حينما وجد الفنان هانس فيرنر غيردتس نفسه في ميدان جامع الفناء بمراكش لم يكن يعتقد بان سحر المكان سيجذبه للبقاء في مراكش لعشرات السنين. في هذا المقال يحتفي كريستوف لايستين سنة 2005 بالفنان بمناسبة بلوغه الثمانين.
إن هناك الكثير من الأسباب الجيدة التي قد تجعل الفنان يبحث عن وطن له في بلد غريب ، فليس من النادر في الوقت الحاضر أن يتطلع رجال الفن من ذوي الثقافات الغربية إلى دافع يساعدهم على البحث عن ذلك. وإلى جانب الأفكار والابتكارات الجديدة العظيمة فإن المشاركة في الحياة اليومية في الغربة تساعد على خلق مهن جديدة.
وفي أغلب الأحيان تطفو الثقافة الأم على الثقافة الأجنبية التي كثيرا ما يتم إمتصاصها وليس التشبع بها، وينتج عن ذلك فن تافه مختلط تنقصه الأصالة والجدية. كلمات رنانة! ولكن أعمال الفنان والكاتب هانس فيرنر غيردتس – الذي يعيش منذ عقود في مراكش – لا تنقصها بأي حال تلك القيم من الأصالة والجدية.
سحر ميدان جامع الفناء
وعندما وقعت عيناه على ميدان جامع الفناء من قبل ما يزيد على الأربعين عاما أيقن الفنان هانس فيرنر غيردتس – وهو من مدينة كيل الألمانية – أنه سيظل هنا. وبعد إتمام دراسته لدى السيد فيللي باومايستر ، وهو أحد ممثلي الفن التجريدي المعروفين لفترة ما بعد الحرب في أوروبا ، جال غيردتس العالم على مدى سنوات عديدة ، فزار الشرق الأدنى واليابان (حيث درس فن رسم الزنّ) واستراليا وجنوب أمريكا.
وانتهت رحلاته بمراكش المغربية عام 1963، وكان هذا قبل أن تكتشف مجموعات البيتنكز ومن ثم الأوربيون الأغنياء هذه المدينة لنفسها. وما وجده غيردتس في مراكش كان تجسيما بشريا متنوعا ليس له نظير يشعر به كل باحث مثله ، كما لوكان واحة بشرية وسط بقعة موحشة خلفتها الحروب.
ومنذ ذلك الوقت ويتضح في أعمال غيردتس المستمرة نوع من التلائم النادر: فنجده يشكل بالسكين صورا مرسومة على خلفية رمادية خشنة ، ويخلق بهذا أسلوبا يظهر فيه اندماج عناصر الرسم التجريدي مع فن الرسم التجسيمي. وقد استوحى هذه العناصر من لوحات رسوم لصخور جبال الأطلس العالية التي تعود لما قبل التاريخ ، وأيضا من رؤيته للجماهير التي تجتمع حول الرواة والموسيقيين في ميدان جامع الفناء.
وتربط هذه العناصر الغالبة على فنه تاريخ البشرية القديم بالوقت الحاضر ، مثلما يربط فنه بين عالميْن. وقد نحج هذا الربط لأن رسومات غيردتس متأثرة بالتقدير الجوهري للثقافة المغربية التي يعيش فيها ، ومتأثرة أيضا بالأفكار التي واجهها في هذا العالم المغربي. كما أننا نجد في رسوماته التخطيطية – التي تعبر عن جمهرة الناس والتي تعتبر جوهر أعماله – صورة الإنسان الفردية بألوانها وملامحها الدقيقة وحركاتها المختلفة.
همزة وصل ببين عالمين
وأخيرا وليس آخر فقد نالت أعمال غيردتس تقديرا دائما بالتعاون مع كتّاب أمثال خوان غويتيسولو ورولف إطالياندر، حيث تعرض أعماله في المتاحف الهامة في العالم. ومما يعد أكثر تقديرا أن هيئة اليونيسكو غيرت عام 2001 لوائحها بالقصد حتى تجعل ميدان جامع الفناء – الذي أصبح مركزا لحياته – أول تراث ثقافي عالمي معنوي.
ومن خلال جهوده لتفهم الإسلام أصبح غيردتس منذ عدة عقود همزة وصل بين العالم الغربي والمغرب ، ولا يدل على هذا الدور لوحاته الفنية فقط، بل كتبه التي ألفها في السبعينيات. فنجد غيردتس قد أعطى صورة غنية مقنعة عن الواقع المغربي من خلال الروايات والقصص القصيرة والأشعار العاطفية.
كما أن أعماله كانت بمثابة باعثا للأفكار ومثالا لكثير من الفنانين المغاربة الشباب. ومن يجوب البلاد اليوم ويكتشف منوعات الفن المغربي المعاصر، فسوف يرى آثارا كثيرة ترجع إلى الرسام الألماني ، الذي عاش في مدينة مراكش منذ عشرات السنين – حيث كانت الفنون التشكيلية في المغرب شيئا هامشيا – وأنتج أعمالا فنية خالدة إلى اليوم.
وكثيرا ما فتح غيردتس باب مرسمه بكل بساطة للفنانين الشباب كي يريهم عالما من الألوان والأشكال والتجسيدات. وعند البحث عن الشيء الآخر أصبح هانس فيرنر غيردتس رائدا حقا لا يفرض نفسه، ولكنه متواضع ودؤوب ومستمر في أعماله وفي نفس الوقت يظل منتبها لكل الابداعات المحيطة به.
وفي الثالث والعشرين من يناير / كانون الثاني احتفل هانس فيرنر غيردتس بعيد ميلاده الثمانين في قلب مدينة مراكش بالقرب من ميدان جامع الفناء الذي يمثل بالنسبة له رمزا للإنسانية. ولم يحضر الاحتفال جماعة البيتنكز ولا الأوربيون الأغنياء، بل بعض الأصدقاء والمبدعين من جميع أنحاء العالم، لتكريم رجل، تلتقي في أعماله الثقافة المغربية والغربية بطريقة مثيرة للإنتباه.
كريستوف لايستن / موقع قنطرة