بقلم : سعيد بوخليط
*الرحيل عن الوطن بزاد خمس دولارات :
شهر دجنبر 1965، وقد بلغت جوليا كريستيفا تحديدا سن الرابعة والعشرين، ستغادر بلدها بلغاريا القابع آنذاك في خضم الهواجس العدوانية لأزمة الحرب الباردة، تحت قبضة توتاليتارية بيروقراطية صماء لاإنسانية تماما، واجهتها الخارجية شيوعية بعيدة جملة وتفصيلا عن جوهر البيان الشيوعي، تدبر أمور تأويلاتها فقط أمنيا؛ أجهزة مخابراتية وبوليسية قاسية جدا لاتعرف سوى لغة التعذيب والإخضاع وقهر الأفراد.
ولدت وترعرعت في مدينة سيلفن، الواقعة جنوب شرق بلغاريا قرب البلقان، تحت كنف أبٍ راهبٍ رافض سرَّا لديماغوجية تلك التصورات ”المثالية” التي تؤدلجها زيفا مركزية الحزب الشيوعي، لذلك حرص أيَّما حرص رفقة زوجته، على توجيه ابنتيه الوحيدتين جوليا وأختها إيفانكا نحو آفاق مغايرة لمرتكزات المنظومة المجتمعية المسيطرة، بحيث وجههما نحو دراسة اللغات الأجنبية وكذا الانفتاح دون تحفظ على نصوص الفلسفة العالمية.
نزوع من هذا القبيل،قادها نحو نصوص البنيوية الفرنسية،نظرية الأدب عند موريس بلانشو ورولان بارت،ثم أدمنت على قراءة أعمال كامو وسارتر وكذا الروائيين الجدد.مرجعيات أمدَّتها بممكنات التفوق على باقي المُرَشَّحين الراغبين في الحصول على تأشيرة اللحاق بفضاءات جامعات فرنسا الجنرال ديغول، التي خصصت منحا لشباب بلدان شرق أوروبا، تسمح لهم بمواصلة الدراسة في فرنسا.
بعد نيل كريستيفا شهادة الليسانس في اللغة الفرنسية، بموضوع تناول الرواية الجديدة، جاءت المقابلة العلمية مع الملحق الثقافي للسفارة الفرنسية في صوفيا.الأخير، اندهش كثيرا، مثلما تخبرنا صفحات سيرتها الذاتية، نظرا لسعة اطلاع الشابة البلغارية على أدب نهاية القرن التاسع عشر وكذا تيارات القرن العشرين.لذلك، حصلت بسرعة على التأشيرة، لأنها تركت انطباعا جيدا لدى الملحق الثقافي.
غادرت بلغاريا نحو عاصمة الأنوار بمبلغ مالي لايتجاوز خمس دولارات،ولم تتسلم المنحة الدراسية سوى شهر يناير 1966 .
*مسار جامعي لامع :
اختارت كريستيفا الانتماء إلى المدرسة التطبيقية للدراسات العليا(EPHE) تحت إدارة لوسيان غولدمان.ثم، الانكباب على أطروحة انصب موضوعها على أصول الرواية الجديدة (ناتالي ساروت، ميشيل بوتور، آلا نروب غرييه) ستناقشها خلال أجواء ثورة غضب ماي 1968 . بحث لبلوغ استحقاق درجة دكتوراه السلك الثالث، استعادت كريستيفا من خلاله وثيقة أدبية تعود إلى القرن الخامس عشر،أقصد تحديدا رواية أنطوان دو لاسال (1385- 1461) :”Petit Jehan de Saintré ” .
غولدمان المؤطِّر لفصول وأقسام هذا العمل، مهاجر بدوره من رومانيا، اقتحمت أوراشه نص بليز باسكال وأعاد قراءة هيغل على ضوء جورج لوكاتش الفيلسوف الهنغاري مجدِّد الماركسية، وجراء طبيعة مشروعه اعتبرته كريستيفا الأقرب إلى مجال تكوينها.
