نازك الملائكة الشاعرة كتبت قصيدة الكوليرا عام 1947، ونازك الملائكة الناقدة أرّخت بهذه القصيدة لولادة الشعر الحديث.
دار نقاش طويل حول لمن الأسبقية في ولادة قصيدة التفعيلة الخارجة عن نسق عمود الشعر العربي، هل تؤرَّخ البداية بقصيدة نازك: «سكن الليل»، أم بقصيدة السيّاب: «هل كان حباً»، التي كتبها الشاعر عام 1946؟
واللافت أن المناخ الرومانسي يسيطر على القصيدتين المذكورتين، وأنهما لم تكونا سوى محاولتين لا تزالان في طور البحث، لأن ولادة الشعر الحديث كانت مساراً، بدأ بقصيدة السياب: «أنشودة المطر» (1954) التي أعطت الشعر الحديث بنيته الإيقاعية وآفاقه المعرفية، واستكمل في أعمال التموزيين وحاوي وأدونيس، وصولاً إلى التمرد في قصيدة النثر مع محمد الماغوط وأنسي الحاج.
ومع محمود درويش وصل الإيقاع والرؤيا إلى اكتمالهما الإبداعي. فشاعر فلسطين لم يكتف بتلخيص شعر زمنه، بل وضع الشعر في متن السؤال التاريخي من جهة، ورسم له أفق التقاط الأسئلة الإنسانية الكبرى، من جهة ثانية.
لكن هذا ليس المسألة التي أبحث فيها وعنها الآن.
الأوبئة في كتابات الشعراء وخيالات المبدعين
سؤالي يرتبط بعلاقة أدبنا بالأوبئة التي ضربت مجتمعاتنا في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث شهدت بلادنا الطاعون في القرن التاسع عشر والكوليرا والإيبولا في القرن العشرين.
ففي الرواية العربية نكاد لا نعثر سوى على رواية السوداني أمير تاج السر”إيبولا 76″ (صدرت عن دار الساقي في بيروت 2012)، وفيها يصف الروائي وباء إيبولا، الذي ضرب الكونغو وامتد إلى مدينة أنزارا في جنوب السودان.
الرواية تقدم صورة بانورامية لمسار الوباء الذي انتقل من عاهرة في كينشاسا إلى جسد لويس نوا العامل في معمل للنسيج في أنزارا، ومنه انتشر في المدينة، التي احتلها الموت.
بنية الرواية التي تشبه ريبورتاجاً تتبع حركة الوباء الذي يحوم حول ضحاياه، لا تسمح لها بأن تبني شخصياتها خارج أطر محددة سلفاً، بحيث يبدو الناس مجرد ضحايا.
وعلى الرغم من تعدد شخصيات الرواية، فإننا نبقى في مناخ ريبورتاجي يروي عن ساحر يدعى جمادي أحمد ومغنٍ يدعى روادي مونتي، ونتعرف إلى معاناة المرأة وحياة الفقر الشديد مع تبنا زوجة لويس نوا، التي تعيش القمع والخيانة، وتموت في اللحظة التي تقرر فيها أن تتصالح مع الحياة عبر إنجاب طفل من زوجها، فتكون نتيجة ذلك إصابتها بالوباء الذي جلبه الرجل من علاقة عابرة مع عاهرة في كينشاسا.
اللحظة التراجيدية التي تربط الوباء بالقمع الطبقي تضيع في خاتمة مليئة بالاحتمالات. شخصية صاحب معمل النسيج جيمس رياك، الذي يستغل العمال بلا رحمة، كانت تستحق مكاناً أكبر في الرواية. فبعد شفاء لويس نوا من مرضه، يصير تحت الإكراه والسلاح العامل الوحيد في مصنع فقد عماله، ويصبح أسير علاقة السيد بالعبد. لكن الرواية لا تأخذنا إلى لحظة انفجار هذه العلاقة، وتترك حلم نوا بقتل سيده مجرد احتمال.
إلى جانب هذه الرواية لا نكاد نعثر على شيء، باستثناء رواية اندريه شديد”اليوم السادس”، وشذرات متفرقة، كما في رواية ربيع جابر: “أميركا” ( دار الآداب- المركز الثقافي العربي 2009)، التي تؤرشف بعض حكايات الهجرة اللبنانية من خلال شخصية مرتا حداد، التي تهاجر من قرية بتاتر في جبل لبنان إلى أمريكا، بحثاً عن زوجها.
في رواية جابر فصل عن وباء الإنفلُوَنزا الإسبانية، حيث يصف المؤلف وقائع ذلك الوباء الذي ضرب العالم من خلال مشاهدات مرتا في مدينة فيلادلفيا، حيث حصدت الإنفلونزا الإسبانية 13 ألف ضحية، وكان عدد ضحاياها في العالم أكبر من ضحايا الحرب العالمية الأولى.
لماذا لم تلتفت الرواية العربية إلى الأوبئة والجراد ومجاعة الحرب العالمية الأولى (هناك استثناء واحد هو رواية توفيق يوسف عوّاد “الرغيف”)؟
هل غسلت النهضة والحداثة ذاكرتنا من المآسي، أم أن الثقافة العربية لا تزال تبحث عن علاقة مفقودة بينها وبين ماضٍ منسي وحاضر مغطى بما بشبه العمى الذي ضرب أبطال رواية ساراماغو؟
“الأدب لا يستطيع أن يكون مرآة للتجربة الإنسانية إن لم يكن ابن حاضره”
إذا كنا في الرواية قد عثرنا على الأقل على تحفة أندريه شديد ومحاولة أمير تاج السر، فإننا لا نجد أمامنا في الشعر الحديث والمعاصر سوى أمثولة أمير الشعر العربي أحمد شوقي “شريعة الغاب”، الموجهة للأطفال والمقتبسة عن لا فونتين، والتي تحفل بالمواقف الوعظية، وتحمّل الضعيف الذي يمثله الحمار أوزار الطاعون، لأن هذا “المرض الملعون” هو نتيجة اقتراف ذنب أغضب الله! أو على قصيدة علي الجارم “الوباء”، التي تعظ وترثي بنبرة كلاسيكية تفتقد إلى التجربة الإنسانية.
لم يبق أمامنا سوى قصيدة نازك الملائكة، “سكن الليل” أو “الكوليرا”، التي افترضت مؤلفتها أنها أعطتها مكان الريادة في الشعر الحديث.
موقع قنطرة