بقلم ذ. محمد الطوكي/ كلية آداب مراكش
(لهذا الأديب الإنساني دين على مُثقفي مدينة الحمراء، وها هو ذا محمد بوعابد يؤدي
من شق قلمه قسطا من ذلك الدين.)
عندما تفضل الأديب والباحث الأستاذ محمد بوعابد، وأهداني، مشكورا، عمله – “من غوايات المتفرد”(2) الذي هو عبارة عن ترجمته لباقة من مقالات خوان غويتيصولو، أجده بهذه المكرمة الفكرية الغنية قد أفادني وأمتعني ؛ حيث أولجني ولوجا مباشرا في عالم بل عوالم غويتيصولو، التي لا أعرفها سوى معرفة عامة، ولك أن تقول عامية، من خلال ما يُتحدث ويُكتب عنه، لا من خلال أعماله نفسها. وشتان بين ما يُقال ويُحكى، وبين القراءة في المصدر الحامل لنفس الرجل. بيد أن المصدر المعرب الذي بين يدي وصل إلينا مترجما عن الفرنسية، فبين قارئه وبين الأصل الإسباني واسطتان لغويتان.
وإذا كانت الترجمة إلى الفرنسية مشتركة مع لغة الأصل الإسباني في اللاتينية ففي معاناة الترجمة إلى العربية رحلة من الجذور الهندوأوربية إلى السامية. ومن هذه الحيثية تحضر بداهة إلى ذهن قارئ العمل إشكالية الأمانة والخيانة المتضمنة منذ عهود ضاربة في القِدم في العبارة اللاتينية المسكوكة Traduttor, Tradittor الترجمة خيانة. ونجد لهذه العبارة رجعا في عز تاريخ الترجمة عند العرب. يقول الجاحظ جازما “إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه” (3) . ولعل هذا ما دعا أبا يعقوب يوسف الموحدي (ت 580هـ) إلى انتداب ابن رشد إلى إزالة قلق عِبارة مترجمي أرسطو.
ولقد ظلت هذه الثنائية خيانة / أمانة حاضرة صراحة أو ضمنا في صدارة كل عمل مترجم، فيتقدم بين يديه بمجموعة من القيود والاحتياطات شبيهة بدفتر تحملات تجعل القارئ مطمئنا والعمل بمنجاة من لعنة الخيانة. ولم يشذ الأستاذ بوعابد عن هذه القاعدة. يقول مبررا دواعي ترجمته ومصداقية عمله :
“ورغم ما حز ويحز في نفسي من عدم امتلاكي للسان الإسباني الذي كتبت به هذه النصوص بدءا، ومن حاجتي لأن أطلع عليها مترجمة إلى اللسان الفرنسي … فقد كان لتفاعلي معها ولإحساسي وإدراكي بأنها تحمل الكثير مما يهمني ويهم غيري من أبناء البلدة والوطن ؛ مما جعلني أشتغل عليها قراءة وإعادة قراءة، فانتِخابا وجمعا وترجمة. لقد كان لكل ذلك فعل الافتتان بقيم الجمال والخير والحق في فكري ووجداني، رغما عما قيل ويقال من أن الترجمة خيانة، ناهيك عما يقال عن ترجمة المترجم، وينسى أو يتناسى قائلو ذلك أن ما ثمة من ضير ولا ضرر في الترجمة عن الترجمة” (4).
ومن ثم أولا يحق للمهتمين أن يتساءلوا عن مكمن هذه الخيانة حتى تتنكب وتحاصر ونظفر بترجمة يكون فيها النص الهدف متماهيا أو قريبا من التماهي مع النص الأصلي. وإذا فالمدخل إلى الترجمة مدخل أو موضوع لغوي بحت.
وهذا يدفعنا عند قراءة المترجمات وتقويمها إلى الاحتكام إلى المعايير التي انتهى إليها علم الترجمة، لتخليص النصوص، موضوع الترجمة، من قلق الخيانة. وإذا فما الترجمة ؟ وما هي حدودها و ضوابطها ؟ لننتهي إلى مدى مصداقية ترجمة بوعابد ؟.
التعريف اللغوي للترجمة :
التَّرجمان المفسر، وقد ترجمه وترجم عنه. ويقال قد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر، وفي حديث استقبال هرقل، لسفراء النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل لترجمانه بالضم والفتح هو الذي يترجم الكلام، أي ينقله من لغة إلى لغة والجمع التراجم (5) .