أما شهادة دكتوراه الدولة، فقد انصب موضوعها على ثورة “اللغة الشعرية :طليعة نهاية القرن التاسع عشر مالارميه ولوتريامون”. تحت إشراف الأستاذ جون كلود شوفاليي. ناقشتها سنة 1973 داخل فضاء جامعة باريس/فانسان،أمام لجنة تألفت من رولان بارت، جان دوبوا، لوسيان فيبر. عتبة معرفية نوعية، انتقلت من خلالها كريستيفا إلى مجال السيميولوجيا
بعد هذه المرحلة، غادرت المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والتحوُّل إلى مجال الأستاذية في قسم علم النصوص والوثائق ثم الجامعة الجديدة باريس7 /ديدرو، ثم أستاذة زائرة بجامعة كولومبيا في نيويورك.
*ضمن قائمة أشهر مائة مفكر في العالم :
في سن الثامنة والعشرين، أصدرت كريستيفا مؤلَّفها : “سيميوطيقا أبحاث في العلامة والنسق(1969) .أشادت جل مكونات الهيئة المثقفة، بمحتويات مقاربة هائلة تستند على التحليل والموسوعية. تواصلت منذئذ سلسلة عناوين متينة قاربت مايناهز ثلاثين كتابا نوعيا، تنوعت منظوراتها بين التناص والسيميائيات واللسانيات والنظرية الأدبية والنقدية والتحليل النفسي وتاريخ الفن والسير ذاتية والمذكرات والفلسفة ثم أيضا انخراطها في فهم وتأمل القضايا الراهنة لمجتمع الرقمنة والفكر الجهادي و النسوية والأمومة وجسد اللغة والإعاقة.
إجمالا، تأرجح اهتمام كريستيفا بين الشكل (الطليعيون مثل مالارميه، لوتريامون، فيليب سوليرز) أو المفهومي (حنا أرنت)، ثم دراسات توخت تحليل نصوص فرديناند سيلين وبروست.هكذا، أبدعت مفاهيم مابعد البنيوية والتداخل النصي والحوارية والسيميوطيقا وكذا الرمزية. دون التغافل قط عن منجزها السردي والروائي.
انفتحت كريستيفا على مختلف التيارات الفكرية والأدبية كالبنيوية والوجودية والظاهراتية والماركسية، مثلما تلاحق الأسئلة الجديدة لما بعد الحداثة.
أيضا، لم يمنع التوجه اللائكي لكريستيفا وترسخ نزعتها اللادينية، كي تهتم بالجانب التداولي للقيم الدينية والأخلاقية ضمن تأويلات شعائر الديانتين المسيحية واليهودية، واستحضارها لنصوص صوفية، كما الشأن مع نصوص القديسة تيريز دافيلا، وأخضعتها لتطبيقات مفاهيم التفكيكية و السيميائية.
كتابات رفيعة ذات اجتهادات جادة ورصينة، وشحتها بجوائز فرنسية ودولية من قبيل :الشرف الوطني، الاستحقاق الوطني، حنا أرنت، فاكلاف هافل، هولبيرغ.
*الزواج بفيليب سوليرز : تكامل ذهني وجسدي
تكشف كريستيفا للقارئ في سيرتها الذاتية، عن حيثيات سياق لقائها مع فيليب سوليرز، الروائي والناقد البارز قياسا لباقي أعضاء حلقة “تيل كيل” الشهيرة التي ذاع صيتها سنوات الستينات :جان لوي بودري، مارسلين بيلنيت، جان ريكاردو، جاكلين ريسيت، دينيس روش، بيير روتنبرغ، جان تيبودو، بجانب شخصيات فكرية أخرى مهمة تقاطعت رؤاها ضمنيا مع أسئلة هذه الجماعة.أقصد تحديدا :جاك ديريدا، ميشيل فوكو، بيير غويوتا، جان جوزيف غو.
لقد و جَّهها جيرار جينيت ورولان بارت،صوب أهمية وضرورة لقاء كاتب وناقد شاب اسمه فيليب سوليرز، أبدع الرواية الجديدة.فعلا، وبعد انقضاء فترة زمنية طويلة، بادرت كريستيفا إلى الاتصال بالشخصية الشهيرة.
