محمد الطوگي// حصريا للمراكشية
تعتبر الطنجية المراكشية أي المغربية ، مظهرا من مظاهر خصوصية الحضارة المغربية فـي مجال فن الطبخ الغني و المتنوع الذي يزخر به المغرب ، و الذي يختلف باختلاف المناطق و اختلاف العناصر المكونة للهوية المغربية ، كما أتاح الموقع الجغرافـي المتميز للمغرب ، تفاعلا و انفتاحا على أصناف الطبخ الذي عرفته و تعرفه حضارة البحر الأبيض المتوسط شمالا، وإفريقيا جنوبا ، فتأثر وأثر .
ونظرا لما تميزت به الطنجية قديما من خصوصية ، وشدة الإقبال عليها ، إلى حد أن غدت ظاهرة ، فقد اهتم بها بعض الأدباء.
الطنجية من المنظور الأدبي :
خصها أديب مغربي عاش فـي العصر العلوي بمقامة فـي وصف الرياض وبنت الرماد ، “الطنجية” و قبل أن نضعها بين يديك سنعمد إلى تحليلها مستهلينه بتعريف المقامة ، وترجمة منشئها.
1 : فالمقامة هي “المجلس أو الجماعة من الناس يجتمعون فـي مجلس، و عرفها الشربشي بأنها “الحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه ، لأن المستمعين للمحدث يكونون بين قائم و جالس ، و لأن المحدث يقوم ببعضه تارة و يجلس ببعضه أخرى . ويفرق أستاذنا المرحوم محمد بن تاويت بين المقامة و المجلس قائلا : ” إن كلمة مقامة من قام إذا وقف فهي إذن موقف وليست مجلسا كما قيل ، فالمجلس مرتبط بالتعليم يطول وقته ، ويمتد ساعات عديدة ، ولكن المقامة لا يزيد وقتها على دقائق معدودة ، وهذا ما جعل أول من ابتدعها يسميها بذلك الاسم ، إذ المقامة بذلك القصر الذي ذكرناه ، ثم إن موضوع المقامة يكون من البساطة بحيث لا يحتفل به احتفال الذين يجلسون لتلقي التعليم و قضاياه العويصة ، وكأن كلمة مجلس فـي هذا انبثقت فـي الإسلام ، من حديث جبريل ، بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ..الحديث ، لكن ما تحتوي عليه المقامة غالبا لا تقتضي ذلك ، بل يلقى على الواقفين المنسطين إلى صاحبه فـي الأسواق و نحوها غالبا وليس فـي المساجد” . ذكر أبو عبد الله الأبي “أن أئمة تونس كانوا ينزهون المساجد عن قراءتها فيه” .
2 : صاحب مقامة الطنجية : هو أبو محمد و أبو نصر عبد القادر بن شقرون المكناسي ” ت بعد 1140هـ = -1728م “، طبيب ماهر ، و فقيه متمكن ، و أديب بارع ، يقول عنه معاصره محمد بن الطيب العلمي ” 1134هـ – 1721م” شاعر مصيب ، رتع من البلاغة بمرعى خصيب ، وأحرز من الدراية أوفر نصيب، دخل بيوت العربية من أوضح المسالك ، و طرز فـي حديث السنن نحو ابن مالك بفقه مالك ، واختار الوحدة ، و انفرد بالخمول وحده ، و رغب عن الولدان ، و اعتزل الإخوان و الأخوان ، وضم إلى علم الأديان علم الأبدان ، فركب الأودية ، و انتشر له بين الحكماء أي ألوية ، و عرف الأمراض ، و أرسل سهام الرقى فأصابت الأغراض ، رحل إلى المشرق فأدى فرضه ، ثم رجع قاصدا أرضه ، فناهيك من علم اجتلب ، ومن درر نظم و در احتلب .
تحليل المقامة :
تتكون هذه المقامة من تمهيد وخمس مقطوعات ، بعضها آخذ برقاب البعض.
