أرشيف المراكشية / عبد الصمد الگباص
هذه الوجوه أسماء لثقافات تناوبت على ذات المكان ، صنعت حياته ، و حولته إلى أسطورة، لا تعترف بها مراكش اليوم . إنها وجوه متقابلة في ذاكرة لا يسهر أحد على حماية آثارها .
يغطي اسم ابن رشد مفارقة مراكشية من الطراز الأول . إذ لا يكاد باحث أو مؤرخ من المدينة يذكر صاحب» فصل المقال « حتى يربطه مباشرة بالمدينة الحمراء ، كما لو كان يجد في ذلك عزاء للنفس ، أمام خيبة الواقع ، و تنكر حاضر المدينة لأمجادها الحضارية و الثقافية . أي ذلك التنكر الذي يعكس فداحة ما نحياه في مدينة لم تعد قادرة على تحمل ثقل تاريخها الكبير ، فشرعت في معاداة كل إشارة احترام له و لو كانت ضئيلة القيمة . فأين مراكش اليوم من ابن رشد ؟ ما الذي تحتفظ به هذه المدينة من النفوذ الرمزي لهذا الرجل الذي يخترق التاريخ ؟ أي أثر تصونه عاصمة النخيل عن هذا الاسم الكبير الذي مر منها و أقام بها ، حيا ثم ميتا و لو لأشهر قليلة قبل أن ينقل جثمانه إلى الأندلس؟
تحيا المدن بأولئك الذين يُؤسطرونها بأسمائهم ، تذكرنا بهذه الحكمة كبريات المدن العالمية ، كباريس سارتر و سيمون دوبوفوار ، و قاهرة نجيب محفوظ و أم كلثوم ، و نيويورك بول أوستر ، و فينيسيا فيفالدي، و بيروت فيروز ، و بغداد شاكر السياب ، و طنجة محمد شكري ، أي تلك الأسماء التي تكاد هذه المدن من دونها تنسى ، و لاتسترجع إلا كامتداد أسود للزحام و السرعة و الجشع .
تبنى أمجاد المدن في قلب أساطير شخصياتها ، الذين يحولونها إلى مملكة شاسعة تمتد في وجدان أقوام و ثقافات متباينة ، و يجعلون منها حلما مطلوبا يتعقبه الناس في رحلة بآلاف الكيلومترات ، يبحثون فيها عما يشير إلى الحضور الأبدي لهذه الرموز في فضاءات المدن التي ارتبطت بهم ، و عن الاعتبار الذي تحتفظ به في حقهم ، ذلك الاعتبار الملموس الذي تفصح به المدينة في تفاصيلها المعمارية و تشكلاتها المادية و الرمزية و الجمالية .
كل من زار ، من مراكش، حواضرَ بعينها ، يحس بمرارة هذا الفقر و الجحود التي تواجه به عاصمة المرابطين تاريخها و الذين صنعوا مجدها و في مقدمتهم أبي الوليد ابن رشد . فعندما تزور تونس العاصمة و ترى بعينيك إلى أي حد تكرم المدينة صانع مجدها ابن خلدون بتمثال ضخم منصوب في أكبر شارع بها ، و عندما ترى عشرات التماثيل التي تنصبها القاهرة لعظماء مصر ، في قلب كبريات ساحاتها و ميادينها و شوارعها ، ناهيك عن المدن الأروبية ، حينها تشعر بفداحة ما تعرض له ابن رشد بمراكش . ذلك الطمس النهائي و التام لأي علامة تحمل اعتبارا للرجل .
ستبحث في المدينة الحمراء عن شارع ، أو حتى زنقة أو زقاق صغير ، يحمل اسم ابن رشد ، و لن تجده ، ستبحث عن أية علامة لتخليد ذكراه في ساحة باسمه ، أو نصب تذكاري له ، و لن تعثر عليه . وحده النسيان و الجحود و التنكر و الإصرار على الأسوأ و الأردأ هو ما يتمادى في الاستحواذ على إرادة الحاضر.
ما تفوّته مراكش بهذا الجحود ، هو فرصة صيانة روحها ، تلك الروح التي تجتهد المدن العالمية بتعميق حضورها من خلال صيانة أمجاد عظمائها من مثقفين و فنانين وسياسيين و كتاب و رياضيين ، و تحولهم إلى رأسمال حي ممتد في الزمن .
يطل اسم ابن رشد على مراكش اليوم بتهكم . فهو الذي يكرم المدينة ، و يبني مجدها ، وتكفي لإثبات ذلك ،تلك الإشارات التي تتكرر في الآلاف من الكتب التي ألفت و مازالت تؤلف عن أبي الوليد ابن رشد بمختلف اللغات ، و التي لابد أن تذُكر بعلاقته بالمدينة و وفاته بها و رقاده لمدة ثلاثة أشهر بقبر قيل أنه هو الذي يثوي رفاث ابي العباس السبتي .
فضل عائلة ابن رشد على مراكش إلى اليوم كبير . و يكفي أن نذكر أن ابن رشد الجد كان هو من أشار على السلطان علي بن يوسف ببناء سور المدينة الذي يمثل أول أثر تاريخي تدركه العين بمراكش ،لأنه واجهة المدينة و رمز حمايتها . و ذلك ما يفصل فيه صاحب « الحلل الموشية في ذكر الأخبار الأندلسية «.
حان لمراكش أن تصحح وضعها اليوم بالنسبة لتاريخها ، أن تعيد ابن رشد إليها ، أن تكرمه كما كرّمها . و أن تتيح لمن يبحث عنه بها أن يعثر عليه في ساحة محترمة تحمل اسمه أو شارع أو نصب يليق بعظمته . حان لها أن تستفيد من مجده