ومن أغرب قصص مشاهير “أئمة التراويح” ما أورده المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) من أن الحبر اليهودي الكبير موسى بن ميمون (ت 601هـ/1204م) القرطبي “أسلم بالمغرب [مُكْرَهاً أيامَ دولة الموحدين] وحفظ القرآن واشتغل بالفقه؛ ولما قدم [بحراً إلى فلسطين سنة 560هـ/1165م] من الغرب صلى بمَن في المركب التراويح في شهر رمضان” حين أدركهم أثناء رحلتهم.
ثم سرعان ما انتقل ابن ميمون هذا من فلسطين إلى مصر، وعندما اطمأنّ به المُقام فيها عاد إلى ديانته الأصلية وصار “رئيساً على اليهود” فيها وقاضيا لقضاتهم سنة 573هـ/1177م، وذلك أيام سلطنة صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م).
مهارة وإتقان
ومن نماذج أئمة التراويح المهرة الذين اعتادوا ختم القرآن فيها في ليلة واحدة ونحوها؛ قاضي القضاة بدمشق أبو الحسن عماد الدين الطَّرَسُوسي الحنفي (ت 748هـ/1347م) الذي “كان يحفظ القرآن في أقل مدة، حتى إنه صلى به التراويح في ثلاث ساعات وثلثيْ ساعة بحضور جماعة من الأعيان”؛ وفقا لمحيي الدين القرشي (ت 775هـ/1373م) في ‘الجواهر المُضِيَّة في طبقات الحنفية‘. ومع أن مفهوم “الساعة” عند الأقدمين مختلف -في مقداره الزمني- عن مفهومه اليوم؛ فإن احتمال مبالغة المؤرخين في قِصَر وقت الختمات يظل واردا.
ويروي الإمام شمس الدين الجَزَري (ت 833هـ/1430م) -في ‘غاية النهاية في طبقات القراء‘- أن المقرئ كمال الدين أبا الحسن الحميري الإسكندري المالكي (ت 694هـ/1295م) كان “يصلي التراويح في كل ليلة بختمة كامل الشهر كله”، كما كان المقرئ أبو محمد يعقوب بن يوسف الحربي (ت 587هـ/1191م) “يصلي بالناس التراويح في رمضان كل ليلة بنصف ختمة”؛ طبقا للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في ‘لسان الميزان‘.
ونجد بعض أئمتها من يخصص ختمة لكل عشر ليال من رمضان؛ فقد أخبرنا المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوَالَ (ت 578هـ/1182م) -في كتابه ‘الصِّلَة‘- أن أبا القاسم خَلَف بن يحيى الفهري الطليطلي (ت 405هـ/1015م) “كان سكناه بالنَّشارين (= حيّ النجّارين)، وهو إمام ‘مسجد اليتيم‘ بقرطبة…، [و]كان يقوم في مسجده في رمضان بتسعة أشفاع (= 18 ركعة) على مذهب مالك، ويختم فيه ثلاث ختمات: الأولى ليلة عشر، والثانية ليلة عشرين، والثالثة ليلة تسع وعشرين”.
وقد اعتاد كثير من أئمة التراويح صلاتها بالقراءات السبع وأحيانا العشر؛ ومنهم أبو علي الهلالي الحوراني -المتقدم ذكْرُه عند ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘- الذي ”كان يصلي بجامع دمشق… صلاة التراويح ويقرأ فيها بعدة روايات يخلطها، ويردد الحرف (= اللفظ) المختلَف فيه” بين القرّاء.
ويقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- إن أبا العباس البَرَداني البغدادي الضرير (ت 621هـ/1224م) “كان يقرأ في التراويح بالشواذّ رغبة في الشُّهرة”، وكذلك المقرئ محمد بن أحمد المقدسي الشافعي (ت 885هـ/1480م) الذي “صلى للناس التراويح في رمضان بالقرآن بتمامه، كل عُشر منه [بقراءة] إِمام من [القراء] العَشرة”؛ حسب الإمام السخاوي (ت 902هـ/1496م) في ‘الضوء اللامع‘.
