بقلم : سعيد بوخليط
عرف المشهد السياسي الحديث والمعاصر، حضورا مترسِّخا لمجموعة نسوة أظهرن حنكة قيادية واضحة للصغير قبل المختص الاستراتجي، اتفق بخصوصها الأعداء قبل الخصوم، لأنهن ارتقين ببلدانهن حسب نسب متفاوتة طبعا، وتبعا لمحدِّدات اجتماعية تهمُّ كل بلد على حدة؛ ومجموعة إنسانية دون غيرها، صوب مراتب إيجابية دوليا، مثلما طبعن ببصمات خاصة المعادلات السياسية الكبرى للمنتظم الأممي، وتوجهاته الجيو-استراتجية.
أسماء قائدات شَكَّلن مثالا للجدية والشجاعة والصلابة والمكابدة،بنكهة أنثوية صوفية،بلورن عمليا ممارسة سياسية بالمفهوم المحترم والخلاَّق للكلمة،سواء فترات السلم أو الحرب،وكتبن صفحات مجيدة للإنسانية بمداد حبره العَرَق والدأب والوفاء والحرص على المسؤولية الجسيمة،بكثير من التفاني والتضحية ونكران الذات.
أستعيد،في هذا الإطار على سبيل التمثيل لاالحصر،أسماء من عيار : مارغريت تاتشر(انجلترا)، أنديرا غاندي(الهند)،غولدا مائير(الكيان الصهيوني)، بنازير بوتو (حسناء باكستان) ،كريستينا فرنانديز دي كيرشنر (الأرجنتين) ،ميشال باشليت (تشيلي) ، ديلما روسيف (البرازيل)…
ربما، حظيت تاتشر– أول رئيسة وزراء في أوروبا،أول امرأة تتزعم حزب المحافظين في تاريخ بريطانيا،أول شخصية بريطانية تفوز بثلاث انتخابات متتالية- مقارنة مع باقي زميلاتها، بشهرة واسعة في أرجاء العالم،وتحقق الإجماع على وصفها بالمرأة الحديدية أو الفولاذية،نظرا لما تمتعت به من كاريزما رهيبة وملكات قيادية استثنائية،إضافة إلى قيادتها لحرب بداية سنوات الثمانينات ضد الأرجنتين،مَكَّنت البريطانيين من تحقيق الانتصار ثم تأكيد سيادتهم على جزر المالوين أو فوكلاند.
هكذا،استطاعت صاحبة أقوال من قبيل :”تعلمتُ أن أستمع إلى ما لايقال لأنه عادة أكثر أهمية مما قد قيل”،”إذا كانت المرأة تستطيع أن تتفهم المشكلات التي تواجهها عند إدارة المنزل،فليس من الصعب عليها استيعاب كل المشكلات المتعلقة بإدارة دولة”،”لاأعرف أحدا وصل إلى القمة بدون العمل الشاق.هنا يكمن السر!لن يصل بك دائما العمل الشاق وفي جميع الأحوال إلى القمة،لكنه سيقربك منها كثيرا”…،استوطان حيز واسع من الذاكرة الشعبية لأجيال الثمانينات والتسعينات،خلال سياق لازالت تحظى معه السياسة بكثير من الاحترام، واتسمت لعبتها بتسيُّد ضمني لشيء من المعنى،وكذا استتباب للقيم والمبادئ الكبرى والاستناد إلى موجهات النضال المبدئية في سبيل بناء مشاريع وطنية والقومية.
بيد أنَّ تمدّد سلطان طيف تاتشر،سيتوارى إلى الظل،مع توطُّد حضور نجومية زعيمة سياسية أخرى،انبثقت من رحم عمق الرؤيا الألمانية للوجود الإنساني التي صاغها فلاسفة ميزتهم ذهنيات جبارة عبر مراحل تاريخية مختلفة.يكفي هنا ذكر :هيغل، كانط، ماركس،شوبنهاور، نيتشه،هوسرل،هيدغر، حنا أرنت…إنها العالِمة الكيمائية أنجيلا ميركل،قبل مغادرتها مختبرات العلوم نحو دهاليز السياسة،التي راكمت على امتداد ستة عشر سنة أربعة ألقاب،تضمر مختلف معاني الألفة والمودة؛تعبيرا عن مستويات تدبيرها شؤون ألمانيا وأوروبا،بدءا من المناداة عليها ب”الفتاة الصغير” أو ”ابنتي”خلال أولى أيام عهدها بالسياسة من طرف أستاذها في هذا المضمار وأبيها الروحي المستشار هيلموت كول،ثم انتهاء ب “الأمِّ” مثلما صار وضعها عند الألمان نتيجة توغل شعبيتها بكيفية حميمة ونجاحها في تحقيق رمزية معينة بين أفراد شعبها،مرورا بذات اللقب الذي رافق تاتشر أي المرأة الحديدية،لذلك لم يكن عربيا تصنيفها من طرف مجلة فوربس الأمريكية الشهيرة،خلال مرتين كأقوى شخصية في العالم.