حينها، تجلت بقوة أولى بواكير توافق حميمي أصيل بين كريستيفا الطالبة البلغارية، المنبعثة أساسا من أجواء أسرة ثائرة وأرثوذوكسية، ثم سوليرز الروائي المنتمي إلى سلالة بورجوازية كاثوليكية معروفة في مدينة بوردو.
تشير كريستيفا، إلى حقيقة مفادها اقتناع سوليرز الثابت بكونه لن يتزوج في يوم من الأيام ،غير أنه تصور آمن به مرة واحدة فقط ثم قال : ”لِمَا، لا؟”.هكذا،تبلور على أرض الواقع وبكيفية ملموسة، زواج الفكر والجسد، الروح و الشبق، المفهوم والمتعة، الحكمة والرغبة، لذلك كان لابد لهما من التحاور والتناظر بخصوص حيثيات تجربتهما المؤسساتية تلك، ويطرحان بكل جلاء أمام القارئ مرتكزات حياة مختلفة جدا عن السائد يتقاسمها طرفان غير عاديين، بين صفحات كتاب اختارا له عنوان : الزواج كأحد الفنون الجميلة (فايار،2015) .
ينبغي التنبيه في هذا السياق،إلى إقرار رولان بارت المعروف بمثليته الجنسية،أمام هوبير وتيري داميش، بأنَّ كريستيفا جسَّدت له دائما نموذج المرأة الوحيدة التي أمكنه التطلع إلى الزواج بها.
*دافيد، ابن وحيد يعاني الإعاقة :
من المفارقات العجيبة لهذه الحياة الطارئة وفق تصور كريستيفا ،أن التماهي المثالي الذهني والبيولوجي بين عقلين جبارين، يطويان أغلب فترات يومياتهما في إعادة تمثُّل مداخل توليدية لنصوص هيغل، نيتشه، فرويد، جيمس جويس، جورج باطاي، رولان بارت، جاك لاكان، سيخرج إلى العالم طرفا ثالثا يعاني اضطرابات عصبية، ووظائف حركية أدت إلى حالات انشطار فُصامي على مستوى التكامل الحركي/النفسي، يتعلق الأمر بابنهما دافيد.وجع، دفع بكريستيفا إلى الانخراط بكل قوة في ورش الاهتمام بوضعية ومصير ذوي الإعاقة، فبادرت سنة 2003 إلى مخاطبة الرئيس جاك شيراك برسالة قصد إثارة الرأي العام نحو وضعية المعاقين.
*البرنامج اليومي :
رغم أن كريستيفا تحب الخلود إلى النوم،بحيث تلزمها تسع ساعات،كمعدل طبيعي وينعتها زوجها سوليرز بالمدمنة على النوم، فإنها تبدأ يومها ليلا، بحيث دأبت على الاستيقاظ مع دقات الساعة الثانية صباحا، توقيت بُرْمِج لديها تلقائيا منذ لحظة وفاة أبيها.تشرع في الردِّ على مختلف الرسائل الاليكترونية، وكذا تدوين بعض الملاحظات بقلم رصاص على دفتر صغير، توثق لموضوعات محتملة بالنسبة لمؤلفاتها المقبلة.
تتناول وجبة الفطور عند الساعة الثامنة صباحا، شايا بالحليب، أحيانا بعض الحبوب الغذائية وفاكهة.طاولة واحدة تجمعها مع زوجها وابنهما دافيد، تتخللها نقاشات حول تفاصيل البرنامج اليومي.بعد ذلك، قد تمارس بين الفينة والأخرى، قليلا من الرياضة أو نزهة قصيرة في حديقة لوكسمبورغ.
ابتداء من الساعة العاشرة، ينطلق الاشتغال : وضع مواعيد بخصوص عيادة التحليل النفسي، لقاءات، دروس في الجامعة أو مؤسسات أخرى، ثم التحضير لكتب.
