بقلم سفيان أبوزيد
إذا صادفك اسم مراكش في مسالك التاريخ أو محطات الأدب أو في أي قناة من القنوات المفيدة، ستجدها ارتبطت وطابقت كل معاني العلم والثقافة والأدب والرسوخ والإبداع والزهد والصلاح، حتى صارت علما لكل ذلك، بل صارت علما على المغرب الأقصى..
هذه هي مراكش التي عرفها التاريخ وإلى عهد قريب، وليست بمراكش الضحك والتفاهة والخلاعة تحت شماعة البهجة والسياحة، لا ننكر دماثة طباع أهلها ولطافتهم وكرمهم ورضاهم وهذا متواتر عنهم منذ أن عرفوا وعرفت، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق في الحضارة، ورسوخ في التاريخ، فكلما اتصلت بك سلسلة الحضارة كابرا عن كابر، إلا وتلطف طبعك، وتنقح فكرك، وتهذب ذوقك، وتحكم سلوكك (صار حكيما) وصارت الحكمة لفظك وتعبيرك، والنكتة لمحتك وتركيزك، وحسن الخلق سجيتك وجبلتك، خاصة إذا كان مبنى ذلك التحضر على أسس مستقاة من الوحي والحكمة والأعراف الراقية، ومن هنا نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بدا جفا) وكذا تجد جميع الحواضر الإسلامية العريقة..
فشتان بين اللطافة والتفاهة، والثقافة والجهالة، والحكمة والسفاهة، وتاريخ الرقي النقي التقي، والحاضر الذي يراد أن يكون الشقي، وهيهات لهم ذلك..
من نماذج الشخصية المراكشية التي رسخت علما حتى ثبتت فلا يستطيع أحد ململتها مهما أوتي قوة دافعة، وغمرت تواضعا ونكرانا للذات حتى يصعب تمييزها، وأفعمت خلقا حتى أعيت الأوائل، وازدانت لطافة ودماثة وأدبا حتى جذبت القاصي، وفاحت حكمة حتى عطرت الجليس والتابع، وهامت في محبة المصطفى وسنته حتى شابهت الأسلاف الأوائل..
إنه فضيلة الإمام العلامة مولاي أحمد أبو عبيدة المحرزي المراكشي..
شهادتي لن تكون دقيقة تفصيلية عن هذا الإمام الذي أنتجه المصنع المراكشي صناعة كاملة دون استيراد مادة أو قطعة..
ولكنني سأتحدث عما عرفته شخصيا، وعما سمعت عنه من الوالدين الكريمين حفظهما الله اللذين نشئا في باب ايلان، درب القاضي حيث نشأ وترعرع وسكن وعاش فضيلة الإمام، ومما سمعته منه وعما ميزه، وعن نموذجية الإنتاج المراكشي للرجال والأعلام، والذي يراد له اليوم أو ينتج الخُشُب والأقزام..
مما ميز الشيخ حفظه الله وعافاه:
رسوخه العلمي وعصاميته العلمية وهمته العالية في التعلم والبحث والتنقيب وجمع المعلومة، نموذج تقف دونه كل الهمم، وتشهد بروعته كل الذمم، وتسلم له كل العزائم، فهو العملة النادرة في كثير من العلوم اللغوية والشرعية، فإن كان لمصر شعراويها، فلنا في مراكش عبيدتنا، ولكنه عجز الثقة والغمر والتغمير والبعد والإبعاد..
فلا تجده حفظه الله إلا متحدثا في علم أو مقلبا لكتاب، او متجولا في مكتبة، أو متذاكرا في مسألة، مع الجديد والإبداع فتسمع منه في بعض المسائل ما لم تسمع منه في مرات سابقة أو من غيره، أذكر مرة أننا زرناه في السنوات القليلة الماضية، فبدأ مذاكرة تفسير سورة الفاتحة وأنا أدعي اهتماما بهذا الفن، وقد سبق لي أن سمعت منه تفسيرها، إلا أنه أدهشني بجديد الفوائد والمعلومات التي أوردها في هذا المجلس جزاه الله خيرا، وهذا يدل على الاستمرار في التجديد والتجويد والتنقيب والبحث وهذا ما يعوز كثيرا من العلماء والدارسين للعلوم الشرعية، الوقوف عند إصدارات علمية أو فكرية قديمة متجاهلين أو زاهدين في التجديد والتجويد..
لذلك لابد من دراسة لرسوخه والعلوم التي نبغ فيها وكان له السبق في مسائلها ومنهجيته حفظه الله في الطلب والبحث والتجديد، ليعود إلى الأجيال المراكشية معلمها في النهم العلمي والثقافي الذي كانت معروفة به..
مما ميزه حفظه الله تواضعه، فلا تكاد تميزه عن جلسائه ولا في ثيابه، فعمامته وطيلسانه وجبته وسلهامه في فكره وعقله الطافح بالعلم، وفي قلبه المشبع بالتزكية، وفي لفظه المشع حكمة ومعنى، مع استعداده المنقطع النظير للاستفادة من أي شخص صغر أم كبر، دون تأنف أو ترفع أو اعتداد وهو من هو علما ورسوخا، وهذا شائع عنه بلغ مبلغ التواتر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أمرين اثنين:
معرفته لقيمة ذلك العلم الذي يحمله، فكلما عرف المتعلم قيمة العلم وحجمه وشساعته إلا وعرف أن كفة مالم يعلم أرجح بكثير من كفة ما علم، وأنه مهما علم فلن يستوعب، ومهما استوعب فإنه لن يحيط، وأنه فوق كل ذي علم عليم في الجزئيات والكليات، لذلك لابد من اهتبال الدقائق والساعات والمواقف والفرص للتعلم بغض النظر عن اعتبارات أخرى..