التمهيد : استهله بسند على طريقة المحدثين ، و وظيفته حـجاجية تجعل المتلقي واثقا من الخبر الذي سيلقى إليه ، وقد جاء اسم الراوي و نسبه و كذا المروي عنه – البطل – محيلا على الطبيعة ، فلا هو عيسى بن هشام راوي مقامات الهمذاني ، و لا هو بطله أبو الفتح الإسكندري ، و لا هو بالحارث بن همام راوي مقامات الحريري و لا بطله أبو زيد السروجي ، فراوي مقامة ” الطنجية ” وبطلها ينتميان إلى عالم الطبيعة ، إنه نسيم بن رياض ، والمروي عنه – البطل – جدول بن حياض .
وهذا يذكرنا بموشح : جادك الغيث …لابن الخطيب وفيه .
و روى النعمان عن ماء السما *** كيف يروي مالك عن أنس .
و دور الراوي فـي هذه المقامة سلبي يكتفي بما سمع من البطل ولا يتدخل فيه على غرار رواة الأحاديث الشرعية .
وهذا التمهيد سيجعل أفق انتظار المتلقي يتوقع ، من اسمي الراوي و المروي عنه ، بأن ما سيأتي من الحدث الكلامي لن يخرج عن وصف فضاء غب مطر تجلله الطبيعة بمحاسنها ، فالمكان الموصوف موح بزمان فصل الربيع .
1 : المقطع الأول : يبتدئ بوصف الحالة النفسية للبطل الأديب ، فقد ضاق صدره واشتاق إلى لحظة استجمام تبدد و تكشف غمته ، و الشوق فـي حد ذاته عنصر مهم من عناصر السرد ، و هو الذي سيخرج البطل الأديب من طور وجداني إلى طور آخر ، نعم لقد اشتاق إلى نزهة تريحه من عناء الكد فـي مناحي العيش ، أو تخرجه من حالة الارتاج و انغلاق باب الإبداع إلى حالة الوجد الأدبي و استجابة القريحة ، فارتياد البساتين و ورود مجاري المياه ،كما نص على ذلك نقادنا القدامى ، عامل من عوامل استجابة القريحة و حل عقدة اللسان ، و هكذا أتى بطل المقامة روضا مريعا ، و بين خمائله و مروجه و ترعه و جه عدسة وصفه نحو جميع مكوناته ليتسلسل أمام القارئ معجم حافل بأنواع الأزهار و الأنوار من أقحوان و شقيق ، و زهر فـي أكمامه و منثوره المتساقط ، و بنفسج وخابور ، وأنشأ فيما بينها علاقات مؤنسنة عن طريق أصباغ بديعية و ترنيم شبيه بإيقاع المثاني و المثالث و صور بيانية على رأسها استعارات مكنية رائعة ، فهذا الأقحوان يبتسم للشقيق ، و هذا الزهر يعطر الروض بمنظومه و منثوره ، وهذا البفسج على جلالة قدره يتذلل و يتواضع أمام الخابور المكلل بتيجانه ، كما يمم بصيرته الجمالية نحو الجداول والأشجار لتصبح الافتان التي من طبيعتها التطاول تنوء بحمل ثمرتها و تنحني إجلالا أمام الجداول المسلولة انسلال السيوف من الأغماد ، كما يرصد الطيور فـي حركاتها و تناغم أصواتها فيتجاوب و إياها و كأنه على دراية بمنطق الطير ، فهذا الحمام يبكي بالدموع الغزار أثناء مخاصمته للشحرور و الهزار ، مناظر خلابة ذكرت البطل بما أعد الله للمؤمنين بما جاء فـي وصف القرآن الكريم للرياض و الجنان ، و بينما هو هائم بين تلك الخمائل إذ وقع بصره على
2 : المقطع الثاني : وقع بصره على فتية ولعوا بالأدب، التأم جمعهم بمحاذاة نهر ، يتناشدون اللحون والأشعار، وها هنا تتناغم أصوات الأناسي المنشرحة منسجمة مع مظاهر جلال الطبيعة ، فتسلل نحو الفتية مستخفيا بحيث يظن أنه يراهم من حيث لا يرونه ؛ رجاء التقاط ما يتداولونه من الأخبار والأشعار ، لكن هذه اللحظة لم تطل إذ افتضح أمره .
