للأستاذ محمد بن إبراهيم الدفلي
لقد تناولت أقلام الكتاب والأدباء من مختلف الهيئات شخصية العلامة الشيخ الكبير سيدي محمد المختار السوسي، فتناولت علمه، وأدبه، وصوفيته، ووطنيته، وجهاده، ولم أطلع فيما قرأت لهم على من تناول بالدرس والتحليل مدارسه الوطنية والعلمية في مدينة مراكش، مع أنها لعبت دورا هاما في الإشعاع العلمي والوطني، وقلبت أوضاع الاستعمار في الجنوب المغربي، وعلى رأسها مدرسة الرميلة التي كان يصفها الاستعمار بثكنة عسكرية في البلاد.
ومن الوفاء والمروءة ألا ننسى ما قامت به هذه المدارس، وأن نسطر لها في التاريخ على الأقل بعض ما قامت به من جهاد ونضاع وإشعاع، فمن المعلوم أنه حوالي سنة 1348هـ تعاهدت الثلة النيرة من العلماء الوطنيين بفاس بعدما ارتووا وكرعوا من حياض المعرفة والعلم، وقد كان من أعضائها البارزين الأستاذ المختار السوسي، على أن يشخص كل واحد منهم إلى ناحية لنشر العلم والوعي بين المواطنين.
وكان من حظ أستاذنا إحياء الجنوب، وتوعية الجنوب، وتثقيف الجنوب، وذلك في مدينة مراكش، عاصمة الجنوب. وقبل أن أتكلم على حلول أستاذنا بها، يجمل بنا أن نلقي نظرة عليها وقتئذ. لقد وجدت فرنسا مقاومة فعالة في الجنوب، لم تكن في الحسبان، وبالذات في (أيت بعمران)، وبما أن مراكش هي عاصمة الجنوب، فقد ركزت فرنسا جميع قواتها، وألقت عليها بثقلها عليها، وأطلقت أيدي أذنابها في هذه الناحية تعثو فسادا، وتسهر على مصالح الاستعمار في المنطقة، مما جعل مراكش المسكينة تنفصل عن باقي مدن المملكة، وتعيش تحت رحمة الجلادين المرتزقة الذين أمعنوا في التنكيل والتعذيب، خشية أن يتسرب لها ما أحسه الاستعمار في فاس من الوطنية، والحركة القومية والأدبية، التي بدأت تنتشر شيئا فشيئا، وتغزو باقي البلاد، وخصوصا بعد الانتصار الذي أحرزته الثورة الريفية.
وتفاديا لكل خطر ينجم عنه استفحال حركة المقاومة في الجنوب، وجبال الأطلس الكبير، فقد احتاطت فرنسا احتياطا يجعلها في تأهب دائم، واستفسار متوقع، لما عسى أن يحدث، فبنت القلاع والثكن في مراكش، ووجهت أفواه المدافع الثقيلة من حصن جبل (جيليز) إلى هذه المدينة، وأثقلتها بالجيوش المجلوبة من السينيغال، والسودان، وساحل العاج، وتشاد، وأوعزت إلى أذنابها بترويج سياسة القمع والإفقار، فاستغل كثير من هؤلاء الأذناب هذا الجو، فأطلقوا أيديهم في المواطنين، وأمعنوا في الانتقام بالقتل والسجن ومصادرة الأموال، بمرأى ومسمع حكام فرنسا، وهم لا يحركون ساكنا، ولا يسمعون صراخا، وهذا الجو الخانق صرف المراكشيين عن التفكير في مقاومة الاستعمار، وفي خلق أي جو أدبي أو سياسي يهديهم إلى التكتل وجمع الكلمة، ورفع صوتهم بما يجري داخل الإقليم، على غرار ما في مدينة فاس، وزيادة على ما تتردى فيه البلاد من جهل وفراغ ثقافي تعاني منهما المدينة المسكينة.
فالمدارس الابتدائية لا تكاد تتجاوز عدد أصابع الكف الواحد، وهذه المدارس كلها فرنسية؛ المدير فرنسي، والمعلمون فرنسيون أو جزائريون، وليس للعربية إلا حصة ضئيلة يقوم بتدريسها مدرس، بكيفية مزرية تنفر التلاميذ من الحضور فيها.
وأما مسجد (ابن يوسف) فلا يُدرس فيه إلا ما يمت إلى النحو والفقه المذهبي الخالي من التوعية والجهاد، وتَمنع بتاتا درس الأدب الصحيح، والتاريخ، والجغرافية، وما يمت إلى ذلك بصلة.
