منهم المجرم عن سبق إصرار وترصد، ومنهم المجرم بالصدفة، منهم من يأملون في الخروج يوما من السجن، ومنهم من لا يبالون بالحرية، بل ويرفضونها إذا كانت ستأتي بعد بلوغهم سن الشيخوخة والعجز، ومنهم من يتمنون تنفيذ العقوبة حتى يتحرروا من قسوة الانتظار القاتلة، ومنهم من حاولوا الانتحار أكثر من مرة.
العشرات من المحكومين بالإعدام رفضوا الحديث إلينا، «ما بغيتش نتفكر الماضي، ما بغيتش نتفكر شنو درت، خليوني ننسى»، عبارة رددها الكثيرون ممن يعيشون حالة من العزلة داخل زنازينهم رافضين الغوص في ماض يغرقهم في الشعور بتأنيب الضمير. خلافا لهؤلاء قبل البعض الحديث إلينا، وإن كانوا هم أيضا وجدوا صعوبة في استرجاع ذكريات جرائم ارتكبوها في لحظات لم يتصور أي منهم خلالها أن يكون مصيرهم السجن في حي اسمه مرادف للموت.
أبوة من وراء القضبان
في سن التاسعة عشرة سيلتحق سعيد بعالم الجريمة، وذلك تحت ضغط أخيه الأكبر الذي كان يدير عصابة إجرامية. سيجد سعيد العاطل عن العمل نفسه مضطرا إلى مجاراة شقيقه.
في البداية، كان يظن أن الأمر لا يتعدى القيام بسرقات بسيطة وعمليات سطو، ليكتشف لاحقا أن الأمر يتعلق بجرائم قتل تنفذ تحت الطلب. في المرة الأولى التي شهد فيها سعيد شقيقه وهو يقدم على قتل أحد الأشخاص، أصيب بصدمة، هرب، فلحقه شقيقه وهنا استجداه سعيد كي ينسحب من المجموعة، مؤكدا أنه لن يخبر أحدا بما رآه، لكن «فات الفوت»، هكذا يعلق سعيد على تلك اللحظة التي رغب فيها بالانسحاب، حينها هدده شقيقه الأكبر بالقتل، «كنت أعلم أنه عنيف ولكنني لم أتخيل أن يصل به الأمر إلى درجة تهديدي أنا شقيقه بالقتل».
ستتوالى الأيام، وسيجد سعيد نفسه منساقا في طريق سيؤدي به إلى السجن، وتحديدا إلى حي المحكومين بالإعدام. خمس جرائم كان سعيد شاهدا عليها، يؤكد أنه لم يساهم في أي منها، لكنه لا ينفي أنه كان حاضرا أثناء تنفيذها. وعلى طريقة أفلام الرعب و»الأكشن»، يروي سعيد أن ابن أحد الشخصيات النافذة والشهيرة في عالم السياسة بمدينتهما كان يتصل به وبأخيه ليطلب في كل مرة منهما تصفية أحد الأشخاص، وكان شقيقه يمتثل للأوامر من دون تردد، خصوصا أن المقابل كان مغريا. عقب سنة، حين بلغ سعيد 20 سنة من عمره، سيلقى عليه القبض رفقة شقيقه، وذلك بعدما ألقي القبض قبل ذلك على ابن الشخصية النافذة الذي تحدث عنه سلفا، «ألقي القبض علينا وأطلق سراح ابن الشخص النافذ، وبعدما كنا سنتابع بتهمة تكوين عصابة إجرامية تنفذ جرائم قتل تنفيذا لطلبات شخص يمدنا بالمال مقابل ذلك، تم إلقاء القبض على شقيقتينا واتهمنا نحن الأربعة بتكوين عصابة، واتهمت شقيقتانا باستدراج الرجال لنقوم أنا وأخي بقتلهم وسلبهم أموالهم».
يكبح سعيد دموعه وهو يحكي كيف تحطمت حياة شقيقتيه اللتين لم يكن لهما علم بما كان يفعله أخواهما. فإحداهما كانت متزوجة وطلقها زوجها بعدما دخلت السجن وحكم عليها بعشر سنوات جنسا نافذا، والأخرى، التي لم تكن متزوجة، مرضت، وبالرغم من أنها خرجت بعد قضائها خمس سنوات سجنا، وزواجها إلا أنها لم تقو على تجاوز تلك التجربة، «خواتاتي ما كانوا عارفين والو على داكشي اللي كنا تنديرو وواخا هاكاك جروهم معانا، وتعداو عليهم وتحطمات حياتهم». بالنسبة إلى شقيق سعيد، الذي يكبره بعشر سنوات، فقد توفي أثناء محاولته الفرار من السجن ثلاثة أشهر فقط بعد اعتقالهما. لا يستبعد سعيد أن يكون مقتل أخيه تم عمدا خصوصا أنه كان يعرف الكثير عن ابن الشخص النافذ الذي كان يطلب منه في كل مرة تصفية شخص ما لمجرد أنه كان يعترض طريقه. يؤكد سعيد أن الشخص النافذ الذي ورطه وشقيقه في تلك الجرائم أفلت من القضية بالرغم من أنه «هو رأس الأفعى».
عشر سنوات قضاها سعيد في السجن عاش خلالها تجربة فريدة، تمثلت في الزواج وإنجابه طفلة تبلغ اليوم من العمر ست سنوات. ففي سنة 2007 التقى سعيد زوجته التي كانت تقضي عقوبة حبسية مدتها شهران بتهمة إصدار شيك بدون رصيد. لم يكن يفكر، وهو المحكوم بالموت، في الزواج أو حتى مجرد الارتباط بكلمة أو شعور، فبالأحرى الزواج والإنجاب وتأسيس أسرة. «لم أكن المبادر إلى طلب الزواج، بل هي من طلبت الزواج مني»، يقول سعيدا وقد علت محياه ابتسامة، موضحا أن أسرته رحبت بالفكرة، حيث اعتبروا أن الزواج سيمنحه الأمل وسيخرجه من حالة الحزن التي كان يعيشها منذ صدر حكم الإعدام في حقه. سنة بعد الزواج رزق سعيد بطفلة جعلت نظرته إلى الحياة من داخل حي الإعدام تتغير، عاش سعادة الأبوة بالرغم من ظروف السجن، وبعدما لم يكن يأمل في الخروج، صار يحلم في اليقظة والمنام بيوم يعانق فيه الحرية، ويتمكن من معانقة ابنته.
«الفرحة ما كملاتش»، يقول سعيد بحسرة مشيرا إلى توقيف الخلوة سنة 2010، نتيجة لذلك لم تعد زوجته تزوره كما في البدء، فجأة بدأ معدل الزيارات يقل، إلى أن توقفت منذ حوالي سنتين لم ير خلالهما سعيد زوجته ولا حتى طفلته. بالرغم من ذلك يتوصل سعيد بأخبار ابنته وزوجته باستمرار من خلال والدته التي تزوره بانتظام، وتوفر له كل ما يحتاجه. يقضي سعيد يومه بين القراءة والصلاة، وبتفاؤل كبير يؤكد: «لدي أمل في أن أخرج من هنا يوما ما، لا يمكنني الاستمرار في الحياة من دون أمل»، يقول سعيد قبل أن يقوم ويمد يديه بهدوء والابتسامة تعلو محياه إلى الحارس ليقيده ويقتاده نحو زنزانته.
أرشيف: / حليمة أبروك نشر في اليوم 24