3 : المقطع الثالث: أشرف عليه أحدهم ، فأدرك أنهم رأوه ، فبعثوا إليه من يحضره ، فاعتذر للمرسول بدعوى أن المرء على الاطلاع مجبول ، و العذر عند كرام الناس مقبول ، و أن ما دعاه لركوب تلك الحيلة هو التلذذ بسماع الأشعار ، و أقسم بالله جهد إيمانه على صدق دعواه ، لكن المرسول أبى أن يتركه وحرص على إحضاره إلى مجلسهم المنتظم انتظام البدور ،فتقاعس البطل واثاقل إلى الأرض حتى أتوه بأجمعهم ، و احتفوا به و رحبوا ، و ألحوا فـي انضمامه إلى مجلسهم، و الفقرة توحي بأن البطل علم مشهور لدى الفتية .
4 : المقطع الرابع: انظم البطل إلى مجلس الفتية الأدباء الذين عرفوا فضله، و اعترفوا له بالمشيخة فقد موه عليهم ، فكانت البداية معه منفتحة على المذاكرة فـي الأدب ، فخاضوا فـي مجاله ، و ذكر جماعة من فحول رجاله ، حتى أذن وقت الأصيل إذا بفتى يحضر مخفيا شيئا تحت جلبابه ، عرفه الفتية وجهله الشيخ ، فسألوا الفتى عن داعي بطئه وتأخره ، فاعتذر اعتذار الحكماء و ورى عن موضوع حديثه قائلا : إن إخراج الدفينة .. بحاجة مستلها و معالجة أمرها إلى تلطف و إلا أتى عليها و على ما بداخلها ، فما أشبه معالجتها بوسق السفينة فحمولتها بحاجة إلى توازن و إلا انقلبت رأسا على عقب عند هبوب أول ريح ، ثم كشف عما أخفى بالتورية ، و إذا بالدفينة عبارة عن طنجية شبيهة بعروس ذات نقاب ، و قال : اغتنموا فرصة الطنجية قبل حلول الليل ، و لكن قبل مباشرة استطعامها ، طلبوا من جدول بن حياض بطل المقامة الذي أمروه عليهم بعد أن تحداهم أن يباركها ارتجالا بشيء من منظومه ومنثوره، فكان ما ستقرؤه فـي .
5 : المقطع الخامس : و هو حد فاصل ينتقل فيه البطل من التحدي بالرواية إلى التحدي بالإبداع جاء فيه : ” بنت الرماد يحيا بنفحاتها الجماد ، و لا تباع بإرم ذات العماد ، يا لها من صديقة ، تأوي إلى ربوة و حديقة ، و لا تحط نقابها إلا إذا اجتمعت أحبابها ، و لا تخرج ما فـي بطنها ، إلا فـي أشرف موطنها ، لو استنشق رائحتها هشام لأتاها بدون احتشام ، ولو علم خبرها مروان ، لترك الجنود و الأعوان ، و حضر مجلس الإخوان ، قد جمعت الأحبة عليها جمع سلامة ، دون عتاب و لا ملامة ، وجمع الخبز لها جمع تكسير ، وجلبت لها الفواكه جلب تيسير ، فما أشبهها لما أفرغت ، بالذهب السائل ، ولله در القائل :
ألقت إلى القوم ما أخفت بباطنها *** وفاح منها شذى يبري من العلل
إذا قال كل من الأقوام نرجمها *** و مزقوا لحمها من غير ما زلل
فأصبحوا ولسان الخبز ينشدهم *** أنا الغريق فما خوفـي مــن البلل
وسنترك للمتلقي فرصة قراءته قراءة بناءة على حد تعبير تودوروف
تعليق :
1 : لنا أن نتساءل : ما بال الفتية لم يستضيفوا من أول وهلة شيخهم بطل المقامة ، ويطلعونه على ما هم مقدمون عليه ، فهو علم ولهم به معرفة ، فقد فرض نفسه فـي مجال الأدب ، ومثله يعتبر زينة لمقام الاستمتاع والنزهة ؟
و لنا أن نحزر جوابهم القابع فيما بين السطور فنقول : إن عدولهم عن اصطحابه عائد إلى تقنية السرد فـي حد ذاتها القائمة على الحوار وتبادل أدوار الكلام فهي التي لم تسمح بحضوره بدءا ، فوجود الشيخ بينهم هو فـي حد ذاته سلطة قد تحد من دواعي القول لديهم ، كما أنه بصفته تلك سيستأثر بالكلام دونهم ، فيصبح المجلس مجلس علم لا مجلس نزهة وأنس ومؤانسة ، فالتلفظ فـي الحكاية العربية ، كما يرى تودوروف تقنية مكثفة هامة حمالة للتأويل و هذا لا يترك مجالا للشك فـي أهميتة فـي السرد العربي ، و النموذج الأمثل كامن فـي شهرزاد ، بطلة ألف ليلة وليلة ، مكتوب عليها أن تحيا فـي حدود ما دامت تحكي و صمتها ، مؤذن بنهايتها وهلاكها .