وفي هذا الجو الخانق المكهرب، وفي هذا التفقير السافر، والجهل المحدق، حل أستاذنا مدينة مراكش، وهو لا يجهل هذه الأجواء، ولا يجهل أن مراكش تعيش في قبضة استعمارَين:
استعمار جلاد مراكش، صاحب الزبانيات المبثوثة في كل حي، وفي كل درب، والمواطنون تحت رحمة المقدم والجراي وصاحب الدور، ولا يمكن بحال أن تحدث أية حركة، ولو بسيطة، دون أن تبلغ في حينها إلى آذان الجلاد وأعوانه.
والاستعمار الثاني: هو فرنسا، التي أحاطت المدينة بهالة من القوة المسلحة، ترهب بها المواطنين، وتنفذ فيهم الأحكام القاسية الظالمة، التي يصدرها الجلادون والأذناب، ومن نزل إلى المدنية من الفلاحين والبدويين قبض عليه، وسيق في جماعة مصفدة بالجبال إلى مشحم يسمى (الفوريان)، وبخرت ثيابه بمادة ممزقة لثياب الصوف، مما جعل المدينة خالية من سكان الناحية، ومن لبسا الصوف الذي يزاحم الثياب المستوردة من بلاد الاستعمار.
وهكذا حل الأستاذ مدينة مراكش، وواقعها فوق ما وصفت، فاستمِع إليه يصف حلوله بها؛ قال رحمه الله: «حللت بالحمراء، وقد ألقيت بها مرساتي، وأنوي أن أقضي الواجب علي لديني، ولوطني، ولشعبي، ما بين تلميذ يهذب، وبين درس وإرشاد يلقى، وأنا في جانب ذلك أناغي اليراع فيما عسى أن يرفع من شأن هذه الأمة من إحياء ما اندثر من آثار ماضيها، ومن المحافظة على العربية الفصحى التي أراها في انهيار. في هذه الميادين الثلاث قضيت أزمانا تكشفت لي عن أعمال كان فضل الله علي فيها أعظم» انتهى.
حل بها على بركة الله، ولكن كيف؟، وهو الغريب الوحيد، يستطيع أن يقلب هذه الأوضاع، وكيف يحيي هذه الأفكار التي زنا عليها الجهل والجمود، وبأي لسان يخاطب هذه الأوساط التي هي أبعد ما تكون عن الوطنية، وما هو الأسلوب الذي يمكن أن يستخدمه مع جيوش العيون وفيالق الجواسيس، وكل حركة يقوم بها في هذه الأمور إلا وسيكون مآلها الفشل، ويقضي عليها في المهد.
وعلى كل حال؛ فقد اقتحم المعركة، وفكر وهو ابن زاوية والده الحاج علي الدرقاوي، بين الفقراء الذين يتغنون بذكر الله، أن يجعل من هذه الزاوية، على صغرها، مدرسة لتلقي العلوم والوطنية، فأقنع الفقراء والمريدين بأن الدين الإسلامي ورضا الله سبحانه يكمنان في نشر العلم، وتلقين الناشئة كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوكلَ على ربه، ودشن المدرسة بأطفال أسرته وأسر الفقراء.
وسرعان ما شاع ذكر المدرسة الجديدة في درب الزاوية، فتقاطرت وفود التلاميذ والطلبة من كل أنحاء البلاد وضواحيها، وبالخصوص من أصقاع سوس، ومن آسفي، والصويرة، وأكادير، والبيضاء، مما حدا بالأستاذ أن يعمل على إحداص حجرات آخرى للدراسة، وبيوت إيواء الطلبة العاجزين عن إيجاد المأوى خارج المدينة، مع قلة ذات يده، وكان رحمه الله يقوم بإطعام جل هؤلاء الطلبة المغتربين؛ فطورا، وغذاء، وعشاء، ويُمد فقراءهم بما يحتاجون إليه من كتب، ودفاتر، ولباس، مع قلة، وفي أزمة اقتصادية خانقة فرضتها الحرب البادرة آنذاك بين ذئاب الاستعمار، أزمة لا يعرف شدتها إلا من عاشها.
وبقد أدهشت مجازفة الأستاذ مغامرته جميع الأوساط المراكشية، إلى حد قولهم: إن المختار يستخدم الجن في تموين طلبته، خصوصا بعدما تطوع بإطعام حتى تلاميذ المدينة، طعام فطور، لما رأى منهم فوضى كبيرة في تناول الفطور في أوقات مختلفة، وكان الطلبة والتلاميذ على ثلاثة أصناف:
* صنف يستظهر كتاب الله، وقد أخذ بعض المعلومات من خارج.
* وصنف يستظهر المعلومات، وليس له من المعلومات شيء.
* وصنف صغير، في طور البداية.