ومن مشاهير أئمتها الذين مكثوا عشرات السنين وهم يؤمون الناس فيها أبو علي الحسن بن داود القرشي الأموي الكوفي (ت 352هـ/963م)، فقد كان “صاحب ألحان، صلى بالناس التراويح في جامع الكوفة ثلاثا وأربعين سنة”؛ كما يخبرنا عنه المؤرخ تاج الدين ابن أنجب السَّاعي (ت 674هـ/1275م) في ‘الدر الثمين في أسماء المصنفين‘.
وكذلك أبو عبد الله النيسابوري المُزكِّي (ت 392هـ/1001م) الذي يفيدنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه “صلى بالناس التراويح ثلاثا وستين سنة بالختمة”. ومثله كريم الدين أبو جعفر العباسي الخطيب (ت 574هـ/1178م) الذي “خطب بجامع القصر [في بغداد] وصلى التراويح نحوا من خمسين سنة”؛ حسب كمال الدين ابن الفُوَطي الشيباني (ت 723هـ/1323م) في ‘مجمع الآداب في معجم الألقاب‘. تراويح الخاصة
كان من العادات الاجتماعية المرتبطة برمضان انتقاءُ أئمة مميزين -متانةَ حفظٍ وجودةَ أداءٍ وجمالَ صوتٍ- ليصلّوا التراويح بالسلاطين وذوي المكانة الاجتماعية.
ومن أمثلة ذلك ما أورده الإمام الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘- من أن الخليفة العباسي “المستظهر بالله (ت 512هـ/1118م) طلب مَن يصلي به…؛ فوقع اختياره على القاضي.. ابن الدواس…؛ [و] من كثرة إعجابه به كان أول رمضان قد شرع في التراويح فقرأ في الركعتين الأولييْن آية آية، فلما سلم قال له المستظهر: زدنا من التلاوة! فتلا آيتين آيتين، فقال له: زدنا! فلم يزل [يستزيده] حتى كان يقوم كل ليلة بجزء” من القرآن.
كما كان المقرئ أبو الخطاب الكاتب الشافعي البغدادي (ت 497هـ/1104م) ”يصلي بأمير المؤمنين المستظهر باللَّه التراويح”؛ طبقا للذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘. ويفيدنا الحافظ ابن عساكر بأن زين القضاة سلطان بن يحيى القرشي الدمشقي (ت 530هـ/1136م) “صلّى التراويح بـ[المدرسة] النِّظامية [ببغداد]… وخلع عليه الخليفة” العباسي.
وجاء في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘ للإمام ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) أن المقرئ أبا القاسم هبة الله بن الحسن الأشقر البغدادي (ت 634هـ/1237م) كان “يؤم بالخليفة الظاهر (العباسي ت 623هـ/1226م)، ورتّبه إماما.. في صلاة التراويح، وأذِن للناس في الدخول للصلاة” معهم بمسجد قصر الخليفة في بغداد.
وفي الأندلس؛ يترجم ابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ/1303م) -في ‘الذيل والتكملة‘- لابن مُقاتل القَيسي الغرناطي (ت 574هـ/1178م)؛ فيقول إنه كان “حافظا لكتاب الله تعالى، ضابطا لوجوه قراءاته، طيّب النغمة به…، مختارا للإمامة في التراويح بمسجد غرناطة الأعظم”.
ويقول المراكشي أيضا أن سلطان دولة الموحِّدين المنصور يعقوب بن يوسف (ت 595هـ/1199م) استمع ذات يوم إلى تلاوة المقرئ أبي الحسن الفهمي القرطبي (ت 617هـ/1220م) “فأخذ بقلبه طِـيبُ نغمته وحُسن إيراده، فقرّبه واستخلصه، وأمره بتعليم أولاده وقراءة حزب من التراويح في رمضان”.
وكان أبو بكر الأنصاري القرطبي (ت 614هـ/1217م) “حسن الصوت، يستدعيه الأمير لصلاة التراويح”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘. ووُصف أبو الحسن ابن واجِب القيسي البلنسي (ت 637هـ/1239م) بأنه “من أحسن الناس صوتا بالقرآن، ولذلك كان يُعيَّن لصلاة التراويح بالوُلاة”.