وهذا المدلول نجد له حضورا في سائر اللغات بدوال مختلفة، مما يدل على ضرورة وأهمية الترجمة في التواصل بين الشعوب. فمقابل كلمة ترجمة في اللغة الفرنسية Traduire ؛ ويعود ظهور مصطلح Traduire في الفرنسية إلى القرن السادس عشر . فقد وضعه روبير بتْيان سنة 1539، وأضاف إليه إتيان دولي سنة 1540 لفظ traducteur و Traduction . والأصل اللاتيني لـ Traduire”translatus”. والمختص بهذا العمل في اللاتينية interpres . ومنه اشتق المترجم في اللغة الفرنسية Interprète. ويطلق هذا المصطلح في الأصل على الشخص الذي ينهض بمهمة فك مستغلقات النصوص التي يستعصي فهمها. كما يطلق على المرافق الذي يُصاحب المسافر إلى بلد أجنبي يتكلم لغة مغايرة لبلد الأم. ويعرف الشخص المترجم في مصر القديمة ب tracoman، وفي الحضارة الآشورية Ragoma ” (6).
إن تواتر مدلول كلمة ترجمة بدوال مختلف الألسن الضاربة في القدم دليل، كما قدمنا، على حاجة الإنسان، الماسة في كل عصر إلى التواصل الثقافي، كما أن تطلع الإنسان للجديد والتجديد المستمر يدفعه دفعا إلى معرفة ما عند الآخرين. نستنتج من قراءة نصوص للجاحظ، في موضوع البيان، إلى أن علماء البلاغة كانوا يعترضون قوافل التجار القادمين من الشرق الأقصى من الهند والصين ويسألونهم عما عندهم من أسفار في البلاغة.
الترجمة في الاصطلاح :
يقول جان ريبو : “الترجمة عملية التغيير في لغة لما تم التعبير عنه في اللغة الأصل، مع الاحتفاظ بالتكافؤات الدلالية والأسلوبية فالترجمة عملية نقل الأفكار والمعاني من لغة إلى أخرى مع مراعاة مميزات قواعد كل لغة والبيئة المحتضنة لكل لغة والتي من شأنها أن تؤثر في الدلالة المقصودة ” (7) .
وللأستاذ الخطابي تعريق تخييلي لهذه الفعالية النقلية حيث يقول : “إن الترجمة قائمة على اقتلاع نص من محيطه لتزج به في أتون لغة أخرى، أي تجريده من هوية وبنية لغوية كانتا له وإلباسه هوية وبنية لغويتين جديدتين” (8) .
لقد ظل هم الأمانة الترجمية مرافقا لمختلف حِقب الترجمة إلى أن انتهى في القرن الشعرين إلى جملة من القواعد التي يجب الإحتكام إليها لضمان ترجمة جيدة. وابتداء من منتصف القرن العشرين ظهرت الدراسات اللسانية المهتمة بالترجمة، حيث اعتبر الفعل الترجمي فعلا تواصليا. فالترجمة الحقيقية لا تتحقق إلا بمراعاة الطابع التداولي للمعاني المستفادة في كل لغة.
فعلى المترجم احترام النص، واحترام مبدأ القصد الذي يسعى صاحب النص إلى تحقيقه. فكل نص هو خطاب يحمل دلالات ومعان يريد صاحب النص إبلاغها إلى المتلقي للتأثير فيه وهو ما حاولت الدراسات اللسانية تبيانه. ومن ثم لم تعد الترجمة فنا أو إبداعا أدبيا مبنيا على القُدرة الإبداعية للذات المترجمة للنص، بل هي علم له قواعد مضبوطة وقوانين محددة. فالمترجم يتعامل مع نص. والنصية خاصية معقدة بها يتميز النص من اللانص، وإذا فما هي السمات التي تتآلف فيما بينها لإنتاج النصية.
إن السمات التي تجسد النصية سبعة : تتوزع على عوامل التواصل على الشكل الآتي /
– الباث أو المرسل : وسمته المقصدية.
– المتلقي المترجم : وتتعلق به المقبولة والإخبارية.
– النص : ويتعلق به الإنسجام والمقامية والتناص (9) .
