بقلم الأستاذ محمد الطوگي
من الأسباب التي دفعتنا إلى الكتابة المركزة في هذا الموضوع:
2- من الأسباب أيضا تلك الأمسية التي كرم فيها باحث حجة رهن حياته منذ الخمسينات بالأندلس، تاريخا وحضارة وسير أعلام، ولا أدري كيف عنّ لأحد المتدخلين، الانزياح عن مسيرة المكرم العلمية، موضوع الأمسية، والزج بالحضور في البربر ومفاخرهم. أو كلما ذكرت الأندلس إلا وحضر البربر ليكون معها تلك الثنائية المعهودة؟
خلصت من واقعة هذا التكريم العلمي المستحق، ومن تلك الدعوى أو البلية، متسائلا:
لماذا لا تزال شرذمة من أبناء جلدتنا يحنون بجنون إلى سلبيات أعراق العصر الوسيط؟ ألم ندخل بعد عصر الحداثة وما يحمل من قيم المواطنة؟ ألم نتجاوز العصبيات والاعتداد بالعلاقات العشائرية؟، ألم نطرح تلك البنية العتيقة للشخصية القائمة على مواصفات عفى عليها الزمان؟ ألم ندرك بعد أن لحمة وروابط هذا الوطن الحبيب الذي يجمعنا بجغرافيته وتاريخه القديم والوسيط والمعاصر والحديث هي لحمة أقوى من لحمة النسب والاثنية؟ وأن الدين الإسلامي الذي يوحدنا بثلاثيته؛ العقدية الأشعرية والمذهبية المالكية والأخلاقية التي نرى العالم من خلالها، هو عروة مقدسة متينة تزيد مبدأ المواطنة متانة وصلابة وانفتاحا على عوالم إنسانية أخرى؟ ألم يسبق للمختار السوسي، رحمه الله،أن حل هذه المعادلة بقوله: إن وطنيتي من ديني؟.
فلنعد عن هذا،ولنتقدم إلى موضوع أندلسنا،المحدد ابتداء بنهاية
من هم أولئك الذين أخرجوا من ديارهم وأجبروا على الهجرة من جنوب شبه الجزيرة الإيبرية – الأندلس-؟ من هم الذين تولوا نفيهم؟ ما هي دواعي الطرد والإبعاد؟ هل هجروا دفعة واحدة أو في شكل موجات؟ ما هي بلدان أو دول استقبالهم، وكيف استقبلوا وأدمجوا؟ ما أثر تلك الموجات المهاجرة على البلدان المستقبلة؟ وما الذي خسره البلد الطارد من جراء هذا النفي القسري؟. لننتقل بعد ذلك إلى نقد الترسبات التي يريد البعض أن يتخذها ذريعة للمفاضلة بين مكونات الهوية الوطنية المغربية.
ارتأينا ان يكون جوابنا على هذه المتوالية من الأسئلة انطلاقا من ترجمتنا لنص من كتاب الأندلس- أنطولوجيا Anthologie – AL-
جاء في خاتمة بحثهما الأنطولوجي:
“يعتبر سقوط غرناطة في يد الاسبان الكاتوليك نهاية للحكم الإسلامي في الأندلس، وغرناطة المنكوبة هذه لا تمثل كيانا سياسيا فحسب، بل هي في الوقت نفسه كيان حضاري وثقافي بامتياز، وبسقوطها من الناحية السياسية، فسيرحل معظم زخمها الحضاري ليستقر في المغرب العربي.
إن أول ما يصادفنا في مسلسل مأساة الطرد تراجع ملوك الكاتوليك عن الوفاء بماسمي بمعاهدة غرناطة التي وقعوها مع آخر ملوك بني الأحمر، والتي ضمنت للمسلمين، في آخر المطاف، المحافظة على أرواحهم وممتلكاتهم، واحترام معتقدهم الديني. وبنقضهم لهذا العهد استعجلوا الاستيلاء على الأرض ولا شيء غيرها.
