بقلم ذ. محمد الطوگي / كلية الآداب . مراكش
أجدني في هذا المقام العلمي التكريمي، تكريم الصديق الودود عبد العزيز لحويدق، ويحضرني من خلاله بدور من جيله وهم جزء من ذاكرتي المحيلة على ذلك الزمان الجميل، قلت أجدني مجبرا على القول متذرعا بالحكي والكنتية ، كنت كان يا ما كان، وهو أسلوب مناسب لمثلي ممن وهن منهم العظم، واشتعل رأسهم شيبا، وغادروا كراسي التدريس بعد أن نادى فيهم منادي المعاش الإداري ، أن اقعدوا بسلام آمنين .
ولتكن بداية الحكي من هذا المقطع من سيرتي زمان كنت طالبا في كلة الآداب بفاس في منتصف ستينات القرن الماضي، كان الأستاذ، المرحوم بعفو الله، أمجد الطرابلسي، إذا ختم تحليله لنص من النصوص النقدية، بطريقته الفيلولوجية المبصومة بخصوصية وأناقة تناوله ولطف تاويله، يتوجه إلينا متسائلا :
– فهمتم ؟
فيملأ ذوي أصواتنا القاعة.
– أن نعم يا أستاذ.
فيعقب رحمه الله :
– ولم لا أرى سرور الفهم في أعينكم ؟.
طريقة علمية وتربوية، استهوتني، وأخذت بوجهها التربوي عندما قدر الله وقضى أن أكون أستاذا في التعليم الثانوي، وظل جانبها العلمي مطمحي وأملي في التعليم العالي، ولكن هيهات، لا قياس كما يقال مع وجود فارق بل فوارق.
كان الهوى العلمي لجيل عبد العزيز لحويدق، الذي شرفت بتدريسه لمادتي البلاغة والأصول في كلية الآداب بمراكش، محمولا مع البنيوية والتيارات الفلسفية العربية، المهمومة بالبحث عن العوائق الابستمولوجية التي تحول دون عودة الأمة العربية إلى التاريخ، كانوا عاكفين تاريخيا وفلسفيا على أعمال عبد الله العروي، وعابد الحبابري، وطه عبد الرحمن، من المغاربة، والطيب تيزيني، ومروة، وحسن حنفي، وأدونيس من المشارقة.
وكنت كلما فرغت من تقرير قضية بلاغية أو شرعية انظر إلى الأعين، فأستشف فيها نوعا من المكر العلمي المستحب، وكأني بها تقول:
هذا ما انتهى إليه القدامى، وتلك أجوبتهم على أسئلة عصرهم. فما علاقتها بأسئلة عصرنا ؟ فهل عندك من إضافة ؟ أو ليس ثمة استشكال ؟
كانت ليلة تحضيري للدرس قلقة بالجواب عن سؤال ما هي إضافتك ؟ ما هي بصمتك؟ وما العلاقة بين الماضي والحاضر ؟.
نعم لقد كان منتهى همي وأنا أعد درسي في التعليم الثانوي، أن أفهم الدرس وأتمثله، وأستحضر المعلومات التي تخدمه وتيسره وأبحث عن الطريقة التربوية المفضية لاستيعاب التلاميذ له، واستضمارهم لكفاياتهم العقلية والوجدانية والعملية، وهذا في حد ذاته بالنسبة للمراقبة التربوية جهد رافع للكلفة، وهي طريقة تربوية ألفتها واستصحبتها إلى التعليم العالي، ولم تكن لدي الجرأة العلمية التي كانت لأساتذتنا في التعليم العالي القائمة على الاستشكال، وإلغام القضايا العلمية بمجموعة من الأسئلة المنتجة لمعرفة جديدة.
واستجابة لتطلعات الطلبة وفضولهم العلمي كنت أمام خيارين. إما أن أكتفي بما سبق لي أن تحملته عن أساتذتي وأنافح عنه ولا أبغي به بديلا . وإما أن أعطي لحياتي العلمية معنى جديدا، وهو خيار لا بد فيه من اقتحام العقبة، فكانت المغامرة بالمسيرة على الحبلين، الأصيل والأخذ بالجديد الذي لا يتأتى إلا بالامتزاج الثقافي متأسيا برموز التراث؛ بالجاحظ وابن قتيبة وأبي حنيفة الدينوري … الخ . إن تاريخ الأفكار قائم على حركة تجاذب دائم لا يهدأ بين الماضي والحاضر، فكل قديم كما يقول ابن قتيبة جديد في عصره (فالماضي يساعد على فهم الحاضر، والحاضر يساعد على فهم الماضي، دون خلط للأزمنة ودون إسقاط زمان على زمان) (1).
وكانت الصدمة الشديدة والمنبهة بمعاناة القراءة في الفرنسية لمقالة “موت البلاغة” لرولان بارث، وضرورة الانفتاح على الأسلوبية التي حلت محل البلاغة الكلاسيكية. ومن ثم كنت أنام وأستيقظ على مجموعة من الأسئلة تلاحقني سبقني إليها من تخطى العقبة، واستلذ بمتعة البحث واستنكف من بلادة الترجيع والتكرار. ويمكن تلخيص تلك الأسئلة في ثلاثة مطالب مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسمى البحث العلمي وهي :
السؤال الأول : ماذا أضيف لطلابي من شروحات ونقاشات وانتقادات تتعلق بالقضية موضوع الدرس ؟
السؤال الثاني : ماذا أقدم لزملائي من استشكالات في إطار اللقاءات والندوات ؟
السؤال الثالث : ماذا أضيف لنفسي وقد صرفت وقتا وجهدا في الحقول التي درستها ؟ (2)
ومن النماذج التي أتيح لي الوقوف عليها تنظيرا وممارسة ، طريقة الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري الذي دأب على أن تكون دروسه مدموغة بما جدَّ في نظرية الاتجاه البنيوي الذي تبناه. أما مداخلاته في الندوات الدولية خاصة فقد اتسمت بمناقشة وإغناء أو دحض آخر ما انتهت إليه النظرية، فالعلم يتقدم بتقري أخطائه .
هذا الهم الماتع هو ما حمَّلنا إياه جيل لحويدق المتطلع.
إن ما يقوم به الأستاذ لحويدق اليوم إلى جانب كوكبة ممن أسميهم المجموعة البلاغية لكلية اللغة العربية هو عمل أكاديمي يستأهل التشجيع والتنويه، ففيه معاناة القراءة في الأعمال الغربية وتمثلها والاطلاع على تطبيقاتها في لغتها، ثم نقل وتجريب وإعمال ذلك المتاع النظري في الدرس البلاغي العربي، فهذا الجهد يعتبر تجديدا واجتهادا يدين الإخلاد إلى أرض التقليد ويُعلي من شأن الاجتهاد الذي هو في كل علم فرض.
الإحــالات :
1- وجيه كوثراني : الذاكرة والتاريخ، دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى 2000، صفحة 6-7.
2- نفسه ، الصفحة 13 ، وهو عن
Marc Bloch, Apologie pour l’histoire, Paris, colin, 1993. P.10
2