فجعل من الصنف الأول قسما كبيرا، سماه: “الطبقة الأولى”، ومن الصنف الثاني قسما، سماه: “الطبقة المتوسطة”، ومن الصنف الثالث أقساما، سماها: “الطبقات الصغيرة”، واستخدم مع الكل المنهاج الذي كان يلهج به، وهو منهاج ابن خلدون الذي استحسنته بيداغوجية اليوم.
اسمحوا لي أن أتلو عليكم مقررات المدرسة، وبرامجها الاستعجالية:
بعد استظهار القرآن الكريم كله، فأول ما يلقن للتلاميذ النحو بـ”الجرومية” بكيفية مبسطة، ثم الجزء الثالث من “الدروس النحوية” للجنة المصرية، ثم الجزء الرابع ويسمى: “قواعد اللغة العربية”، ثم “الألفية” لابن مالك بشرح ابن عقيل.
وفي في الفقه: دروس محضرة بسيطة، مع أدلتها من السنة، يقوم بتحضيرها الأستاذ إبراهيم الإلغي ابن عم الأستاذ رحمه الله، ثم “رسالة ابن أبي زيد القيرواني” مجردة من كل شرح، ثم “ألفية ابن عاصم” مجردة من كل أسباب الخلاف.
وفي الحديث: “الأربعين النووية” مجردة، و”بلوغ المرام” لابن حجر مجردة، ثم “عمدة الأحكام” مجردة، فـ”الموطأ” مجرد، وهناك درس في “صحيح البخاري” في (مسجد الكتبيين) بين العشاءين.
وفي التاريخ: “السيرة النبوية” أولا بـ”نور اليقين”، تحفظ كلها تقريبا، ثم “إتمام الوفاء”، ومناك درس دائم في تاريخ المغرب بـ”الاستقصا” عشية كل أربعاء.
وفي الأصول: “الورقات” لإمام الحرمين، بكيفية مبسطة، ثم “ألفية ابن عاصم” في الأصول، ثم “أصول الفقه” للخصري، الذي يوازي “جمع الجوامع”.
وفي البلاغة: بداية من “قواعد اللغة العربية”، الجزء الرابع من “الدروس النحوية”، ثم “منظومة الشيخ ابن كيران في الاستعارة” مجردة.
وفي الأدب، وهو فنه الأول بعد الحديث، ولا ألام إذا أطلقت الكلام في هذا الفن، لأن شيخنا رحمه الله كان أديبا عبقريا قبل أن يكون فقيها، وقد كنا نلمس أدبيته في فقهه، ونحوه، وصرفه، ووطنيته، وتاريخه، وإنك لتحس نشاطه المتزايد وسموه العالي أثناء دروسه الأدبية، حيث تراه يهتز من مكانه، ويتذوق ويتململ ويترنح، ويردد ويعيد، ويهيب بنا أن نتذوق ونحس ما يحسه، يبدأ دروسه في تحفيظ قطع صغيرة من بيتين إلى ستة لها علاقة بالهمة والمجد والعزة، والبطولة والعلم والتعلم، والأخلاق الفاضلة.
ويجمل بي أن أسرد عليكم دفتر المحفوظات الأدبية، لما لها من الأهمية؛ وأولها قصيدة المسوأل: «إذا المرء لم يدنس»، ثم قصيدة شاعر الشباب آنذاك علال الفاسي: «كل صعب على الشباب يهون»، ثم قصيدة المعري: «ألا في سبيل المجد»، فقصيدة ذو الأصبع العدواني: «يا من لقلب شديد»، فقصيدة علي بن الجهم: «عيون المها»، فقصيدة حافظ: «رجعت لنفسي»، ثم معارضتها للأستاذ: «بأي خطاب أم بأي سنة»، وكان يأخذنا العجب الشديد حيث كنا نجد تفوق الأستاذ في بعض الأبيات على حافظ، فأستاذنا الذي عاش في جو بعيد عن الجو الذي عاش فيه حافظ، وفي وسط غير وسط حافظ لم يركب النيل، ولم يسهر السهرات الأدبية لحافظ والمساجلات، ولم يجالس أصحاب الصالونات، من أمثال: شوقي، والرافعي، ومي زيادة، ولكنها العبقرية والنبوغ. ثم قصيدة دريد بن الصمة: «نصحت لعارض وأصحاب عارض»، ثم “لامية العجم” للطغائي، و”لامية العرب” للشنفري، ثم قصيدة أبي تمام: «السيف أصدق»، ثم معارضتها لشوقي: «الله أكبر كم في الفتح من عجب»، ثم نونية ابن زيدون: «أضحى التنائي»، ثم سينية البحتري: «صنت نفسي عما يدنس نفسي»، وقصيدة ابن عبدون: «الدهر يفجع بعد العين بالأثر».
