بقلم الدكتور مولاي علي الخاميري
ملاحظة أولية : قامت هذه القراءة لكتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) في طبعته الأولى لسنة ( 1443 هج / 2022م ) الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط على تتبع أفكار الكتاب المتنوعة ، ومحاورة مضامينه الأساسية بأسلوب يقوم على الفهم والتعقب والتعقيب المشارك في فهم المعاني وتوسيعها بحسب ما يسمح به سياق الأفكار المطروحة ، واعتَمَدَت في ذلك على قواعد وآليات تساعد على الاستيعاب الصحيح ، وإبداء الرأي المناسب والتوجيه المساهم في عملية الرصد وحصول المتعة المعرفية ، وستُقَدِّم محصولَها في حلقات .
الحلقة الأولى :
قبل أن ندخل إلى صلب الإشكالات الممكنة التي يطرحها كتاب الأستاذ الدكتور محمد التهامي الحراق : ( الأنوار لا تتزاحم ) يجب أن نُقر بأن الرجل كان على دراية كبيرة بالموضوع ، وحاول أن يضع له إطارا فكريا محكما ومبنيا على أسس معرفية محدودة ومتداخلة بالرغم من أن مجالات التطبيق والنمذجة غلب على تفاصيلها المَدُّ العرفاني المستقى من مفهوم الأنوار في البعدين الإسلامي والغربي ، وهو ما جعل رحابة الموضوع الشاسع تضيق وتنحسر في الإطار المُعتمَد ، وكنت أتمنى أن يتم الاهتمام بإقامة مقارنات أخرى من خارج إطار الأنوار يستدعيها السياق العام للموضوع ، وتعمل على تقريب ميادين الفكر التي تبدو لنا متباعدة ومتناقضة ، وتعين القارئ على الإدراك المتنوع والمفيد ، ولعل العلة هي رؤية المؤلف وانتماءاته ، وتصوراته الذاتية والفكرية ، بالإضافة إلى أن موضوع الكتاب متناسل ومتجدد دوما ويعبر عن مأزق الإنسان الوجودي المستمر في تحديد معالم العلاقة الإيجابية والسلبية مع نفسه ومع ربه سبحانه وتعالى .
وارتباطا بما مضى أريد ونحن لا زلنا في البداية أن أنبه القارئ إلى بعض المسلمات الفكرية الخاصة والمتحكمة في نسيج الكتاب ، وأجملها في النقط التالية :
1 – إن ما جاء في كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) هو عبارة عن معضلة وجودية كبرى ، صَاحَبت الإنسان منذ وجوده بتعقيداتها المختلفة ، وفُحِصت من لدن كل المفكرين والمنجزات البحثية التي اهتمت بها انطلاقا من بداية مشوار تفكير الإنسان المفتون بذاته ، والساعي إلى الاستقلال عن السماء ، وستبقى كذلك ما دام الإنسان يفكر ، ويتعاطى الأفعال الذهنية وخاصة ما يتعلق منها بالبحث في التعارض ، القائم بين فعل الله وفعل الإنسان وعلى كل المستويات .
في نظري كان مفهوم التكريم الذي منحه الله للإنسان سببا من أسباب انبثاق هذه المعضلة ، لأنه يقوم على السماح للآدمي بإبراز رغبة دفينة فيه أَلاَ وهي مشاركة الخالق الواهب في تسيير الكون والتأثير على نشاطه ، فَخُيِّل للإنسان أنه أضحى بلا رب ، وأن الكون ملك خالص له .
وكنت كلما تجاذبت مع بعض الزملاء من أهل الفكر والتفلسف ، وفي إطار المفاضلة بين التخصصات الثقافية كنت أقول لهم على سبيل المداعبة إنني أحمد الله على تخصصي لأنه يهتم بالإنسان في تفكيره وإبداعه الممكن في إطار العلاقات الجامعة بين أبناء آدم ، أما أنتم فتحلقون بعيدا ، ومشاكلكم أبدية ، ولا تأتون فيها بنتيجة نهائية وحاسمة كما نفعل نحن في مختلف مجالات إبداعنا فيضحكون ويُسَلِّمون للحظات قليلة ثم يعودون لما كانوا عليه من التعارض والتناقض .
