حين ينكسر الحليب و(يروب)
حاميد اليوسف
اللوحة الاولى
نزل حزينا وخجولا من الحافلة التي أقلته الى دكان سي عبد الله البقال . تقاذفته أيادي كثيرة قبل أن يصل الى المتاجر الصغرى في علب ومشتقات .
لا يعرف ما الذي يحدث ؟
في حظيرة الابقار كان دافئا ووديعا ، عامله الفلاح وأسرته بلطف ، كأنه من صلبهم . احترموه وعرفوا قيمته . بقرتان او ثلاث تؤمن لهم يوميا جزءا من ثمن العلف والشاي والسكر ، رغم تذمرهم من السعر الذي تتحكم في تحديده الشركات .
الشمس في كبد السماء . تساءل مع نفسه بمرارة : لماذا تأخرت اليوم شاحنة الشركة ؟
سمع فلاحا يهمس لصديق له بأنهم في الفايس والواتساب يدعون لمقاطعة الحليب خاصة النوع الذي تعلبه شركة سنطرال .
توقف سائق الشاحنة بعد تأخر دام ساعات أمام التعاونية ، ونظر إليه بغبن . تألم الحليب وخفض عينيه متحسرا . اعتقد بان الجميع يتهمه بأنه السبب فيما يحصل له .
اللوحة الثانية
عاد الى الوراء . تذكر كيف تشبهت النساء بلونه على مر العصور ! وكم من الأمهات أخذن خطيبات ابنائهن الى الحمام للتجسس على لون بشرتهن ، فوصفن بياضهن قبل الزواج بلونه !
عادت به الذاكرة الى لحظة كان يتربع فيها على عرش المتاجر في المدن الكبرى ، ولا يتجرأ ذوي الدخل المحدود على لمس قنيناته الزجاجية . حينها كانا مشروبا برجوازيا يُعد دخوله الى كل البيوت من سابع المستحيلات .
منذ سنوات والأسر ذات الدخل المرتفع تظهر في التلفزيون ، وهي تغرق في سعادة وصلاته الإشهارية . أطفال وأزواج من مختلف الأعمار يرقصون ويغنون ، وهم يتناولونه رفقة مشتقاته في الحدائق والمطابخ والصالونات ، واقتحم عليهم حتى الأماكن الاكثر حميمية مثل غرف النوم .
لا يدخل بيوت الفقراء إلا في شهر رمضان ، أو عندما يزورهم رفقة بعض مشتقاته في المستشفيات ، ويسهر قربهم ، وينظرون إليه بعطف ، ويتناولونه بتلذذ مع الدواء ، قبل أو بعد الطعام ، فيطيب لهم مذاقه ويقف بجانبهم حتى يتماثلون للشفاء .
يغريهم أيضا عندما يدخلون دكاكين البقالة رفقة ابناءهم الصغار بالمغامرة في بعض الاحيان بتهديد مصروف البيت اليومي ، فيقتنون أحد مشتقاته لأطفالهم ، تحت ضغط الإشهار والإحساس بالأبوة .
يا الهي . كيف نسوا بسرعة أنه أرضعهم ، وظل يستيقظ معهم كل صباح حتى كبروا واشتد عودهم ؟ حتى النساء مدينات له حين خفف من استنزاف الرضاعة لصحتهن .
كيف سيصوم الناس من دونه ؟ كيف يحلى لهم ان يطردوه من مائدة الافطار أو العشاء او السحور وهو الذي رافقهم منذ ولادتهم الى درجة وَصْفِ البعضِ منهم بجيل دانون ؟
شارك أغلب العرسان فرحتهم . والأفقر فيهم غرم اكثر من 50 درهما على (النكافة)* وتناول جرعة او جرعتين منه ، واقتسم تمرة مع خطيبته قبل ان يطبع قبلة على خدها بخجل ، وحب يتدفق من عينيه ، تيمنا بمستقبل يشبه لون الحليب ، ومذاق التمر .
إخوته في شركات اخرى لا يختلفون عنه في شيء . سعداء بإقبال الناس عليهم بنفس المواصفات والسعر . هو أخوهم الأكبر والأقوى ، لم يسبق له ان اعتدى على احد منهم . يترك لهم دائما مكانا يسعهم في الأمعاء والتلفزيون والمتاجر الكبرى والصغرى .
تنكروا لجميله ، و تركوه يروب.
سالت دمعة على خده ، انكسر وجدانه .
اللوحة الثالثة
اعتقلته الشركات منذ سنوات داخل صهاريج كبيرة من الاليمينيوم ، لتخفيض درجة حرارته ونقله في صحة جيدة الى المعامل بضواحي المدن الكبرى . ثم رمت به بعد ذلك إلى الآلات الضخمة لتنهشه بلا شفقة ولا رحمة . تشتق منه الزبدة والألبان وتضيف اليه عناصر اخرى تفقده هويته . تبستره أو تعقمه ، فيتحول إلى مسخ لا يحافظ إلا على القليل من مكوناته الأولية ، وأحيانا تنشفه وتحوله إلى غبار . صنّعت له علبا مغرية ومنحته اسماء مختلفة ورفعت أسعاره .
أغلب الشركات الرأسمالية يغلب عليها الجشع . قذفت به في الاسواق الداخلية والخارجية . استغلت طيبوبته وعلاقته الاسطورية بالناس . راكمت ارباحا خيالية واستمرت في الخداع . لا تصرح بأرقام معاملاتها الحقيقية . تنفخ في المصاريف . تتهرب من الضرائب ، ترفع الأسعار ، تتحكم ، تتغول ، وهو يتألم .
يخشى العمال ان تتسبب مقاطعته في طردهم ، ومصادرة قوت عيالهم . ورغم ذلك يتشفى بعضهم في قرار نفسه من جبروت الرأسمال المتوحش الذي يسرق عرق جبينهم .
صاحَبَ الوزراء والحكومات . دخل قصورهم وفيلاتهم ، ولعب مع اطفالهم . استقبلهم على موائد الفطور ، أو رفقة التمر في أواني فاخرة ، وهم يدشنون مشاريع خربت الشغل والتعليم والصحة والسكن .
يعرف بأن الحكومات جبانة ، ومتواطئة مع الرأسمال ، تشرع القوانين للسوق . تسخر وتكذب . رئيسها الأسبق أغرق البلد في الديون ، وألغى نظام المقاصة ، وحرر الأسعار بدعوى حماية الفقراء ، فزاد من فقرهم ، وتوارى إلى الخلف .
قال لنفسه وهو يكاد يجهش بالبكاء :
ـ لقد نهب الرأسمال المتوحش جيوب الناس .. أليس من حقهم أن يشكوا ويلعنوا ويغضبوا ويقاطعوا ؟
ثم أضاف بعد أن اصبح ما يجري حقيقة واحدة ماثلة امام عينيه :
ـ لقد أوقعوا بيني وبين الناس ، وتركوني وحيدا أنكسر و (أروب) .
مراكش 14 ماي 2018