وفي الساعة الثانية من كل صباح يوم خميس، توضع إحدى هذه القصائد على طاولة الشرح، فتشرح الألفاظ، ويؤتى بكل ما يرادفها، ثم المعاني الإجمالية، ويستحضر كل ما قيل في هذا المعنى من القديم والحديث، ويسجل كل ذلك ليُحفظ ويُعرض في الدرس الموالي، ثم يشرع في دراسة تاريخ الأدب العربي، والكتاب الرائد هو: “المنتخب من أدب العرب” للجنة المصرية، فتُحفظ المعلقات وتشرح، ثم “عصر الإسلام”، إلخ. وفي الساعة الثالثة من صباح يوم الخميس؛ هناك درس دائم في “الكامل” للمبرد، يحضره بعض علماء مراكش.
ولتربية الملَكة الأدبية في الطلبة، كان الأستاذ يفرض على كل جماعة من الطلبة الاشتراك خصوصا في مجلة “الرسالة” المصرية، تُطالع بالتناوب، وتلخِّص الجماعة كل ما تحتوي عليه المجلة من أبحاث أدبية وغيرها، كما أُحدثت المكتبة بداخل المدرسة، يشترك في إغنائها الطلبة والتلاميذ شهريا، وتُستورد الكتب من مصر، ويُلزم كل تلميذ بمطالعة كتاب يناقَش فيه بعد إتمام مطالعته. وفي الإنشاء؛ تعطى يوم الخميس مواضيع مختلفة، تكون شغل الطالب عشية يوم الخميس، التي هي العطلة الأسبوعية التي يعطيها الأستاذ للفقراء والمريدين.
وصباح يوم الجمعة تقدم المواضيع للتصحيح والمناقشة، ومن أحرز على السبق جوزي بتنويه شعري _ غالبا _ أو نثري من الأستاذ. أما الصرف، والجمل، والحساب، والفرائض، والجغرافيا، والعروض؛ فلا يدرس ذلك كله إلا العواشر في ليالي الأعياد، حيث تخف الدروس الدسمة، وتُعطى الأهمية إذ ذاك لهذه الفنون، فيقرأ الصرف بـ”لامية الأفعال” لابن مالك، مع ما استدركه عليها الأستاذ من الشواذ، والعروض بـ”الكافي”، ومؤلفات مصرية مُجَدْوَلة، والفرائض بـ”الرسالة”، و”منظومة الفرائض”، و”الجمل” بمنظومة الزواوي، والجغرافيا بـ”الجغرافية الحديثة”، والحساب بكتب فرنسية يتولى دراستها الأستاذ عبد القادر المسفيوي في (مسجد سيدي إسحاق) في عشايا رمضان، والتلاوة بكتب المنفلوطي: “ماجدولين”، و”النظرات”، و”العبرات”، و”الفضيلة”، وكان الأستاذ مغرما بكتابة المنفلوطي، وكان يجعل كتابته قدوة، ويأمر الطلبة أن ينسجوا على منواله، وفي أعياد المولد تُدرس شمائل المصطفى صلى الله عليه سلم بـ”شمائل الترمذي”.
هذه _ سادتي _ المقررات على الإجمال، أما البرامج؛ فالطبقات الكبرى من الطلبة يتولى دروسها كلها الأستاذ بنفسه، وأوقات عملها: من أذان الصبح إلى الظهر، تنتقل من درس إلى درس، ومن الثانية ونصف تقريبا إلى صلاة العشاء، وآخر درس هو حصة البخاري في (مسجد الكتبيين).
أما الطبقة الوسطى؛ فيتولى دروسها كلها الأستاذ الجليل سيدي إبراهيم الإلغي ابن عم الأستاذ، ووقت الدراسة فيها: من السابعة صباحا إلى الظهر، ومن الثانية إلى العشاء، وينوب عن الأستاذ إبراهيم بعض كبار الطلبة.
أما الطبقة الصغرى؛ فإن الأستاذ يختار لكل جماعة نجيبا من نجباء الطلبة الكبار يكون مسؤولا عن فن من الفنون، بعد الانتهاء من حصة القرآن.
وهكذا كان الأستاذ يحقق هدفه الأول من الأهداف التي عاهد الله عليها.
وأما الهدف الثاني _ وهو توعية الشعب _؛ فقد كان يقوم بأربعة دروس يوميا علانية: درس في “البخاري” صباح كل يوم بعد صلاة التراويح في (مسجد باب دكالة) الذي كان بمثابة المدرسة الأصلية، ثم درس في “الشيخ خليل” في الصباح بابن يوسف قبل النظام، ثم درس في “موطأ مالك” في عشية كل يوم (بمسجد سيدي عبد العزيز)، والدرس الأخير بين العشاءين (بمسجد الكتبيين).