2 – يظهر أن ما كتبه الأستاذ محمد التهامي الحراق في كتابه : ( الأنوار لا تتزاحم ) هو عبارة عن جزء من مشروع فكري ناهض ومعطاء ، يخوض فيه الرجل منذ مدة ليست بالقصيرة ، ولم يصل بعد إلى نهاية حاسمة تشفي الغليل ، وترضي التطلعات ، وتزيل اللبس من أصله ، إنما هو يمثل تجربة فكرية تقوم على أسس معرفية ، ترتضي لنفسها مسارا عرفانيا للخوض في معضلة الإنسان الوجودية ، والموقف على النحو المذكور يستوجب الإلمام بجميع كتب المؤلِّف ذات الصلة ، وأحبذ أن يكون ذلك بطريقة متسلسلة حسب زمن التأليف ، يقول في الصفحة : 64 / 65 : ( ومعلوم أن هذه الثنائيات / الإميات ليست سوى تفريعات جزئية عن ثنائية الإيمان والعقل ، أو الدين والحداثة والتي شغلتنا منذ كتاب : ” إني ذاهب إلى ربي ” وإذا كان هذا الأخير قد وضع أسس الأفق الذي نطلبه ومَحْورَها حول ثلاثية ” العقلية ” و ” الروحية ” و ” الجمال ” وكان كتاب : ” مباسطات في الفكر والذكر ” قد أسهم في بيان هذه الأسس نظرا وتطبيقا ، ثم جاء كتاب ” في الجمالية العرفانية ليتخذ من الجمال العرفاني مدخلا لإنسية روحانية في الإسلام تستوعب تلك الثلاثية فإننا في هذا الكتاب نروم التركيز على أهمية الحوار النقدي بين أنوار الإسلام وأنوار الحداثة ودوره في تشكيل أفق مفتوح لتحرير الإنسان بالدين لا من الدين ، ذاك الحوار الذي نستعير له من الميراث العرفاني عنوان ” الأنوار لا تتزاحم ” ) .
ومضمون هذا النص يحيلنا على ملاحظتين أساسيتين ومتكاملتين : الملاحظة الأولى أنه يطلعنا وبتركيز كبير على المضمون المرتقب لكتاب ” الأنوار لا تتزاحم ” وعلى مضمون المشروع الفكري العرفاني والجمالي للأستاذ الحراق بصفة عامة ، الملاحظة الثانية أن كتاب ” الأنوار لا تتزاحم ” بالإضافة إلى النص المثبت ضم إشارات أخرى تجمع ما بين مادة الكتاب العرفانية الأصلية ، وما بين مضامين المشروع الفكري الجمالي العام وذلك من خلال الحيز الواسع الذي خصصه لحواراته المفتوحة مع الأستاذة سناء بن سلطن انطلاقا من الصفحة : 207 .
وعليه يمكن القول ونحن لا زلنا في البداية أننا نطالع وجهة نظر لمسار فكري ومعرفي ، حدد له الأستاذ الحراق مجالاتِه الفكرية ، وحدودَه المعرفية بدقة متناهية ولكنها ضيقة باعتبار المأمول المنتظر ، وباعتبار مجريات كثرة زوايا الرؤى داخل التراث الفكري الإسلامي ، وتحول معه وكأنه بناء متفرد يريد الاستقلال عن كل الأبنية المجاورة والمتجاورة ، وإن كانت تلتقي معه في محتويات المعالجة الفكرية ، ولهذا كنت أتمنى أن يكون أفق الكتاب واسعا بتوسع المواد الفكرية وآلياتها وقواعدها ، وأن يحتوي على مقارنات ومقاربات من خارج المجال العرفاني والجمالي لتتوسع دائرة قرائه بدرجة أكبر ، وليثمر جهده الملاحظ على مستوى التتبع والتعقل ، ولتكون الخلاصات المقتنصة شبه تامة وكاملة بمعارفها وامتداداتها المترامية .