وهكذا ففي 31 مارس 1492م عمدوا إلى طرد اليهود من شبه الجزيرة، وقد بلغ عدد المطرودين منهم مائة وخمسين ألفا 150.000، أخذوا كلهم سبيلهم نحو المنفى، أما المسلمون فلم يجر عليهم في البدء نفس المصير،نظرا لأن ملوك الاسبان تفطنوا إلى أن في إخراجهم إفراغا لمجال شاسع من الساكنة الناشطة،ومن اليد العاملة المؤهلة والحرفية الصناع؛ مما سيكون له أثر سيء على النواحي الفلاحية والصناعية والاجتماعية والاقتصادية؛ ولهذا استعاضوا عن الطرد الجماعي بالتدريجي؛ فضيقوا الخناق على المسلمين، وعملوا على حرمانهم من مجموعة من حقوقهم ومكتسباتهم، وأودعوا خلالهم حملات تمسيحية واسعة، كما عملوا على تشجيع نخبهم على الهجرة نحو شمال إفريقيا، وتبعا لذلك فهذا آخر أمير من أمراء بني الأحمر يغادر فردوسه المفقود نحو فاس في عشرة قوارب، وبصحبته ألف وثلاثمائة من أعلام الأندلس ما بين إطار وفقيه، إلى جانب أربعة آلاف 4000 من عامة أهل الأندلس.
وفي نونبر من سنة 1499، ثارت ساكنة غرناطة، وبرغم تذرع السلطة بجميع وسائل القمع لإعادة الأمور إلى نصابها، فإن المقاومة ظلت صامدة في نواحي غرناطة لغاية سنة 1501م.
وفي فبراير من السنة الموالية 1502 صدر مرسوم ملكي خير مسلمي قشتالة بين الدخول في المسيحية أو الهجرة، بينما تأخر تطبيق نفس المرسوم على ساكنة أركونة إلى سنة 1520م.
وبصفة عامة فقد خشي ملوك الكاتوليك من الذين تمسكوا بدينهم الإسلامي أن يؤثروا على من أكره فأظهر الارتداد، فضيقوا عليهم الخناق، مما جعل الكثير منهم يفضل الهجرة إلى شمال إفريقيا بدل مذلة الإقامة. ونتيجة لذلك فقد وصل عدد من اجتاز جبل طارق، فيما بين سنتي 1526-1570، مائتي ألف مهاجر. وبعد التخلص من مسلمي الأندلس شيئا فشيئا دارت الدائرة على الذين تمسحوا مكرهين وآثروا البقاء حتى يكونوا بنجوة مما حاق بالذين اعتصموا بدينهم علانية ولم يبغوا به بديلا.
لقد وسم هؤلاء المتمسحون ظاهريا بينما ظلت قلوبهم مطمئنة بالإيمان بالمورسكيين، واعتبرهم الاسبان مسيحين تقية ، وبما أنهم كانوا يشكون في نصرانيتهم، فقد تقرر التخلص منهم وطردهم بصفة نهائية في سنة 1609، وجدد هذا الطرد الملك فيليب الثاني في سنة 1614، وتبعا لذلك فإن موجة مكونة من مائة ألف نسمة 100.000 إضافية ستغادر الأندلس لتحط الرحال في الشمال الإفريقي.
لقد قدر بعض المؤرخين العدد الإجمالي للمهاجرين الأندلسين، بمختلف موجاته،بثمانمائة ألف نسمة.
نزحوا إلى شمال إفريقيا بتقنياتهم الفلاحية المعقدة، وخبراتهم المهنية الراقية التي ستتفاعل مع مهن بلدان الاستقبال؛ لتؤدي إلى ظهور ما سمي بالفن المغربي الأندلس” انتهى النص المترجم.
قدم هؤلاء المهاجرون إلى بلدان المغرب التي سبق لها أن تحملت في عز صولتها عبء الدفاع عن الأندلس، ومقاومة حملات الاسترداد الكاتوليكي فعلى سبيل المثال” نشرت أكاديمية المملكة المغربية ديوان ابن فركون، وقد تضمن مضامين تاريخية، وهي مضامين تعرف لأول مرة، وتكشف النقاب عن محنة دولة مجيدة هي دولة بني مرين التي قدمت الكثير لأهل الجزيرة اليتيمة، وضحت بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الإسلام بالفردوس المفقود”. ولكن عندما حم القضاء لم تجد بلدان الاستقبال أمامها سوى مكارمة المهاجرين حيث آوتهم وأكرمت وفادتهم، وطيبت خواطرهم، وأتاحت لهم جميع وسائل العيش الكريم، مما سلاهم نسبيا عن نكبتهم.
