محمد الطوگي / كلية الآداب بمراكش
استشففت من خلال مخاللتي للمرحوم، بعفو الله سيدي ابراهيم الهلالي، وقراءتي لمجموعة من أعماله النثرية والشعرية أن الثقافةلديه، وهي تمثل رؤيته للعالم، أنها، أي الثقافة ، ليست معارف متنوعة يُجهد ويُجتهد في إدراكها بالعقل لتنحط بعد ذلك إلى دركالتباهي في باب الجدل والمناظرات، و“التطاوس” بها في المجالس، وتسلية رواد الصالونات وتفكهتهمبالنوادر والطرف، بل الثقافةثروة إنسانية سامية يؤمن ويقتنع بصحتها عن طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف فإنها مطلوبة من أجل العمل، والالتزام بمايوجبه ذلك الإيمان .
ثم هي بعد ذلك، بالنسبة إلينا، انتماء إلى هذه الثقافة العربية الإسلامية المنفتحة على الحضارة الإنسانية انتماء يدرك معه حاملها،أنه لو فرط فيها لأداه ذلك التفريط إلى الضياع، ضياعه هو، وضياع ما ينتمي إليه. ورأس هذه الثقافة كامن في الدين المتغلغل فيأغوار النفس تغلغلا يجعل صاحبه قادرا على ضبط الأهواء الجائرة ، وقمع الأنانية الماكرة المقيتة () ؛ فالعياذ بالله من علم لا ينفع،والنفعية ها هنا تتجاوز خويصة النفس، إنها بمثابة واحة تأوي القريب والبعيد.
فمن خلال هذه الرؤية المنكرة للذات والطافحة بالغيرية ناضل المرحوم، وكتب، وعلم وربى، تجد تلك الرؤية الثقافية كامنة، مسلكيةوإنتاجا، في جميع محطات حياته، من ذلك أنه :
1 – انتمى إلى جماعة مراكش الوطنية، بزعامة المرحوم عبد الله ابراهيم، ابتداء من أواسط أربعينات القرن الماضي، وظل مستأمناعلى تلك الأصول والثوابت الوطنية السامية طيلة حياته، وابتلي في حقبة الاستعمار بما حاق بكل من وسم بسمة الوطنية .
2 – خط أعمالا ناهزت أربعين مؤلفا، راوحت بين الدراسة العلمية، والإبداع الأدبي بمختلف فنونه، ناهيك عن مجموعة من المقالات،نشرت له في رسالة المغرب، وما أدراك ما رسالة المغرب، إلى جانب دوريات خمسينات القرن الماضي وما بعدها من العقود .
3 – انخرط في معظم جمعيات المجتمع المدني الجادة التي عرفتها مدينة مراكش، بدءا من جمعية شباب محمد في أربعينات القرنالماضي، انتهاء بجمعية إحياء جامعة ابن يوسف. وتراوح انخراطه في هذه الجمعيات بين الرئاسة أو تحمل مسؤولية الكتابة العامة. من ذلك : جمعية الأديب المراكشية، رئيسها الحبيب الفرقاني ، وكاتبها العام إبراهيم الهلالي الذي يقول في بيانها : “مهمة جمعيةالأديب يجب أن ترمي إلى خلق وإيجاد أدباء لهماتجاه نبيل يسعد الإنسانية المعذبة، إننا نمقت الأديب الذي يستخدم قلمه، في سبيلمصالح معينة ليضرب على وتر أغراضه السياسوية أو المادية، إننا نريد أدبا حرا شريف المقصد، سامي الغاية يعبر عن أمانيناوانبعاثنا ودموعنا، وعند ذلك نستحق لقب “أديب“، ويومئذ يكون الأديب المغربي قد أدى مهمته في الحياة “ ().
ثم إنه يعتبر أول رئيس لفرع اتحاد كتاب المغرب بمراكش، ورئيس جمعية الوعي ومنبرها مجلة الوعي، وآخر مناشطه، رحمه الله وهوفي أواسط السبعينات من عمره ، دعوته إلى إنشاء جمعية إحياء جامعة ابن يوسف،التي استجاب لها جمهور غفير من مثقفيالمدينة الذين أسندوا إليه مسؤولية رئاستها بالإجماع، فخصص لها من وقته الثمين، وخبرته الإدارية والعلمية والتواصلية، إذ منسجاياه أنه موطأ الأكناف ألفه الخاصة والعامة، فرعىتلك الجمعية حق الرعاية ماديا وأدبيا، مما ضمن لها الاستمرارية، فنظمتندوات وطنية، وأصدرت مجلة علمية باسم جامعة ابن يوسف، في مستوى صادرات المؤسسات الثقافية العربية الجادة ، بلغت ستةعشر عددا، حشدلها نخبة من الباحثين الجامعيين، يكفي أن نذكر من كتابها السادة الأساتذة محمد بنشريفة، وعباس الجراري،ومحمد بن شقرون، ومحمد بلقزيز، و المرحومون، بعفو الله، عبد الله إبراهيم، محمد حجي، الشرقاوي إقبال ومحمد الحبيب الفرقاني. وقد حققت استمرارية منقطعة النظير فقد توفي، رحمه الله، ومعظم مواد العدد 17 بين يديه .
وكان من بين أهداف الجمعية والمجلة إعادة الاعتبار لجامعة ابن يوسف التي سادت زهاء تسعة قرون ، ثم ما لبثت آن آلت إلى أثربعد عين، وإلى شيء كان !!
وكان، رحمه الله، يقول : “إن المستقبل، والحمد لله، فسيح ومديد، وإن “مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا”، فسنبقى حاملينلـِـهـَـمِّ المطالبة بإعادة الاعتبار لتلك الجامعة العتيدة، ولن تباد أو يقضى عليها أو تمحي من ذاكرتنا الوطنية مادمنا أحياء، فإن قدرالله وقضى بالوفاة، فإن مواصلة هَمِّمطلبنا المشروع واقع على كاهل الأجيال اللاحقة من ساكنة المدينة ومحبيها، وإن التفريط فيهجريرة لا تغتفر”.