ويدل على رياضته القلبية المحكمة والمكثفة والدؤوبة التي أهلته لأن يصل إلى هذا المستوى من التواضع ونكران الذات..
وهذه خاصية من خصائص الشخصية المراكشية نسميها في مراكش ( صغوريت الراس ) أو فلان (راسو صغير) بمعنى أنه متواضع فرأسه لم ينتفخ ولم يتعاظم بما يحمل..
وهذا الجانب لابد أن يفرد بدراسة عن مكامن تواضعه حفظه الله ودوافع ذلك والقصص التي تروى عنه في هذا، حتى نعيد للشخصية المراكشية هذه الخاصة التي يراد لها أن تهمل وتداس بأقدام العجب والكبر والتشيخ والتصدر..
ومما ميزه حفظه الله زهده، في الماديات والمعنويات، فقد بلغ من التقدم العلمي، حتى ذاع صيته وبلغ اسمه مبلغا، فلا شك ولا ريب أن من وصل إلى شهرة وقوة حجة، قُصد بإغراء أو إمالة تثنيه عن حجته مع بقاء او توسيع شهرته، وهذه عادة المناوئين والرافضين للحجج والحِجاج على نهج الحجَّاج، فبقي لازما غرزه، مستمرا في مسلكه، راميا كل إغراء خلف ظهره، مقدما التي هي أحسن وأقوم، فكان أسلم وأحكم..
فأضفى على مفهوم الزهد تجديدا، في زمن تختبئ فيه لا تحتاج فيه المغريات إلى النداء والاستمالة، بل يتعرض إليها المفتونون ويبحثون عنها ويقدمون لها القرابين ويجتهدون في إرضائها بأكثر من طلباتها، نسأل الله السلامة والعافية..
وهذا محور مهم يحتاج إلى بحث وإظهار، عن مدرسة الفقيه أبي عبيدة في الزهد، خاصة في زمن الزهادة في الزهد..
ومما ميزه حفظه الله، حكمته ورجاحة عقله وفهمه وفكره، فإنه حفظه الله يقدر العلم والعلماء ومن جالسه أو صاحبه، أدرك هذا المعنى وفهمه، لا تسمع في مجلسه سبا أو شتما او تنقيصا لعالم وإن اختلف معه منهجا وفكرا، ويزجر كل حدث متجرئ، يقدر الناس وينزلهم منازلهم، ويصلح ما يمكن إصلاحه، ويغض الطرف عن الخطإ والزلل، لأنه منشغل بذاته ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه..
يدعو إلى الوسطية ويربي على الحكمة ويرسخ المقصدية ويسير على الأثرية، ويثني على كل عمل خير بغض النظر عن فاعله..
وكل تلك الحكمة مع ذكاء ونباهة وفراسة منقطعة النظير..
هذه الحكمة هي ما افتقر إليه العمل الدعوي في مراكش وغيرها حتى صار الهدم اكثر من البناء، والتفريق مقدم على الجمع، والسفاهة والشماتة والسباب مغلف بمسوح المنهج والسنة والسلفية زورا وبهتانا ولازال، فارتفع العلم زمنا سرعان ما هوى لأنه بني على شفا جرف هار..
وهذا باب من الأبواب التي ينبغي أن تدرس من شخصية الشيخ لإعادته للشخصية المراكشية المميزة بالحكمة الصادقة وليست الحيلة الكاذبة..
ومما ميزه حفظه الله السبق لميدان الدعوة (والسابقون السابقون..)
(لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى..)
فمن الصدق والنبل تكريم أهل السبق والفضل، والاعتراف لهم بالجميل والتقدم في التضحية، وتمهيد الطريق، وفتح الأبواب، وتجاوز الحدود والموانع، والصدح بكلمة الحق، حينما كانت غريبة، والسير على الدرب حينما كان شائكا، والبحث والتنقيب والمحاولة حينما كانت الوسائل فقيرة شحيحة، والحديث حينما كان ممنوعا، والحركة حينما كانت مرصودة، فكل هذا وغيره يجعلنا نقف إجلالا واحتراما وتقديرا لأولئك السابقين المبادرين المضحين المجاهدين، نقدر اعمالهم وجهودهم، ونستفيد من تجاربهم وخبراتهم، ونقر بسبقهم وفضلهم، ونقرر صوابهم، ونصحح خطأهم ونعذر ظرفهم ونحمل ضعفهم ونجدد منهجهم وونناقش ونضيف إلى اجتهاداتهم، وبهذا نسعدهم، ونساهم في وصول أجر السبق لهم ( ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله اجرها وأجر من عمل بها ) وهذا هو معنى العمل بها، وندعو لهم (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)
ومن تنكر للسابقين فهو لقيط في دعوته وفكره..
وهذا مجال من مجالات الدراسة التي ينبغي ان يهتم بها في حياة الشيخ، حتى يعاد بناء الدعوة على أسس متينة قوية منسجمة، يبدا اللاحق مما انتهى منه السابق، في جو ملئه الادب والرسوخ والاحترام والتقدير..
هذه هي أهم معالم فضيلة العلامة مولاي أحمد أبي عبيدة المحرزي حفظه الله وشافاه وعافاه من كل مرض وسقم ومكروه، والتي نحن بحاحة ماسة إليها، وهي غيض من فيض مناقبه، معالم تعيد للشخصية المراكشية رونقها وعمقها وبهجتها وذوقها ورسوخها حكمتها، في زمن يراد فيه لمراكش أن تكون بؤرة خلاعة وميدان سفاهة ومهرجان ضحك وتفاهة..