وأما الهدف الثالث الذي قال عنه: «وأنا في جانب ذلك أغاني اليراع فيما عسى أن يرفع من شأن هذه الأمة، من إحياء ما اندثر من آثار ماضيها، ومن المحافظة على العربية الفصحى التي أراها إذ ذاك تنهار»؛ فرغم أشغاله العظيمة بالدروس الكثيرة، والمطالعة لها، كان يكتب في التاريخ المغربي يتوسع، وكم قرأ علينا من كتابته فيه، خصوصا في الفترات الغامضة بعض الشيء من تاريخ المغرب، كأعمال الكاهنة وكسيلة بالتدقيق بعد مقتل عقبة إلى أن حل الأدارسة بالمغرب، ومن سقوط دولة الأدارسة بفاس، وقصر النسر بالشمال بتدقيق حتى ظهور دولة المرابطين، كما كان يسجل حوادث الاحتلال الفرنسي، ومشاركة أحمد الهيبة ومربيه ربه في المقاومة، ودخولهما إلى مراكش، وما قيل في ذلك نضرا وشعرا، خصوصا شعر العلامة الأديب الطاهر الإفراني، وقد أودع بعض ذلك في كتابه “المعسول”.
وكان ما عادته أنه إذا رأى نجابة خارقة وعبقرية في طالب أو تلميذ ما، هنأه بقصيدة أودع فيها نجابته ونبوغه، وأهب به أن يواصل السير، وأن لا يقنع بما حصل عليه، كما كان يمسح دموع من ناله عقاب أو عتاب بقصيدة تنشطه وتنبهه من غفوته وكسله، كما كان يجيب على ما قدم له من بواكير الشعر من طلبته، كالشاعر الحسن التناني، وأحمد شوقي، وعرفة الفاسي، والأستاذ كوثر الروداني، وعبد القادر حسن، ويستنهض هممهم، ويوصيهم بالمواصلة، وعدم الوقوف عند حد.
وقد اجتمع من هذه القصائد دفتر كبير سماه “الرميليات”، وكان يقيم بهذه القائد، خصوصا ما قيل في التلاميذ وصغار الطلبة، سوقا أدبيا عشية كل أربعاء، بعد درس التاريخ، سمى هذه السوق: “سوق عكاظ”، _ وسأتكلم عنها إن بقي في الوقت متسع _، وكان يشارك في كل ناد من نوادي الأدب بمشاركة شعرية أو نثرية، وأكبر مشاركة أدبية في هذه الحقبة؛ مشاركته في ذكرى مرور ألف عام على وفاة نبي الشعر “المتنبي” بقصيدة شاعرية نال بها كرسي إمارة شعراء المغرب إذ ذاك.
وهكذا نشطت هذه المدرسة أيما نشاط _ كما سمعتم _، غير أن الأستاذ لاحظ أن كثيرا من الميسورين رغبوا في أن يتابع أبناؤهم في مدرسته، ولكونهم يتخوفون من جلوس أبنائهم على الحصر البالية إلى جانب الوافدين من أبناء سوس وآسفي والصويرة، فوُفق بحمد الله إلى تأسيس مدرسة جديدة على غرار المدارس الحكومية، بها غرف واسعة، ومقاعد، وطاولات خشبية، وسبورات كبيرة، وأفنية نظيفة، ذلك في (قاعة ابن ناهض)، مسكن الأغنياء من مراكش، وكانت هذه المدرسة تسمى: “الكتاب الإسلامي”، ثم سميت بعد لما دخلتها الفرنسية: “مدرسة الحياة”، وجعل على إدارتها أخاه العلامية سيدي إبراهيم الإلغي، الذي كان يقطر لطافة وجمالا وأناقة رحمه الله.
وقد أدت هذه المدرسة رسالتها على أحسن حال، وتخرج منها كثير من نبغاء المغرب، ولعبت دورا هاما في التربية الوطنية، وظلت مفتوحة حتى سنة 1953، حيث نقلت إلى مدارس محمد الخامس بروض العروس التي كان الأستاذ رئيس اللجنة المؤسسة لها، وما زالت _ والحمد لله _ هذه المدرسة صدقة جارية من صدقاته، وقد تفرعت عنها “مدرسة الفضيلة” للفتيات.