إن عمل الأستاذ محمد بوعابد يندرج في إطار الترجمة التحريرية التي يقوم بها الأدباء المبدعون، حيث نجد الأديب يعمد إلى اختيار خطاب مكتوب في أي مجال كان ليترجمه إلى لغة يتقنها، مع ضرورة الالتزام بالخصائص الأسلوبية واللغوية لكل نص، دون الخروج عن المعنى المقصود داخل النص الأصلي.
ارتأيت تطريز هذه المقالة بمعلومات ذات صلة بعلم الترجمة حتى نخرج من المحاكمات النقدية الذاتية والانطباعية إلى المرجعية العلمية.
لقد حدس الأستاذ بوعابد اندراجه في تيار الأدباء المترجمين، فقوى مصداقية عمله بمجموعة من البينات فبالإضافة إلى خبرته في الترجمة، وكتاباته الإبداعية، وذائقته الفنية والنقدية التي صدر عنها في اختياره للمقالات التي ترجم لخوان كويتيصولو، والمتميزة بسعة الرؤية الإنسانية، وعمق الفكر وسداده، ودفء الوجدان، والافتتان بقيم الحق والخير والجمال، فقد عزز كل ذلك بعلاقته الحميمية بخوان فهو من الثلة الملازمة له ملازمة المريد للشيخ. فالعمل الذي بين يدي القارئ لم يسلم للمطبعة إلا بعد أن صادق المؤلف غويتصولو على كل فقرة من فقراته؛ ومن باب ارتياحه له أن عرض علي بوعابد نشره في دار نشر إسبانية، إلا أن شكليات بيروقراطية حالت دون ذلك يقول بوعابد : ” وقد كان المفروض صدور هذه المنتخبات في حياة الكاتب خوان غويتيصولو، فقد كنت استشرته بصدد إخراج هذه الترجمات إلى عموم القراء فأبدى موافقته، واقترح علي تقديم طلب لوزارة الثقافة الإسبانية من أجل دعم إصداره، فأخبرته بأنه يتعذر علي ذلك. فما كان منه سوى أن كتب لي رسالة موجهة لهذه الوزارة… الخ (10) .
فهذه حجة بالغة تدعى في باب تحمل العلم لدى المحدثين بالعرض، حيث يأذن المؤلف لحامل عمله أن ينشره في الناس. فالترجمة بهذا الاعتبار ليست خيانة على الإطلاق. فأفعال العقلاء تُصان عن العبث.
الإحـــــالات :
1- خوان كوتيصولو (1931-2017) الكاتب الإسباني الكبير، المتيم بحب المغرب، المراكشي الدار و القرار لمدة ربع قرن أعماله حاملة لهموم المهمشين ومعذبي الأرض. كتب في سنة 1992 مقالا دعا فيه إلى إنقاذ ساحة جامع الفناء، نشر في أعمدة الشهرية الفرنسية العالم الدبلوماسي، وقد أسفرت مبادرته هذه، عن إدراج الساحة في عداد التراث العالمي اللامادي بالإضافة إلى ما كتبه بوعابد عن سيرته، ينظر :
Hassan Aourid : Juan Goytisolo. Mort d’un humaniste, In Zamane N° 80, Juillet 2017. Page 76-77.
2- محمد بوعابد، من غوايات المتفرد خوان غويتيصولو، إعداد وترجمة وتقديم محمد بوعابد ، دار الوطن للطباعة والنشر ، الرباط، ط. الأولى 2021.
3- الجاحظ : الحيوان، ج 1، ص 75.
4 – محمد بوعابد : نفسه ص 12-13 .
5- ابن منظور، لسان العرب ، مادة رجم.
6 – انتهت دلالة Traduction للترجمة الكتابية و Interprétariat للترجمة الشفوية الفورية.
7 – رجاء بنفتاح : الزمان والجهة والمظهر، ضمن الأعمال المهداة إلى روح عبد الله صولة، جامعة منوبة كلية الآداب، تونس، ص 607.
8 – محمد الخطابي : الترجمة باعتبارها نصا، نفسه ، ص 96.
9 – نفسه، ص 97 ، وهو عن كتاب البرتخي ونوبريت واكريموري م. أشريفي الترجمة باعتبارها نصا، منشورات جامعة ولاية كنت، أوهايو 1992 ، ص70 .
10 – بوعابد : نفسه، ص 15.
3