بقلم الدكتور أسامة شعبان / بيروت
1- الله أماتَ وأحيا وأَضْحَك وأَبْكى.. فهنيئًا لمن أطاع الله.. والبكاء من خشية الله غسيل القلوب، وعون على التوبة والانسلاخ من جِلْد الحرام.. والبكاء يريح النفوس ويقوّي العزائم.. إذ العين المتحجّرة القاسية دليل على القلب الغافل الصَّدِئ الذي تراكمت عليه طبقة الرَّيْن من ظلام المعاصي ووحشتها..
2- الكلام ها هنا على البكاء المباح، وليس على النَّدْب والنّياحة ولطم الخدود وشقّ الجيوب المحرمة، وعلى البكاء المعتدل لا على الدخول في نوبات الصرع والكآبة المؤذية.. ففي دين الله لا تعذَّب بنار جهنم عينان بكتا يومًا ولو لمرة واحدة في الحياة من خشية الله..
ليس صحيحًا أن الرجال لا تبكي، فالبكاء شيء وقوة الشخصية ومواجهة الصعاب بالجلَد والعزيمة شيء آخر تمامًا.
والميّت يعذَّب ببكاء أهله عليه إن أوصاهم بالندب والنياحة المحرمين وفعلوا، أما مجرد البكاء فلا ضرر فيه على الحيّ ولا الميت.
3- أكثر الخلق بكاءً من خشية الله أنبياءُ الله. والبكاء يساعد على الخشوع باستحضار محبة الله وتعظيمه.
ومن لم يستطع البكاء فليتباكَ، فرُبّ بكاء (من غير رياء وادّعاء) بلا خشوع جرّ إلى بكاء بخشوع.
4- كان سيدي محمد عليه الصلاة والسلام لا يملك دمعَه، عظيم الأحزان لأن قلبه مشغول بالآخرة، غزير الدمعات تبتُّلًا لله، كثير التأمل في ملكوت الله، سريع الاعتبار باللطائف الربّانيّة، مسارعًا إلى الطاعة، ذا هيبة ووقار، إذا ضحك فضحكه التبسُّم، وبكاؤه في الغالب من جنس ضحكه بلا صوت، وكان الصحابة يعلمون بكاءه من خلال دموع عينيه.
5- منذ نزل عليه الوحيُ في الغار.. منذ نزل عليه قوله تعالى: *{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}*[الشعراء] بدأت تكاليف الرسالة العظمى على كتفَي النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم… واستمرت إلى معاناة سكرات الموت وإسلام الروح… ثم تتجدّد مهمات الشفاعتين الخاصة والعامة في الآخرة، ودعاؤه لأمته عند الصراط العظيم: *”يا ربِّ سَلِّم سَلِّمْ”*… إلى طَرْق باب الجنة بالحلقة وفتح الباب والترحيب به وسجود الشكر منه… اختصارًا لسيرة أعظم مخلوق في الدنيا: ثلاثًا وعشرين سنة نبيًّا ورسولًا، ويوم القيامة شفيعًا ومخلّصًا.
6- متى بكى سيدنا النبيّ محمد الرقيق القلب الشفوق العطوف عليه الصلاة والسلام؟ وذلك في ما حفظ الصحابة رضي الله عنهم من مواقف بكى فيها نبيهم وحبيبهم، فنقلوها للتأسّي به والاعتبار.
7- بكى الطاهر المطهَّر في مواقف حزن وموت وفراق عزيز، ومناسبات فرح وانتصار، ومشاهدات شفقة وحنان، وعند الإخبار عن العذاب الذي سيأتي في قابل الأيام، وفي مواضع الرحمة بأمته…
8- لم يبك النبي الغالي عند الولادة كما شأن المواليد عادةً، بل نزل من بطن أمه معتمدًا على يديه، رافعًا رأسه وعينيه إلى السماء، ضاحكًا مسرورًا جميلًا ميمونًا، مختونًا مكحولًا مبارَكًا مدهونًا.
9- بكى عندما أرسل خَلْفَه عمُّه أبو طالب (عبد مناف بن عبد المطلب) يعرض عليه بطلب من صناديد قريش المال والنساء والجاه والمُلْك، مقابل ترك تسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم والاستمرار في دعوته قائلًا: فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني ما لا أُطيق. وهو إغراء مبطَّن بتهديد، فقال النبيّ الكريم قولته المشهورة: *”واللهِ يا عمُّ، لو وضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ في شمالي، على أنْ أترُكَ هذا الأمرَ ما تركتُهُ، حتى يُظهرهُ اللهُ أو أهلِكَ دُونَهُ”*، ظنّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام أن عمّه تخلّى عنه فاستعبر وبكى وهمّ بالخروج، فناداه عمُّه: اذهب يا ابن أخي، فافعل ما أحببتَ، فوالله لا أُسلمك لشيء أبدًا.
*وهذه مدرسة الثبات على الحق بلا تنازلات.*
10- بكى عندما ودّع مكة مهاجرًا في الليل، فوقف على شرفة من شُرفها وقال: *”واللهِ، إنّكِ لَخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ”*.
*وهذه مدرسة التعلق بالوطن الغالي مكة المكرمة أمّ القرى أفضل بقاع الأرض على الإطلاق.*
*تأمل في قول الله في بكاء النبيين والتائبين والصالحين: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ (58)}*[مريم].
*{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}*[المائدة].
*{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ (109)}*[الإسراء].
يتبع…
د. ش. أسامة شعبان
o.shaaban1976@gmail.com
صفحة فايسبوك الدكتور أسامة شعبان
@Dr.Ousama.Shaaban