خلال الظهر، تضع كريستيفا جدول مواعيد مهنية محددة تلتقي إبانها على طاولة الغذاء، زملاء في العمل، طلبة باحثين، أو أصحاب دور النشر.
بعد ذلك، تباشر ثانية عملها غاية الساعة السابعة ونصف مساء،بالتركيز أكثر على محاضرات مرئية عبر الأنترنيت.
على امتداد الظهيرة، تتسلى بالاستماع إلى الموسيقى بين حصتي جلستين للعلاج النفسي أو الكتابة مادامت الأخيرة حسب كريستيفا، تجعل من الطاقة حركة، تحتويها وتهدئها و يتلاشى التعب في غضون طقسها.
عند الساعة الثامنة ونصف، تستعيد ثانية أجواء الفضاء الأسروي، بفضل وجبة مسائية رفقة سوليرز ودافيد، ثم ينفرد كل واحد منهم بنفسه كي يقرأ مصغيا إلى موسيقاه المفضلة. تظل سيسليا بارتولي، خيطا ناظما لعشقهم المشترك بجانب حفلات الموسيقى الكلاسيكية و الباروكية.
تجلس كريستيفا قليلا أمام التلفاز، تهتم خاصة بالبرامج الأمريكية،لاسيما مشاهدة القنوات الإخبارية أساسا قناة (CNN) ،وكذا المناظرات السياسية، بينما لاتحب متابعة البرامج الأدبية، تجنبا لمعاينة كارثة التسطيح التجاري حسب تأكيدها.
*كرة القدم/زين الدين زيدان :
تظل مباريات كرة القدم متعة بالنسبة لكريستيفا.عشق يعود إلى سنوات طفولتها الأولى في بلدها بلغاريا، حينما كانت ترافق والدها بانتظام إلى الملعب.تشجع دون كلل، بجانب ابنها دافيد، فريق باريس سان جيرمان.
تثير شغفها كثيرا مهارات زين الدين زيدان الذي كان صديقا لدافيد ومتواصلا معه. إبان فترات تواجد هذا اللاعب ضمن تشكيلة المنتخب الفرنسي،تنغمس تماما في أجواء المباريات، إلى درجة أنها تتوقف عن إتمام اللقاء حينما يكون الفريق الوطني منهزما.
*المطبخ :
تحب كريستيفا تعريف نفسها بكونها طاهية جيدة، بل تحب تقديم أطباق إلى جماعة الأصدقاء. تفضل وجبتين هما :سمك السلمون المرقَّط بالزنجبيل، ثم شريحة لحم الخنزير بأربعين عود من نبات القرنفل.
تعلمت مكونات هاتين الوصفتين من أصدقاء رجال، أشخاص في غاية الجدية تؤكد كريستيفا لايتكلمون كثيرا ويتوقفون عن الكلام خلال لقاءات على طاولات عشاءات تنظمها زوجاتهم، بينما تجدهم لا يغادرون مواقد الطهي.تقصد هنا تحديدا، الناشر إيفاف نابوكوف وزوجته كلود،وجون توسان ديسانتي.
*المرض :
تعاني كريستيفا بشكل متواتر من حالات التهابات في الحلق والأنف وحالات زكامية أخرى بجانب تأثيرات الفيروس الكبدي.ثم ضغط كبير على مستوى العمود الفقري مما يلزمها القيام ببعض التمارين على عارضة مثبتة فوق باب مكتبها والاستعانة بالكرة السويسرية ذات الاستعمالات المتعددة.
غير أنه وللمفارقة، تفضل أحيانا حالات الوهن والتعب تلك مادامت تتيح لها بكيفية معكوسة التوقف عن قراءة أربعة كتب دفعة واحدة، أو الاشتغال على خمسة أعمال خلال الوقت ذاته، ثم الإسراع صوب عشرات الاجتماعات خلال يوم واحد والسفر على متن أربع طائرات في شهر واحد.
هكذا تتعطل آلية يومها في صيغة ديناميتها المعتادة،كي تجلس صامتة تتأمل من وراء نافذة منزلها حديقة لوكسمبورغ