بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على أشرف على المرسلين.
السيدات الفضليات.
السادة الافاضل.
الحضور الكرام.
التمس العذر والسماح منكم جميعاً. اذا لم تسعفني الكلمات في هذه اللحظة المؤثرة. فمهما تكلمت لن أٌوفي حق الشقيق من غير رحم الأستاذ سيدي محمد اليوسفي، وكم تبدو كلمات الشكر والتقدير، وما جرى مجراهما صغيرة وسطحية وفاقدة المعنى، أمام سيرة هذا الرجل الاستثنائي الذي لم نفقد منه الا شخصه. فحسبنا الله رجوعا اليه وانا لله توكلا عليه وعند الله نحتسبه من اهل الجنة.
ليس هينا استحضار ارواح الرموز الكبيرة .التي يرجع الفكر صداها كل حين . لأنها تستعصي على الاختزال والتواري السريع. ذلك ان استحضارها يعرض امانة المراجعة . مراجعة ذلك الوشم المميز الذي طبع به هذا الرمز لحظته. وتلك لعمري امانة يأبى حملها كل من يقدر الحرائق التي عانى منها وتحداها .من موقع الجندي المكابر صاحب الصمود الشامخ . بغية ان يكون ورجاء ان يبقى. ولست اجامل السيدات والسادة الكرام اذا قلت ان الأستاذ اليوسفي هو واحد من تلك الرموز المتفردة التي ظلت تشتغل في الظل بعيدا عن الاضواء. واعطت للفكر المغربي – في خشوع الزاهد ووله المتصوف- ما تحفظه ذاكرة الثقافة المغربية الحديثة بإكبار واجلال.
يعد اليوسفي في صدارة نخبة جلة الباحثين. الذين اثروا حقول المعرفة الخاصة بالدراسات الإسلامية. وخاصة علوم القران. التي ساهم في تأصيل وتجديد وإعادة بناء درسها في الجامعة المغربية .وما فتا يرعا هذا الدرس بالصقل والتهذيب والممارسة والتجريب .حتى بلغ به مرحلة متقدمة من النضج والاكتمال. طلعة بحاثة. متين العلم. قوي الادراك .من اهل المعرفة بأدب الغرب الإسلامي .قائما على تراث ابي القاسم السهيلي. شديد العناية به. بصيرا بخباياه. صاحب خبرة فيه وإنتاج. دائم التعقب الذكي لفهم غوامضه. والتنقير فيه عما يحل صعاب مسائله. ويفك غوامض قضاياه. ويجادل فيه بما لا يتنافى مع اخلاق التوقير واحترام الاختلاف.
ليس في اعمال اليوسفى نفي او اقصاء لجهود غيره .فقناعته بالاعتراف بالفضل لذويه . وبمبدأ التراكم راسخة. وحرصه الدائم على العمل .داخل اطار من الحصانة المنهجية. والنقد الذاتي وعلى الانفتاح ثابت. جعل مقارباته مستوفية لأكثر ما يمكن. من شروط الجودة والاتقان. فمناولاته النقدية ومراجعاته العلمية مبنية على قواعد التأصيل والتقعيد والاقناع. أعطت قيمة مضافة توسع المعرفة وتحسن الخبرة وتغني الاجتهاد وتحقق الفهم.
اليوسفي من الفقهاء الادباء لغته راقية واسلوبه عالي من نمط الاتقان والاجادة. يصدق عليه قول ابي الحسن الرعيني يمدح أبا المطرف بن عميرة
ياسابق البلغاء غير مزاحم لك دون غيرك ينبغي التسليم.
مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَنِّهِ : قَادِرٌ عَلَيْهِ، ضَابِطٌ لَهُ تشبع علوم القران والتفسير والحديث الأدب والنقد واللغة والفقه والتاريخ. وارتشف من حياض تراث السهيلي. حتى سلب وجدانه وأصبح جزءا منه. وعشقا يتغذى باسره. وبفضل من الله اوتي في ذلك الحكمة وفصل الخطاب.
اليوسفي من أهل العناية التامة بالعلم. جمع بين رؤية العالم الرزين. ونظر الفقيه المجتهد. وحكمة الاستاذ الباحث المتمرس. عني بعلوم القران. متمكنا من أسبابها عاكفا على استفادتها وافادتها. مساهما في تدقيق وفهم اشكالاتها وقضاياها وجزئياتها. ظهر في ذلك كله إدراكه وحسن نظره. ومهارته في تعرُّف بواطن الأمور من ظواهرها. معانا بنباهة العلم واستنارة البصيرة.