وأخذت هذه المدرسة على نفسها منذ نشأتها توعية المواطنين، فكانت تتحين فرص الأعياد، وحفل انتهاء الدراسة، فتقيم الحفلات التي تستدعي لها أسر التلاميذ والمواطنين، وتعرض أمامهم روايات مختلفة، الغرض منها زرع الوطنية في قلوب الشعب المراكشي، كما تلقى فيها قصائد مغربية وشرقية حماسية، تلهب فيهم نار الكراهية للاستعمار وأذنابه، وتهيب بهم أن ينفُضوا عنهم غبار الخمول والجمود، مما جعل المراكشيين يسمون “مدرسة الحياة”: “مدرسة الوطنيين”، وبالفعل كان أستاذها والمشرفون عليها من أكبر الوطنين؛ كعبد الله إبراهيم، وعبد القادر حسن، والبشير التعارجي، والأستاذ الحسين الورزازي، وسيدي ابريك الغراس، وأخيه الأستاذ الصديق، ومولاي أحمد، وعبد ربه.
وكان الأستاذ المختار يحرص على أن يجمع بين تلاميذ الرميلة الذين يدرسون على غرار المدارس العتيقة، وتلاميذ “مدرسة الحياة” الذين كانت دراستهم حديثة، والغرض من هذا الجمع تلقيح تلامذة المدرستين بعضهم من بعض، والمؤاخاة بينهم، فكان يوصي كل أخ بأخيه، ليمد كل واحد منهم الآخر بما عنده من المعلومات، كالقصائد، والأناشيد، والروايات، وتُجرى بينهم مباريات في المحفوظات، وسرعة الأجوبة في مسائل نحوية وصرفية وفقهية، وفي القدرة على القيام بالخطب، والاسترسال في الكلام باللغة العربية مدة طويلة.
وكان يخصص من وقته حصة للاجتماع بالفوج الأول من الوطنيين الذين ربط بينهم وبين الوطنيين بفاس، وكان هذا الجمع يضم _ فيما يضم _ الأستاذ عبد الله إبراهيم، وعبد القادر حسن، وأحمد الملاخ، ومحمد بن داود، وأحمد بن الشرقي، ومولاي أحمد الخامر، وغيرهم من مؤسسي الحركة الوطنية في مراكش.
كما كان يخصص وقتا آخر للاجتماع بعلماء مراكش الذين كان يأنس منهم الاستطاعة بالقيام بما ينفع الشعب، خصوصا الناحية الثقافية، وقد استدرجهم بما عنده من الكياسة والتواضع وحسن الاجتذاب للاجتماع والتقارب، ونبذ التنافر الذي كان سائدا بينهم، وأشار على كل واحد منهم بفتح مدرسة على غرار مدرسته، قياما بالواجب، وأداء للرسالة، وسهل لهم الصعاب، وقدم لمن يحتاج منهم المساعدة والإعانة، فتسابقوا لهذه المشروع؛ ففتح الأستاذ ابن عثمان مدرسة في (المواسين)، وسيدي محمد بن عبد الرزاق مدرسة في قاعة (ابن ناهض)، وسيدي عبد القادر المسفيوي مدرسة بـ(الرحبة القديمة)، وسيدي عبد الجليل بلقزيز مدرسة بـ(أزبزط)، وفتح العلامة سيدي أحمد أكرام مدرسة بحارة (الصورة)، زيادة على ما كان يقوم به من دروس الحديث بالمسجد، وفتح سيدي أحمد بلفضيل مدرسة بحارة (الصورة) كذلك.
فأصبحت مراكش بفضل الله تزخر بمدارس محمد المختار السوسي، التي أصبحت تفوق عدد مدارس الحكومة، إذ ذلك تنبه الاستعمار لخطر مدارس المختار السوسي، وخطر شخصيته على المنطقة، فطوق بأعوانه وجواسيسه مدرسة الرميلة، والتحق منهم عدد بطلبتها ينقلون أقوال وأعمال المختار إلى الإدارة في كل يوم، ولم يكن ذلك خافيا على الأستاذ، بل كان يعرف كل واحد منهم، كما طوقت دروسه الوعظية بأكبر الجواسيس والعيون، وشعرنا نحن بتغيير في حال شيخنا، حيث حل القلق والضجر والاكفهرار على محل النشاط والسرور، وأصبحت دروسه قلقة يتذمر فيها الأستاذ، ويوسع الكل عتابا ولوما على غير عادته، ويصرخ بنا إذا خلا بقوله: «جَدّوا واشتغلوا فإن أمارات الفراق تطل من قريب»، وكنا لا نأبه لمثل هذا التصريح، ونرجعه إلى التشاؤم وضيق الصدر، ولكن فراسة المؤمن لا تخطئ، فما هي إلا أيام قلائل حتى حلت أيام ذاق فيها الأستاذ الأمرين من تضيق الإدارة التي بدأت تطالب برخص المدارس حينا فيراوغها، وتعرض عليه خطة القضاء فيرفضها، وقبول كرسي مسجد (الكتبيين)، ورئاسة الجمعية الخيرية بمراكش فيقبلهما، وكان القصد من ذلك صرفه عن نشاطه العلمي والوطني، فكان يرفض أحيانا، ويسلي أخرى إبقاء على مشاريعه المطوقة بالعيون والحساد.
