المطبخ في حضارة الإنسان مرآة للوضع الاقتصادي؛ فكلما مالت الحياة إلى البدائية والبساطة أثّر ذلك في مطاعم الناس، وكلما مالت الحياة إلى التعقيد تلوّنت موائدهم. ولقد كان طعام العرب في البادية مشابهًا لحياتهم البريّة جافًّا وقاسيًا، قليل التزويقوالمعالجة خاليا من التعقيد، فقائمة طعام العربي في باديته ليست إلا إحصاء لما يحيط به من النباتات والحيوان.
مائدة فقيرة
عاشت أغلبية العرب في بيئة صحراوية مجدبة؛ ولذلك فإن غاية ما عرفوه من صنعة الطعام “الثريدُ” وهو خبز يُفتّ ويبلّ بالمرق ويوضع فوقه اللحم؛ و“المَضيرة” وهي طبخ اللحم باللبن الماضر أي الحامض؛ والهريسة، والعصيدة؛ والشواء الذي منه ما يُشوى على الحطبوالفحم، وما يُشوى على الحَجَر المُحْمَى بالنار، وهذا الأخير يسمونه “المرضوف“. وكذا “الحريرة” وهي حساء من الدسم والدقيق، وقدتطورت الحريرة مع التحضّر حتى أصبحت بصورتها الحالية التي يتفنن فيها المغاربة ويقدمونها على موائد إفطارهم الرمضانية.
ولم يكن العرب يعدلون باللحم شيئًا إذا توفروا عليه، ويرون أن تناوله مع غيره تطويلٌ لا موجب له؛ فقد جاء في ‘محاضرات الأدباء‘ للراغب الأصفهاني (ت 502هـ) أنه “قُدّم إلى أعرابي خبز عليه لحم، فأكل اللحم وترك الخبز وقال: خذوا الطبق“! ويروي ابن قتيبةالدِّينَوري (ت 276هـ) –في ‘عيون الأخبار‘- أنه “قيل لأعرابي: ما لكم تأكلون اللحم وتدعون الثريد؟ فقال: لأن اللحم ظاعن (= راحل) والثريد باقٍ“!! وكان أطيب اللحم لديهم ما اختلط بعظم، حتى قال قائلهم إن “أطيب اللحم عُوّذُه، أي أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذبه“؛ كما يقول الدينوري.
ثم اعلم أن ما قدمنا ذكره من الأطعمة ليس من القائمة المعتادة وإنما هو طعام الموسرين من الحضر ومَن أخصبَ من أهل البادية، فإذا أجدبوا فإنهم يأكلون كلّ ما دبَّ ودَرَج؛ ففي ‘عيون الأخبار‘ أيضا أن مدنيا سأل أعرابيًا: “ما تأكلون وما تدَعُون؟ قال الأعرابي: نأكل ما دبّ ودَرَج، إلا أم حُبَيْن (= الحِرْباء)”! يقال إن الجوع أطيب التوابل؛ ولذلك ففي حالة الجدب يأكل العربي ما تيسر له، حيثيكون تناول الطعام سبيلًا للنجاة لا مادة للتفكّه.
ولتكرر مواسم الجدب؛ اكتسب العربي عاداتٍ غذائية فريدة، أولاها المبادرة في اللقم؛ فالدينوري يروي أنه سُئل أعرابي: “ما تُسمُّونالمرق؟ قال السخين، قيل له فإذا برد، قال لا نتركه يبرد“! كما أنهم كانوا يستقبحون أطعمة أنَفَةً منهم، ومن ذلك مخّ الخروف؛ فقد “قيللأعرابيّ أتُحسِن أن تأكل الرأس؟ فقال: نعم، أبخص (= أقتلع) عينيه، وأسحي (= أقشّر) خديْه، وأفكّ لحييْه (= فكّيْه)، وأرميبالدماغ إلى من هو أحوج مني إليه“!
فإن أدركتكَ شفقةً عليهم –عزيزي القارئ– فأبشّرك بأنهم لم يكونوا يشعرون بتعاستهم، لأنهم لم يعرفوا غيرها، وإنما تجري التعاسةمع المقارنة ووجود البديل. وقد سُئل أحد بني أسد عن معيشتهم في البادية، فأجاب سائله جواب الراضي: “طعامنا أطيب طعاموأهنؤه وأمْرَؤه (= أطيبه)، الغثّ (= نوع من الخبز)، والهَبِيد (= حب الحنظل)، والفَطْس (= حبّ الآس)، والعَنْكَثُ (= نبات)…، والعِلْهِز(= دم الجمل ووبره المشوي)، والعراجين (= نوع من الكمأة)، والضِّباب (= جمع ضبّ)، واليرابيع والقنافذ والحيات؛ فما أرى أن أحدًاأحسن منا عيشًا وأرضى بالًا“!!
وقد وجد الشعوبيون من الفرس في هذا مطعنًا على العرب، حتى قال كاتبهم الوزير الساماني أحمد بن محمد الجيهاني (ت 375هـ) إن العرب “يأكلون اليرابيع والضِّباب والجرذان والحيات..، وكأنهم قد سُلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أُهُبَ (= جلود) الخنازير،ولهذا كان كسرى يسمّي مَلِكَ العرب ‘سَكَان شاه‘، أي ملك الكلاب. وهذا لشبههم بالكلاب وجرائها والذئاب وأطلائها (= أولادها)”.