا تستثنى منها أي مدينة إسلامية .
ومن علماء الاستشراق الذين انتبهوا لهذا النسق وأخذوا به عمليا، أثناء زيارتهم العلمية لمدينة مراكش جوزيف شاخت (26) المختص في التشريع الإسلامي، صنف فيه ، وكتب عن مجموعة من مواده في الموسوعة الإسلامية ، زار شاخت مدينة مراكش في غضون الخمسينات مرتين، فكان منطلق رحلته في التعرف على المدينة من خزانة ابن يوسف المرتبطة بمسجد علي بن يوسفبمدخلين داخلي و خارجي، والهدية التي قدمها بين يدي زيارته الأولى، عبارة عن “كتاب الجهاد والجزية وأحكام المحاربين” من كتاب اختلاف الفقهاء للطبري،أصدره بعنايته وتحقيقه، وخط في الزاوية اليسرى من الصفحة الأولى للكتاب بالحرف والأسلوب العربيين : “هدية لمكتبة مدرسة ابن يوسف بمراكش المعمورة ،وتذكرة لزيارتي لها في شهر رجب 1369 هـ ، أدامها الله وأيد علماءها ، كتبه أفقر طلاب العلم، “يوسف شاخت”. واكتفى في الكتاب الذهبي للخزانة في هذه الزيارة بكتابة اسمه ومقر عمله آنذاك وهو Collège Oxford انجلترا.
وعندما عاود الزيارة ، وانطلاقا من نفس النواة، وعود على ما كان قد ابتدأ بهمن ذي قبل ، كتب في الدفتر الذهبي للخزانة لكن هذه المرة بالفرنسية .
« Pour la deuxième fois, je viens de passer des heures inoubliable et fructueuses dans la bibliothèque de la medrassa d’Ibn Youssef et avec mes amis les savants marocains « 11/10/1952
أزور خزانة مدرسة ابن يوسف للمرة الثانية، وقضيت فيها ساعات مفيدة، لا يمكن نسيانها، إلى جانب أصدقائي علماء المغرب .
إلى جانب هذا الاستشراق المنصف والمثبت لأصالة المدينة الإسلامية ، هناك استشراق مغرض نفي عن المدينة الإسلامية كل أصالة وتميز ونسق، واعتبرها عبارة عن بنى متناثرة عشوائية لا يجمعها جامع، ولا يربط بين مكوناتها رابط (27)،وفريق استشراقي ثالث نظروا إلى المدينة الإسلامية من خلال مخيال حضارتهم الغربية ، فاتخذوا مدخلها الطبوغرافي من الساحة ساحة جامع الفناء، قياسا على ما وقر في أذهانهم عن الأجورا Agora اليوناينة أو الفوروم Forumالروماني .
من خلال ما تقدم نعلم أن نموذج المدينة الإسلامية الوسيطة هو المدينة المنورة، وأن مفتاحها الطبوغرافي هو المسجد الذي يتحكم في تأثيث ما يدور في فلكه من مؤسسات إدارية وأسواق ومناطق سكنية وساحات ، دون أن ننسى فعل الزمان ودور التاريخ في تحوير تلك المنظومة المتوالية من مكونات المدنية من غيــــر مساس بروحها (28) .
نعم “فقد تجاور المسجد ودار الخلافة ابتداء اقتداء بالتنظيم الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تحولت دار الإمارة ، في فترة لاحقة، إلى قبلة المسجد كي يستطيع الملك أو الأمير أن يخرج منها إلى الباب في جدار القبلة مباشرة، وينفذ إلى المقصورة دون أن يتخطى رقاب المصلين، كما حدث في الكوفة سنة 17 هجرية وفي البصرة سنة 44 هـ .
ثم دعت الحاجة الأمنية في بعض البلاد إلى تمهيد طريق يسمى ساباط،يربط القصر بمقصورة المسجد مباشرة ، كما حدث في قرطبة وإشبيلية .
ودعت نفس الدواعي إلى عزل المنطقة المركزية الجامعة للمسجد والقصر والدواوين (29) بواسطة سور يفصلها عن المدينة العامة أو ساحة – ولعل هذا هوشأن مراكش في عهد المرابطين حيث فصلت الساحة بين القصر والمدينة العامة ووظفت لأيام الزينة والمناسبات العامة – وفي تنظيم تال، وفي عهد الفاطميين،انفصلت دار الإمارة نهائيا عن المسجد، ومهدت بينهما شوارع تتسع لموكب الحاكم أثناء خروجه إلى الصلاة ، مثلما حصل بسامراء والقطائع والقاهرة” (30).والتحوير التاريخي الذي حدث في علاقة المسجد ببقية البنى لا يعني أبدا انفصال الشأن الديني عن الشأن السياسي، كما هو حال انفصال الكنيسة البيزنطية والرومانية التي تتوسط المدينة، واستقلت عن قصر الحاكم، منبئة عن استقلال السلطة الدينية عن السياسية ، فما لله لله وما لقيصر لقيصر.
وما دمنا قد تحدثنا عن المدينة في علاقتها بالسيرورة التاريخية، فإننا نضيف أن المدينة الإسلامية لم تنطو على نفسها انطواء تزمت، بل انفتحت على جميع الحضارات العظيمة، ثم إنها أسست مدينتها الذاتية النابعة من القانون السماوي. وقد أكدت خصوصيتها مختلف وظائف مؤسساتها الدينية والمدنية (31).