إن تسمع بطل المقامة لأحاديث الفتية ظانا أنه يراهم من حيث لا يرونه ، و تفطنهم لتسقط أخبارهم سيقطع حبل استئناسهم بالحديث ، و بإحضارهم للشيخ و ترحيبهم به ستنفتح قناة مطارحتهم للأخبار و الأشعار القائمة على سبيل الرواية لتفضي إلى مجال الخلق و الإبداع و هو مسلك تعذر على الفتية ارتياده فسألوا الشيخ – البطل – أن ينبري له و عرضوا عليه ارتجال شيء من المنثور والمنظوم يكون موضوعه ” الطنجية ” .
وبناء على هذا التأويل يحق لنا أن نستنتج الجانب النقدي الضمني فـي المقامة ، إنه ينتقد المنظومة التعليمية فـي عصره القائمة على صمت المتعلمين و هيمنة الإلقاء والتقرير ، فكأني به يهفو إلى الجمع بين مفهوم المجلس العلمي الصارم و روح الحوار والمؤانسة فـي المقامة .
2 : قول ، بطل المقامة ، وهو يهم بوصف الطنجية وصفا أدبيا :” فجبت فـي ميدان الأدب وجلت ” فهذه العبارة ،سواء اعتبرناها حديث نفس مونولوج ، أو تصريحا و بثا فهي تحد أدبي للفتية و هو غاية المقامة كما أنها تهيؤ لمباشرة وصف ما اقترح عليه ، عن طريق استحضار المعجم و المعاني الشعرية المناسبة لموضوعه ، فهذه الأمتعة التي سبق له أن زين بها ذاكرته و عمر بمعانيها وأفكارها صدره هي التي ستسعفه و ستترسب فـي العمل أو النص الذي سينتجه ، مما يؤشر على ضرورة استحضار المحلل لمثل هذه المرجعية التي تتداخل تداخل اللحمة بالسدى فـي نسيج النص المزمع إنجازه فعن هذه المرجعية الثاوية فـي مقامة الطنجية يقول الأستاذ سعيد أعراب : ” نجد فـي هذه المقامة ظلالا للمقامة الصيمرية لبديع الزمان الهمذاني ، وربما كان المؤلف متأثرا إلى حد ما بالمقامة الزهرية للمكلاتي” .
ذلك ما انتهى إليه تحليلنا لمقامة الطنجية باستثناء مقطعها الخامس ، تناولنا فيه دلالة المقامة فـي اللغة وفـي اصطلاح الأدباء ، وبما أنها ضرب من السرد البسيط ، مقصديتها التحدي الأدبي و إثبات الذات فقد عمدنا إلى تحليلها اعتمادا على بعض المقولات أو المكونات السردية .