أيضا،لَقَّبها الألمان ب”مَلِكة الليل”،بسبب دأب ميركل،على ترأس اجتماعات غاية وقت متأخر من الليل،وعملها لساعات يومية طويلة دون إبدائها لأيِّ إشارة تنمُّ عن إنهاك صحي،غير أن تجلدها ومقاومتها لن يصمدا مع تراكم الملفات وبلوغها سِنَّا متقدما،تحديدا السابعة والستين،بحيث لوحظ عليها في السنوات الأخيرة،مثلما رصدت الكاميرا خلال بعض المراسم البروتوكولية،نوبات ارتعاش لاإرادية.وضعية مرضية،شرعت تسائل السيدة ميركل بخصوص مدى قدرتها على إتمام ولايتها الرابعة والأخيرة.
هكذا، حينما استفسرتها الصحافة عقب انتهاء مراسيم حفل الوداع،عن برامجها خلال فترة تقاعدها؛بعد مسيرة سياسية ناهزت ثلاثين عاما،أجابت كالتالي :”سأبدأ بإغلاق عيني لأني متعبة، سأنام قليلا،وبعدها سنرى إلى أين سيقودني ذلك…هل أريد أن أكتب،هل أريد أن أتحدث، هل أريد أن أقوم برحلات في الطبيعة،هل أريد أن أبقى في المنزل،هل أريد أن أجوب العالم؟”.
مثلما تجلى واضحا،تكمن الرغبة الأخيرة لهذه المرأة الألمانية العتيدة في الانسحاب من إدارة شؤون بلدها، حتى تستعيد أنفاسها قليلا،بين جدران منزلها المتواضع المتواجد على بعد ثمانين كيلومترا شمال برلين،وانكفائها على يوميات خاصة بها،كي تتناول بهدوء تام أطباق البطاطس التي تحبها،مثلما تؤكد سيرتها على الإيقاع الشاعري لمختلف سيمفونيات الأوبرا،يضيف المصدر دائما؛وكذا القيام برحلات لإعادة اكتشاف أسرار الطبيعة،رفقة زوجها يواكيم زارو،أستاذها السابق في رحاب الجامعة الذي دَرَّسها ”فيزياء الكم”،وهيأت تحت إشرافه أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه في الكيمياء سنة.1986تجربة زواج ثانية،بعد زواجها الأول سنة 1977،ولم تتجاوز آنذاك سن الثالثة والعشرين من زميلها أولريش ميركل،طالب الفيزياء،لكنهما انفصلا عام 1982 .
عموما،يمكن اختزال أهم ملامح روافد شخصية أنجيلا ميركل،التي اشتغلت نادلة داخل حانة،إبان سنواتها الدراسية،كي توفر دخلا هامشيا لدفع تكلفة الإيجار،في كونها صاحبة تكوين علمي دقيق،وذات مرجعية بروتستانية معتدلة تشبَّعتها من أبيها القسِّ اللوثري؛ بحيث ورثت منه القيم المسيحية،ثم ترعرعت من جهة ثالثة بين أحضان ثقافة شيوعية صارمة تسود مختلف يوميات الحياة المجتمعية داخل ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين سنة 1989 وتوحد الألمانيتين.
تعدد صلب على مستوى مشاربها ومرجعياتها الفكرية والقيمية،انعكس حتما على طبيعة تكوينها المعرفي والشخصي،جعل منها نموذجا قياديا بامتياز،وأمدها بمختلف ممكنات ولوج التاريخ من أبوابه الواسعة وخلدت اسمها بماء لاينضب معينه؛ضمن قائمة عظماء هذا العصر.
طبعا،وعلى منوال مصير قادة المنظومة المتحضرة،المنتخبين ديمقراطيا بنزاهة،فقد بقيت ميركل طيلة فترة تدبيرها لشؤون الشعب الألماني،هدفا دائما لقياس مادي ملموس، لمؤشرات صعود شعبيتها أو تراجعها،حسب إخفاقها أو نجاحها في كيفية معالجتها للملفات المطروحة؛سواء مايتعلق بالداخل الألماني أو كذلك امتداداته الأوروبية،مادام الرأي العام اعتبر ميركل على نطاق واسع بكونها الحاكمة الحقيقية والفعلية لأوروبا.
استفتاءات واستقصاءات من طرف الكتلة الناخبة لمدى إيجابيتها أو سلبيتها،قاربت أحيانا %80،كما أنها لم تنحدر عن عتبة 54 %،بخصوص إيجاد حلول لملفات من عيار : النهوض باقتصاد بلدها(ألمانيا رجل أوروبا المريض)وإصلاح النظام الاجتماعي،تعزيز التعاون الأوروبي واتفاقات التجارة العالمية،الأزمة المالية سنة2008،أزمة اليونان المالية، العلاقات مع روسيا،أزمة الهجرة عام 2015(فتحت الباب لاستقبال مليون لاجئ من الشرق الأوسط،عن طريق البلقان وتركيا)،قضية التغيرات المناخية،وأخيرا أزمة وباء كوفيد…
اختتمت ميركل كلمة حفل تسليم المهام إلى المستشار الجديد الاشتراكي أولاف شولتس،وانسحابها النهائي من عالم السياسة،بالشذرة التالية:
”أشعر بالامتنان والتواضع.التواضع أمام المنصب والامتنان على الثقة.أدركت دائما أن الثقة تشكل رصيدا مهما في مجال السياسة.وأشكركم من كل أعماق قلبي عليها’