وقد أوعز الفرنسيون إلى “سرف” رئيس تحرير جريدة “الجنوب المغربي” الفرنسية بمراقبة مدرسة الرميلة التي يسكن بجوارها، وقد أصبحت الجريدة بوما تحمل عنوانا بارزا في صفحتها الأولى؛ يقول العنوان: «إن مدرسة محمد المختار السوسي لأخطر على الوضع من ثكنة عسكرية»، مما عجل باتخاذ قرار المستعمر بنفي الأستاذ إلى بلاده (إِلْغ)، وبقيت مدرسة الرميلة تؤدي رسالتها على يد طلبة المختار الذين يتعاقبون على إدارتها وتسييرها بضع سنوات على يد سيدي عبد الرحمن، وسيدي علي ابن المعلم، وسيدي محمد بن القايد، وسيدي سالم الناجي، وأحمد كوثر، رغم مضايقة الإدارة، حتى حلت سنة 1937م، التي طفح فيها الكيل، فأغلقت المدارس كلها، لأن جل مديريها نفوا إلى تارودانت، باستثناء “مدرسة الحياة” التي كتب لها البقاء إلى اليوم.
وقد تخرج من مدرسة الرميلة عدد لا يستهان به من العلماء والأدباء والشعراء، ولمدرسة الرميلة بعث جديد على يد مؤسسها الأول بعد رجوعه من المنفى، حيث استأنف فيه نشاطه الاستعجالي مع طلبة جدد، آثروا كلية ابن يوسف، وتخرج منها عدد كبير من العلماء والأدباء، سدوا فراغا عظيما في سوس وغيرها.
وإني لأرجو منهم _ وكثير منهم يسمعون _ وفاء للشيخ، ولهذه المدرسة التي لآ أعرف عنها في هذه المرحلة إلا القليل، أن يكتبوا عنها، وعن نشاطها الاستعجالي، وبرامجها، ومناهجها، وأن يترجموا لخريجيها الكثيرين، وما ذلك على همهتم القعساء بعزيز، فرحم الله شيخنا برحمة واسعة، وجزاه عن أعماله العظيمة أحسن الجزاء، وأسكنه فسيح جنانه مع الشهداء والصالحين؛ آمين.
إخواني؛ وعدتكم أن أعطيكم صورة واضحة عن سوق عكاظ التي كان يقيمها الأستاذ عشية كل أربعاء، تعقد حلقة كبيرة يتوسطها الأستاذ، ويقوم التلاميذ كل واحد بفخر بما عنده من نجابة ونبوغ، وبما تشتمل عليه أسرته من المزايا والفضائل والأخلاق، كل ذلك من نظم الأستاذ، ثم يتلوه الآخر، فيزيف فخر السابق، وينسب له فخرا أعظم وأكبر، وفي الأخير يقوم تلميذ يزيف مفاخر الكل، وينسب لنفسه كل ما قيل وعدّ من المحامد والمفاخر، والأستاذ بينهم يتملى بما يسمع منهم، ويناقشهم الألفاظ والمعاني والإعراب كعادته في كل جلسة، حتى أثناء الطعام تثار الأفكار والمواضيع، فلا يقوم الجميع إلا وقد أفادوا واستفادوا.
وقد خضر هذه السوق كثير من علماء المغرب وأدبائه، وصفقوا لها، وهنأوا الأستاذ عليها، وتمنوا أن تنهج المدارس كلها هذا النهج من الأدب والمعرفة، ومن جملة من حضروا وأعجبوا بها: الأستاذ ابن اليماني الناصري الشاعر الكبير، وقد أهدى السوق نشيده: «روحنا القرآن روح» غذاة نظمه، والأستاذ مولاي عبد الرحمن بن زيدون مؤرخ المملكة إذ ذاك، والأستاذ التطواني، وغيرهم.
أيها الإخوان؛ هذا قليل مما قاله الأستاذ في طلبته وتلاميذه، وقد اقتصرت على بعض ما قاله في التلاميذ الصغار، وهناك مطولات قبلت في الطلبة الكبار، كقصائد العتاب والاستنهاض التي قيلت في أحمد شوقي، وعلي بلمعلم، وسالم الناجي، وكقصائد التقريظ والمساجلات، والإخوانيات، التي كانت بينه وبين الشاعر سيدي الحسن التناني، وسيدي الحسن البونعماني، وغيرهم، ومما اختص به كوصف حدائق (أبزو) ومصطاف (إمراز) في فاس، ومما يشارك به في إحياء ذكرى المتنبي بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة نبي الشعر، وما قاله في رثاء شهيد سلا الشاب حصار.
