تأملات قرآنية جديدة :
( بين آيتين )
إنجاز : د . مولاي علي الخاميري أستاذ جامعي – مراكش
قال تعالى في الآيتين : 28 و 32 من سورة النحل : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ۖ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ///// الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
مقابلة أخرى بين أحوال الإنسان المتشعبة والمتشابكة ، وتسخير للغة وتعبيراتها المختلفة التي تبقى أهم وسيلة للتواصل والفهم والتبيين بين أبناء البشر .
حديث القرآن الكريم عن الإنسان متنوع ، وله ارتباط وثيق بجميع مراحل وجوده انطلاقا من وضعية الجنين في الأحشاء وإلى الاختفاء الأولي وهو لحظة الموت الدنيوية ، ثم ما بعد ذلك من مراحل العالم الآخر وإلى نقطة الاستقرار النهائية كما يدل منطوق الآيتين المذكورتين أعلاه .
سياق الآيتين : 28 \ 32 من سورة النحل فيه غرابة واضحة لمن يتدبر تداعي الفقرات المحيطة به قبلا وبعدا ، فالمضمون الغالب هو مقارعة خطاب ومواقف أهل الشرك ، والإتيان بأقوالهم المختلفة ودحضها ومع ذلك أقحمت الآية : 32 في سياق يبدو مخالفا وخارجا عن إطار الكلام المحكي لكن إذا فهمنا كل ذلك في إطار المسار العام المتحكم في الوجود والقائم على ثنائية الإيمان والكفر ، وهو المسار الذي يقتضي ذكر المآلات بتجاور وتقارب ، سواء غلب على السياق ذكر ما يتماشى مع الإيمان ، أو ما يخص الكفر ، لأن القرآن الكريم هو كتاب هداية وتربية وسلوك وبناء للفرد في مختلف مراحل حياته ، والسير به إلى طريق النجاة ما أمكن ، بالإضافة إلى أن التعبير اللغوي يجمل أكثر كلما استطاع أن يختصر الحديث ، وأن يجمع بين البدايات والنهايات ، وأن يسلك دروب المقارنات ، ففي ذلك اختصار ، وبيان وتسهيل .
إذا وسعنا من دائرة الانتباه في تأملنا للآيتين ، وانطلقنا من الآية : 17 من سورة النحل وما تلاها سنلاحظ أن التركيز قد وقع على مميزات الذات الإلهية على مستوى الخلق والنِّعَم والعلم المطلق مخالفة لما يدعيه أهل الشرك ، وعلى اعتبار أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بلا سند وجودي ، وكان عليه أن يميل بسرعة إلى حقيقة الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ليرتاح ، وينعم بالسعادة ، ويختصر وقت البحث ، ويصرف عقله إلى ما سيفيده في دنياه وآخرته ، خاصة وأن الله تعالى قدم كل المسوغات التي تمكن الآدمي من الوقوف على الحقائق ، ومن الاستقرار الذهني على صدقها…….ومع كل ذلك يأبى الإنسان إلا أن يتعلق بنفسه وبهواه وبمدعي التزوير ، قال تعالى : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) .
وعلى هذا المنوال من التقابل والإدلاء بالأدلة المتعارضة صار النسق المتحكم في مشهد سورة النحل حتى وصلنا إلى نهايته المبثوثة في الآيتين 28 و 32 .
سنلاحظ على البناء اللغوي أن كلا نهايتي الآيتين بدأت بألفاظ لغوية واحدة ، واستفتحت بصيغة جمع اسم الموصول ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ….) ثم وقع الفرز المضاد بين الظالم والطيب ( ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ # طَيِّبِينَ ) وانتهى المشهد بصورة الانقياد التي جاءت متوافقة مع ما مضى ، ومتقابلة في تعبيراتها اللغوية ( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ///// يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .
فالظالمون دخلوا إلى النار بأعمالهم ، أما الطيبون فقد دخلوا إلى الجنة ، والله تعالى عالم بفحوى تلك الأعمال عددا وإحصاء وعلى طول وجودهم ، مصداقا لقوله تعالى في الآية السادسة من سورة المجادلة : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) وقوله تعالى في الآية : 49 من سورة الكهف وهو يصف أحوال المتحسرين على مآلهم الختامي : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)
مشاهد متقابلة برع القرآن الكريم في الإتيان بمختلف مواقفها وتعبيراتها اللغوية المتعارضة ، وهذا نوع من العدل الإلهي ، تخطى مشاهد الواقع ، وركز على عملية التصوير والإفادة بالنهايات وما تستوجب من الفرح والحزن ، وكل ذلك يدخل في علم الله المطلق ، المحيط بجميع الأحوال والنتائج القائمة في نهاية الأمر .
ومن الدلالات على عدل الله بين خلقه في الآيتين عدم منع الظالمين من حق الدفاع عن أنفسهم ، فقد سمح لهم بالكلام وهم يساقون إلى مصيرهم ( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) والإنسان هو ذاك الإنسان المتشبث بالأمل دوما ، ويزداد أمله كلما وقع فيما لا يحمد عقباه ، ولهذا فُسِح له من هذه الناحية للوقوف على حقيقة الاحتياج ، وتتحقق لحظة اللقاء بينه وبين ربه وحقائقه التي ابتعد عنها الإنسان ، وتغافل عنها في الدنيا ، وهناك من صَدَّ عنها وكذبها ، ومن رحمة الله بعباده أن مواقف الخزي النهائية لم تُلغِ إمكانية الإدلاء بالآراء المتعارضة انسجاما مع فطرة الإنسان وحقائقه الوجودية ، وتلبية لمكونات تركيباته ، وإمعانا في معنى العدل الإلهي ، وإنعاما في تثبيت الرحمة والعلم المطلقين والدائمين للذات الإلهية .
كلام الإنسان بنفسه عن نفسه وعن وقائعه حالة ملاحظة في تعبيرات القرآن الكريم ، وحقيقة من حقائقه الكبرى ، تطورت حتى أصبحت نقاشا مفتوحا ، وحوارا واسعا ، وأسلوبا مرتضى للحجاج والأخذ والرد ، فالإيمان والشرك لم يقوما في الحياة بمعزل عن مفهومي الحراك والتدافع المستمرين إلى يومنا هذا ، ولهذا نجد صخبا واضحا بين الموقفين ، وتتبعا مستفيضا ومتنوعا وشاملا لكل أفعال الإنسان المتعددة إزاء معضلة الإيمان والكفر ، والثواب والعقاب ، والغفلة واليقظة ، والحرية والندامة ، والماضي والحاضر والمستقبل ، والحياة والموت ، والدنيا والآخرة ، والنعيم والعذاب والجنة والنار ، والله والإنسان….
كل ذلك مقصوص بدقة وبتفاصيل متاحة للإنسان ، تزوده بما يحتاجه على درب الإيمان واليقين….فهل استفاد منها ؟ وهل حَصَّن نفسه من نفسه العدوة ؟ وهل انتبه للحقائق المحيطة به ؟ وهل….وهل….؟!.
لا أظن الإجابة الإيجابية قد حصلت ليبقى الإنسان هو الإنسان : عدو نفسه ومُوصِلُها دوما إلى حافة الإفلاس ، وعدو خالقه بجحوده المتواصل ، صدق الله العظيم حين قال : ( إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد…..) .