يوم الاثنين الفائت عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إليزابيث بورن رئيسة للحكومة خلفاً لجان كاستكس الذي قدم استقالته ظهر اليوم نفسه.
ومنذ أن ظهر اسمها على بيان الرئاسة المقتضب، كتبت الصحافة الفرنسية والأجنبية الكثير عنها مركزة على المناصب الحكومية التي تولتها منذ عام 2017، أي منذ وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه، مركزة على التحديات التي واجهتها والإصلاحات التي أنجزتها في الوزارات الثلاث التي شغلتها: النقل والبيئة والعمل والشؤون الاجتماعية. فمن هي إليزابيث بورن؟
تتمتع بـ”إحساس” يساري
ميل هذه المرأة البالغة 61 عاماً إلى اليسار الاشتراكي كان موضع تحليل وتمحيص وتذكير بأنها عملت إلى جانب رئيس الحكومة الاشتراكي ليونيل جوسبان في عهد الرئيس جاك شيراك الأول، وأنها كانت مديرة مكتب الوزيرة الاشتراكية سيغولين رويال. لكن الثابت أيضاً أنها لم تنضم أبداً إلى الحزب الاشتراكي وإن كانت تتمتع بـ”إحساس” يساري قد يكون من بين العوامل التي دفعت ماكرون إلى اختيارها. وللتذكير هنا فإن الأخير انتظر 22 يوماً عقب انتخابه ليعلن اسم رئيسة الحكومة العتيدة.
وحسب المعلومات المتداولة في الصالونات السياسية، فإن ماكرون كان يميل إلى تعيين كاترين فوترين، المرأة السياسية اليمينية التي شغلت منصباً وزارياً في عهد شيراك لتصبح لاحقاً ناطقة باسم المرشح نيكولا ساركوزي، وهي تشغل حالياً منصب رئيسة منطقة “ريمس الكبرى” الواقعة شرق فرنسا
غير أن المحيط المباشر لماكرون، خصوصاً ألكسيس كوهلر أمين عام قصر الإليزيه – الذي صدر قرار جديد يبقيه المساعد الأول لرئيس الجمهورية وصاحب النفوذ الكبير – وريشار فران رئيس مجلس النواب المنتهية ولايته وأحد الأوائل الذين دعموا صعود ماكرون السياسي، أقنعا ماكرون بالتخلي عن تعيين امرأة تأتي من صفوف اليمين. وحجة هؤلاء الكبرى أنه أصلاً اختار يمينيين اثنين لترؤس حكومات عهده الأول، هما إدوار فيليب وجان كاستكس.
حاجة ملحة
أضف غلى ذلك أن ماكرون يدين ببقائه رئيساً لناخبي اليسار الذين صوتوا لصالحه وشكلوا سداً منيعاً بوجه مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن. ثم إن ماكرون وعد باتباع نهج جديد في الحكم لعهده الثاني، وبالتزامات اجتماعية تتناول الفئات الأكثر هشاشة خصوصاً في زمن تراجع القدرة الشرائية وارتفاع معدلات التضخم ومراوحة الرواتب مكانها.
وأخيراً، ثمة اعتقاد شائع أن الصيف المقبل سيكون حاراً اجتماعياً واقتصادياً، وأن الخريف الذي يليه سيكون أكثر سخونة، ما يذكر بما عرفته فرنسا من “السترات الصفراء” خلال العامين 2018 و2019. وبالتالي، ثمة حاجة ملحة بأن تكون رئيسة الحكومة الجديدة أكثر قبولا وأكثر تفهماً لمتطلبات المرحلة القادمة، الأمر الذي ينطبق على إليزابيث بورن.
هنا تجدر الإشارة إلى أن بورن التي انضمت إلى حزب “الجمهورية إلى الأمام” الذي حمل ماكرون إلى الرئاسة قريبة من جان إيف لودريان وزير الخارجية الآتي من صفوف اليسار، ومن الاشتراكي الآخر أوليفيه دوسو وزير النقل.
والثلاثة مع فلورانس بارلي، وزيرة الدفاع، شكلوا “القطب اليساري” داخل الحكومة بمواجهة “القطب اليميني” الذي كان طاغياً إلى حد ما خلال ولاية ماكرون الأولى. وأبرز وزراء اليمين، وزير الاقتصاد والمالية برونو لومير ووزير الداخلية جيرالد دارمانان وغيرهما.
دراما بورن الشخصية
يجهل كثيرون الدراما الشخصية التي عاشتها رئيسة الحكومة الجديدة، إذ إنها ترفض بشكل منهجي عرض حياتها الخاصة على الملأ. لذا، من اللافت التوقف عند هذا الجانب الذي كان له تأثيره على مسارها الأكاديمي والمهني والسياسي. فإليزابيث بورن ابنة عائلة “مركّبة”، فأمها من منطقة النورماندي بينما والدها جوزيف بورنشتاين، ينتمي إلى عائلة يهودية روسية الأصل فرّت من روسيا عام 1939 بسبب صعود الشعور المعادي للسامية، فحطت رحالها في بلجيكا أولاً ثم في فرنسا.