لقد فقد شيخنا رحمه الله كل هذه الجلسات الأدبية، والحلقات الدراسية التي كان يجول فيها ويصول، حيث زج به منفيا إلى مسقط رأسه “إِلْغ” التي لم يرتح لأهلها، ولم يذق فيها طعم الهناءة والطمأنينة مدة إقامته فيها، بل ظل يندب أيامه بمراكش، ويحن إلى أهلها حنين المعتمد بن عباد إلى قصور إشبيلية، بل قال في مراكش وأهلها وأيامها وأعيادها وأجوائها، وطلبته وتلاميذه ما لم يقله المعتمد لما نفي إلى (جبل درن)، وشوقي في منفاه في الرائدة، الأمر الذي أنكره عليه أهله وعشيرته، ويظهر ذلك في قصيدته: «يقولون وأقول»، أوردت بعض أبياتها للاستشهاد على الحب الجنوني الذي كان يضمره لمراكش ولأبناء مراكش:
يقولون: صبرا إنه بك أجدر
فقلت: نعم، لكنني كيف أصبر؟
وقالوا: تكلف ما استعطت فربما
فقلت لهم: لقد حاولته ثم أقهر
وقالوا: تجلد في الندى، فقلت: قد
أباغت حينا بالدموع تفجر
وقالوا: تباعد ما استعطت، فقلت: نعم
تباعدت لكني على الرغم أحضر
وقالوا: أتبكي كل من تركتهم؟
فقلت: ليعش فيهم ليس بكفر
وقالوا: ألم تقدر تناسي ذكرهم
إلى أن يعودوا؟، قلت: لا لست أقدر
وقالوا: أهم أيضا وفوا؟، قلت: إنني
على كل حال إنني لست أغدر
وقالوا: قد استعبدت بالشوق؟، قلت: هل
يفي في النوى إلا فتى متخير
وقالوا: ألست الحر؟، قلت لهم: بلى
ولكنني من ودهم لا أحرر
وقالوا: من أعلى الناس عندك سؤددا
ومن هو أزكى مخبرا حين يخبر؟
فقلت: بنو الحمراء شيخنا ويافعا
وليس كراء من بذلك يخبر
وقالوا: سبى المراكشيون عقله
فقلت: أنا مختارهم ما أخير
ويقول من قصيدة استقبل بها العيد الأول في إلغ:
لا فطر يبهج لا ولا ميلاد
بان الصحاب فبانت الأعياد
عودت أعيادنا يجئن ضواحكا
فبأي وجه جئت يا ميلاد
قد كنت في الحمراء لي عرسا وفي
إلغ تعود وأنت لي إحداد
إذ نحن في مراكش زهر الربا
طلته تخت يد النسيم عهاد
نغدو ونمسي في السرور كأنما
يطوي بنا آفاقه منطاد
أنستني الحمراء إلغَ وآنست
حتى ليحسب أن بها الميلاد
وأشاد لي أبناؤها من بينهم
ما ليس بين الأقربين يشاد
هم لا بنو أمي أشقائي وهل
لي غيرهم بين الورى أعضاد
ولدتهم الحمراء لي فأنا بهم
لا بالأولى ولدتهم الأجداد
هم إخواني وصحابتي وأقاربي
وعشيرتهم والأهل والأولاد
تاالله لا أرضى سواهم ما بدت
شمس الضحى وتوالت الآماد
وسرت دمائي في شراييني وإن
كره العدو وغيظت الحساد
وقال في استقبال العيد الثاني في إلغ:
عيد ولكن أين ما اعتاد
عندي إذا ما حلت الأعياد؟
عيد ولكن أين ما اعتاد
عندي إذا ما حلت الأعياد؟
أين الرميلة؟ أين بهجتها؟ وأيـ
ـن بنو الرميلة من هم الأكباد؟
إيه بني الحمراء يا من ودهم
لحياتي الأطناب والأوتاد
من مثلكم من مثلكم أهل الوفا
إن عدت الأمثال والأنداد
على هذا النحو كانت قصائده في (إلغ) وفاء لمراكش وأهلها، وحبا وإخلاصا لشبابها وشيبها، وحنانا واشتياقا لشمسها وجوها وعطرها.
ونختم ذلك بقوله:
بني الحمراء قد أوسعوا يدي
فلا كان من ينسى الجميل وإن هوت
أيادي لو أنكرتها أختشي الكفرا
به محن زوجته من عسفها جحرا
وبعد؛ فهذه نبذة من حياة هذه الشخصية الفذة في مراكش قبل النفي الأول، قدمتها لأبناء مراكش الذين خصهم الأستاذ الراحل بالحب العظيم، ومنحهم علمه وأدبه، وقلبه وحياته، فهل هم وافون له كذلك؟.