3 – كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) على مستوى المنهج فيه شيء من القصد والتوجيه المبدئي للأفكار المطروحة في ثناياه وحتى بمقياس الرافد المعرفي الذي يسبح الكتاب في بحره ، وليس في الأمر عيب وإنما هي جاذبية الذات والفكر في البلورة والإدراك والتصور ، وهي لمسة ترتضي إظهار وجهة نظر معينة بذيولها المعرفية المختلفة ، ووضعٍ يتناسب مع طبيعة الأفكار المعالجة في الكتاب ، فمنذ القديم كنا نجد لكل مفكر مشروعه الذاتي في المعمار الفكري الإنساني بصفة عامة.
كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم ) وهو يخوض في معضلة الوجود الأولى نجح في تقديم أفق ، أو آفاق نظرية متسقة الأركان ، تجمع ما بين محاسن التفكير الإنساني التي تتأسس على العقل في نسقيها الكبيرين : نسق الدين ، ونسق الفكر أو العقل ، وهذا وجه آخر من تشبث الإنسان بحقه في التفكير الحر ولكن بوسائل وغايات تلتقي في النهاية عند هدف خدمة الإنسان ، وبيان دوره الوظيفي بإشباع رغبته التأملية حول حقائق السماء والأرض ، وكان الوضع سيكون نافعا وجميلا لو صارت العملية وفق الحدود المعرفية الممكنة للطرفين ، وتم التلاقي والإجماع على صناعة هُوِية فكرية متكاملة ومتعاضدة ، والتسليم في الأخير بالخلاصات الإيجابية التي تهب الحلول الممكنة للمعرفة المذكورة ، غير أن طبيعة الإنسان في المخالفة وتَمَلُّكِ عملية التحليل بنزعة فردية متعالية جعلت الموضوع لا يستقر على ختام محمود ومأمول ، فتفرعت المعضلة إلى شِقٍّ نظري يُغري بالمصداقية ، ويعد بالإنجاز والاجتهاد في الحصول على الأجوبة المطلوبة ، وإلى شِقٍّ عملي بوجهين مختلفين : وجهٍ يعزز الاستمرارية المتنابذة بين أنوار الدين ، وأنوار العقل على طول تاريخ الإنسان ، ووجهٍ يقول باستحالة الحصول على ما لم يتحقق في أي وقت سابق ، أن يقع فيه خَرْقٌ كبير يتناقض مع طبيعة الإنسان وتركيباته المعرفية المتشظية دوما ما بين الإيجاب والسلب .
ما قمنا به لحد الآن يعتبر مشاكسة أولية مع كتاب : ( الأنوار لا تتزاحم )ومحاولة الاقتراب من مضامينه الحارقة بِتَأَنٍّ وانفتاح يسعى للاستفادة من كل المحتويات والإشارات الدالة على الموضوع المُعالَج بكلياته وأوصافه ومضامينه المحسوبة عليه في مختلف الأنسقة والمسارات التي تحاور معها الكتاب ، وأرى إذا أردتُ تحقيق ذلك أن أقسم قراءتي للكتاب إلى معالم تبتغي الانطلاقة مما أسميته بالإفادات الإيجابية والمُغرِية بالموضوع في أصله وفي تمدداته الفكرية المتنوعة ، ثم الانتقال إلى سرد أنواع المشاكل والعراقيل كما بينها الكتاب لنظفر بعد ذلك بالحلول أو الإجابات الممكنة للمعضلات المدروسة .
ملاحظة أخرى ينبغي الانتباه إليها وهي أنني عبرت بلفظ الجمع عن معالم القراءة الثلاث : ( إفادات – مشاكل – حلول وإجابات ) لمسايرة تلك التمثلات التي أعطيت لمصطلح ( الأنوار ) ولكي أتمكن من الإشارة إلى ذلك التشتت الملاحظ في كل جانب من الجوانب المذكورة ، والقصد الأكبر هو أن نجد لتلك الإعادات المنهجية المتكررة على مستوى الأفكار المطروحة مخرجا مقبولا للمحافظة على استقلال المتشابه منها ، والوصول إلى الجِدَّةِ الكامنة في الطرح والمعالجة .
( يتبع )