وسريعاً، انتمى والدها إلى مقاومة الداخل الفرنسية في مواجهة النازيين الذين احتلوا فرنسا. إلا أنه قبض عليه وعلى والده زليغ وأخيه إسحاق في عام 1943 ونقلوا إلى المعتقلات النازية حيث توفي الأخيران. أما والدها، فعاد سالماً من المعتقل. وفي عام 1950 حصل على الجنسية الفرنسية وعمل مع زوجته في حقل الصيدلة. غير أن الشركة التي أسساها واجهت صعوبات مالية كبيرة، ما دفع الوالد إلى الانتحار عام 1972 عندما كانت ابنته إليزابيث لا تزال طفلة.
يشار إلى أنه مع نهاية الحرب، عمد جوزيف بورنشتاين إلى تغيير اسم عائلته فتخلى عن “بورنشتاين” الذي يدل على الأصل اليهودي مكتفياً بـ”بورن”، وهو الاسم الحركي الذي اتخذه في المقاومة.
ومن المرات النادرة التي تحدثت فيها إليزابيث بورن عن حياتها الشخصية كانت في برنامج تلفزيوني، على القناة “سي 8″، حيث قالت: “لم تكن الحياة سهلة بالنسبة إلينا، إذ إنني خسرت والدي وأنا صغيرة السن ووجدنا أنفسنا، أنا وأختي نعيش مع والدتنا التي لم تكن تتحصل على موارد مالية كثيرة”.
خريجة “البوليتكنيك”
غير أن وضعها المعترف به كـ”ابنة مقاوم” مكّنها من متابعة الدراسة في أرقى المعاهد الفرنسية، معهد البوليتكنيك، بفضل استقلاليتها المالية التي وفرتها لها الدولة. وفي عام 1981، تخرجت في معهد البوليتكنيك، الذي تدخله نخبة الطلاب حاملة شهادة مهندس للجسور والمياه والغابات.
بالتوازي، فإنها حاصلة على ماجستير في إدارة الأعمال. وبسرعة، اقتربت من كواليس الإدارة والسلطة، إذ عملت لوزارة التجهيزات، ثم لاحقاً، في الإدارة الإقليمية في منطقة إيل دو فرانس (باريس وضواحيها القريبة والبعيدة). كذلك اقتربت أكثر من الجهاز الحكومي في عام 1990 عندما عينت مستشارة لوزير التربية.
مناصب استشارية عدة
تنقلت إليزابيث بورن في عدد من المناصب الاستشارية. وعملت لصالح بلدية باريس مع رئيسيها الاشتراكيين المتعاقبين، برتراند دولانويه وآن هيدالغو، مديرة عامة لقسم التجهيزات قبل أن تعين مديرة (محافظة) لمنطقة بواتو – شارنت الواقعة جنوب غربي فرنسا. وهناك ارتبطت بعلاقة وثيقة مع سيغولين رويال، رئيستها التي عينتها مديرة لمكتبها بعدما تولت وزارة الانتقال البيئوي (2014 – 2015)، إبان عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند.
كما تقلبت في العديد من المناصب في القطاعين العام والخاص، وكان آخر منصب شغلته قبل تعيينها وزيرة للعمل في حكومات هولاند المتعاقبة ترؤسها للإدارة العامة للنقل المشترك. ومع كل موقع جديد، اكتسبت سمعة جدية، إذ نظر إليها على أنها كفوءة وجدية في عملها و”تقنية” من الطراز الأول وذات معرفة تامة بالإدارة الفرنسية وصعوباتها. غير أنها، في غالبية هذه المناصب، كانت بعيدة عن الأضواء.
في المقابل، فإن النقابات واليسار بشكل عام يأخذون عليها “الإصلاحات” التي أشرفت عليها، وتحديداً فيما خص قانون العمل، حيث خفضت بشكل كبير حقوق العاطلين عن العمل وشددت شروط الحصول عليها ما أصاب الأكثر هشاشة من السكان. وأيضاً هناك إصلاح قطاع النقل والسكك الحديد الذي تولته في إطار وزارة النقل، وتسبب بإضرابات قطاعية واختناقات عانى منها المواطنون لشهور.
يذكر أن إليزابيث بورن هي ثاني امرأة تترأس الحكومة الفرنسية بعد 31 سنة على تعيين مماثل قام به الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران، الذي بقي في قصر الإليزيه لولايتين بين 1981 و1995.