نص المقامة :
حدثني نسيم بن رياض ، عن جدول بن حياض ، قال : لما دعاني داعي الشوق القاهر إلى النظر فـي محاسن الأزاهر ، أجبت داعيه مضمرا ، ولطاعته وامتثال أمره مظهرا ، فيممت روضا تأنقت الأنوار فـي حلل أزهاره ، وتدفقت الأنهار فـي ظل أشجاره ، وارتفعت طرف الطرف فـي زرابي الخمائل ، وبطاح رصعت يد الشمائل ، وتبسم بها ثغر الأقحوان الشقيق ، و انتظم نظم الدرر و العقيق ، وبكى الحمام بالدموع الغزار عند مخاصمة الشحرور و الهزار ، و خضع القضيب المتطاول ، عند انسلال سيوف الجداول و افتر الأقحوان عن ثغوره ، و فاح الروض بمنظوم زهره و منثوره ، لم لا يتواضع البنفسج تواضع الذليل ، و قد فخر عليه الخابور بالإكليل ، فبينما أنا طائف تحت سماء الأزهار ، فـي حدائق أذكرتني جنات تجري تحتها الأنهار ، وقد وقع بصري على فتية أحدقوا حداق السوار ، فـي خميلة من النوار ، يتسايقون جواهر الأشعار واللحون ، على ضفة نهر يزرى بسيحون وجيحون ، فدنوت مختفيا عن أبصارهم ، لالتقاط ما تساقط من أشجارهم وأخبارهم ، زاعما أني مطلع عليهم من حيث لا يبصرون ، فإذا بأحدهم أشرف علي ، فأيقنت أنهم رأوني وبعثوا إلي ، فقلت المرء على الاطلاع مجبول ، والعذر عند كرام الناس مقبول ، إنما جئت لا تسمع مطربات الأشعار ، لا لاهتك خفيات الأسرار ، فأقسم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لأرسلناك أو لتحضرن مجلس البدور ، فتقاعست تقاعس الفيل ، مخافة أن أزن بالتطفيل على المجلس الحفيل ، حتى إذا استيأسوا من الرسول ، و خافوا أن لا يظفروا بالسول ، انطلقوا إلى انطلاق الغزلان ، وكلهم يقول : مرحبا بالشيخ فلان ، فانطلقت إلى المجلس الباهر ، المحفوف بالأزاهر ، فتذاكرنا الأدب و خضنا فـي مجاله ، وذكر جماعة من فحول رجاله ، حتى إذا ما مد ثوب الأصفار ، على وشى البنفسج و العذار ، ورد علينا فتى تأبط شيئا تحت ثيابه ، فقال الكل : ما أبطأك ، وما أخطأك ، فقال : إن من يحاول إخراج الدفينة ، كمن يحاول وسق السفينة ، فكشف عن عروس ذات نقاب ، تخضع لنفحاتها الرقاب ، وقال : اغتنموا فرصة الطنجية ، قبل أن يضع الليل ثيابه الزنجية ، فقال لي بعضهم : هل استخرجت فيها من درر بحورك ، سيئا من منظومك و منثورك ، فجبت فـي ميدان الأدب وجلت ، ثم أنشدتهم و قلت : بنت الرماد يحيى بنفحاتها الجماد و لا تباع بإرم ذات العماد ، يا لها من صديقة ، تأوي إلى ربوة و حديقة ، و لا تحط نقابها ، إلا إذا أجمعت أحبائها ، ولا تخرج ما فـي بطنها ، إلا فـي أشرف موطنها ، لو استنشق رائحتها هشام ، لأتاها من بلاد الشام بدون احتشام ، و لو علم خبرها مروان ، لترك الجنود والأعوان ، وحضر مجلس الإخوان ، قد جمعت الأحبة عليها جمع سلامة ، دون عتاب ولا ملامة ، وجمع الخبز عليها جمع تكسير ، وجلبت لها الفواكه جلب تيسير ، ، فما أشبهها – لما أفرغت – بالذهب السائل ، ولله در القائل :
ألقت إلى القوم مــا أخفت بباطنها *** وفاح منها شذى يبري من العلل
إذا قال كل من الأقـــوام نرجمها *** ومزقوا لحمها من غير ما زلل
فأصبحوا ولسان الخبز ينشدهم : *** ” أنا الغريق فما خوفـي من البلل “