هو اشهر من ان يعرف. محاسنه كثيرة اثيرة .فهو من اهل الهمم العالية و واحد من تلك الرموز المتفردة من أبناء درب عليليش مجال سكني مثقل بماض مخزني عريق .بدا مع السعديين واستمر مع العلويين فأسرة عليلش اسرة خدمت الدولة المغربية خلال الفترة المشار اليها .ولعل هذا الدرب هو الذي كان به مقر سكناها وبه أيضا كانت دار سكنى المهدي المنبهي الصدر الأعظم في عهد حكم .السلطان مولاي عبد العزيز. وفيه تمت مبايعة الباشا التهامي الكلاوى على باشوية مراكش. من رجالات حومة قاعة بناهيض جلالا وكمالا مولدا ومنشآ واستيطانا. الحومة التي احتضنت احد فروع الزاوية الناصرية بمراكش .واعطت للعلم والتعليم. ما تحفظه ذاكرة اهل الحضرة بإكبار واجلال. من اديب الاندلس الفتح بن خاقان الذي وصفه ابن عبد الملك بالكاتب البارع الفصيح البليغ. الى ابن البناء العددي العلامة المضيئة في تاريخ الرياضيات. الى الشيخ عباس بن بوستة احد فحول شعراء الملحون ومبدع القصيدة الحجازية الربانية الشهيرة بالسفرية. وهي قصيدة في الشوق والحنين الى بيت الله الحرام والمقام النبوي والروضة الشريفة، الى العلامة الطلعة علي بلمعلم التاورثي من كبار اهل المعرفة بالكتاب المخطوط منه والمطبوع وكان قد جاور عائلة اليوسفي بدار قرب دار مولد وسكنى استاذنا. الى العلامة محمد بالحسن الدباغ الفقيه المتفتح على ثقافة الاخر .الى مولاي عبد السلام الجبلي احد الوجوه المشرقة في ملحمة النضال من اجل الحرية والاستقلال.
وليس بغريب ان تعطي هذه الحاضرة المباركة المحروسة. هذا المراكشي واضرابه. فهي موطن النجوم الطوالع. ومنار مقامات السادات السبعة. اوت القاضي عياض. واحتضنت ابن رشد الجد والحفيد. وعانقت ابا القاسم السهيلي. واستهوت اهل الضفة الاخرى من غير المسلمين. فخطبوا ودها .وقبلتهم مكرمين في سماحة وانفتاح. فحط الرحال بها Eugène Delacroix مشدودا بسحر الشرق. فبهت بسحر بهجتها وطيب الفتها. واستقبلت Gaston Deverdunمدرسا ومؤطرا. فجن بتاريخها وتراثها باحثا. ونزلها تشرشيل سياسيا فطاب مقامه بها فنانا مدنفا .واحتضنتJacques Majorelle عاشقا ومبدعا.
اليوسفي مشرب بإشراقات القوم من اهل الخصوص وارباب الأحوال وأصحاب المقامات. مستقيم الطريقة .من اهل الورع والصون .وافر النصيب من القيم التي شكلت خصوصيات مميزة لرجالات مراكش السبعة. متشبعا بصبر ابي يعقوب يوسف بن علي المبتلى. مستحضرا لروح شفا القاضي عياض في محبة الرسول عليه السلام. حريصا على اعمال احسان ابي العباس السبتى. مستلهما نضال ومقاومة صاحب الدليل محمد بن سليمان الجزولي. نفاعا خدوما للناس. فعل العارف بالله عبد العزيز التباع. ساعيا سعي الشيخ الغزواني في تربية الناس على العمل والاجتهاد. قوي اليقين بالفرج وبزوغ الامل الذي بشرت به عينية الامام السهيلي المعروفة بقصيدة الفرج
يا من يرى ما في الضمير ويسمع… انت المعد لكل ما يتوقع
وبائيته الابتهالية
صرفت الى رب الانام مطالبي…. ووجهت وجهي نحوه وماربي
. لا يخلو اليوسفي من روح الخفة والمرح. والدعابة والانبساط. للفكاهة والنكتة والأحاديث الطريفة وبراعة الحديث. مشكور الصحبة. مفطور المحبة. ميال الى التماس العذر واحسان الظن. شديد الحرص على احياء المودة والقيام بفروض المجاملات. جريا على سنن السلف الصالح. طيب العشرة طاهر المودة .ميالا الى المهادنة. محبا لا طايب الحياة ومباهجها. وافر النصيب من بليغ المأثور الشعبي. سريع البديهة والارتجال. ممتع المجالسة. مليح التنذير. لا يخل حضوره من مستحسن احماض الفقهاء. عاشقا لموسيقى الشرق والطرب الأصيل. الغني بالكلمة الحلوة واللحن الجميل والصوت الطروب. وعندما تهزه نشوة الطرب. يصبح كطائر الشحرور وهو يغرد.
وختاما ونحن نستحضر روحك الطاهرة. عليك منا جميعا السلام يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا. والحمد لله رب العالمين