أشار العلامة المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب إلى دور الثقافة الأندلسية وأثرها في بلده في بداية القرن 17م، ويمكن مد ذلك الأثر إلى بقية بلدان المغرب العربي، وذكر أن الموجة الأولى التي اتجهت نحو تونس ترجع إلى فترة حكم عثمان داي (1595-1610) الذي ابتهج بوصول هؤلاء المنكوبين، فعرف كيف يؤنسن نفيهم. وحث الساكنة على إكرام وفادتهم إلى حد أنهم تسلوا عما قدر الله وقضى. كما تفضل هذا الداي فأقطعهم الأراضي التي وقع اختيارهم عليها والمماثلة لما ضاع منهم بالأندلس، وقدم للمحتاجين منهم الأموال والوسائل التي تتيح لهم عيشا كريما، لقد انتشر هؤلاء الأندلسيون في مجموع البلاد، فأنشأوا القرى والمداشر، وأحيوا الضيعات والبساتين والأراضي الموات وفجروا المياه وشقوا الترع، فاستعادت تلك المناطق التي كانت مهجورة حيويتها وازدهارها…. إضافة إلى ذلك فإن عدد منهم استقروا في حاضرة تونس في أحياء خططوها وحملت أسماءهم، كما استثمروا أموالهم في أسواق أحيوا بها مختلف الصناعات التي استضمروها و استصحبوها معهم، مثل صناعة، الشاشية- الطربوش- ونسج الحرير، والنحت على الرخام، والاشتغال على الجبص والزليج والخشب، وعلموا ساكنة البلاد من الأهالي أصول هذه الصنائع ومرنوهم عليها إلى أن أصبحوا بدورهم يمارسونها بنفس المهنية والإتقان. وبالجملة لقد استفادت البلاد من هذه الهجرة الأندلسية الشيء الكثير، حيث ساهمت في خلق ثراوات تنوعت مصادرها وانعكس أثرها على
– إن العنصر الأندلسي مُكٓوّن من بين مكونات الأمة المغربية، تفاعل جغرافيا وتاريخيا مع بقية المكونات التي أعطت هذا الشعب المغربي الأصيل، نعم بالامكان فرز بنية من بنى أي نظام Système بقصد الدراسة العلمية الموضوعية من غير مفاضلة أو نزوع إثني أو غيره، علما بأن البنية المدروسة لا تكتسي قيمتها ومصداقيتها إلا عندما تدخل في علاقة مع بقية بنى النظام، إذ لا يمكن فعلا فهم أي شيء من دون النظر إليه ضمن شبكة من العلاقات المتشعبة. فما أشبه المُكَوِّنات أو البُنَى بقطع فسيفساء تكمن أهميتها في تكاملها وتفاعلها وتناسقها وتعالقها فيما بينها في نظام؛ لترسم ذلك الجميل والجليل الذي هو الشعب المغربي الطيب.
وختماما نسوق نصا، يرجع إلى عشرينات القرن الماضي لقطب من أقطاب الاصلاح القائم على السلفية المغربية الحديثة يقول في نقده الذاتي:
” إن الشعب المغربي متركب من أربعة عناصر: هي العرب، والبربر والإسرائيلين كلهم من عنصر واحد، لأنهم جميعا امتهدوا في محيط واحد هو محيط البحر الأبيض المتوسط، وأن العنصر الرابع الذي يعتبر من سبايا إفريقيا أو مهاجريها، قد اختلط مع الثلاثة الأول إلى حد أنه لم يعد هنالك فرق في الذهنية العامة بين هؤلاء وأولئك.
وإذن يمكننا أن نحكم بعد ذلك بأن اتحادا نوعيا قد حصل في دائرة القومية المغربية التي لا تفرق بين البيض والسود. هذا من جهة الانصهار المقبول من كل العناصر الأربعة التي أصبحت جميعا تشعر بأنها مغربية صميمة. فإذا عدنا بهذه الجماعة المنصهرة جنسيا إلى ناحية الدين لم نجد إلا ما يؤكد التكوين القومي، لأن أغلبية الشعب المغربي تدين بالإسلام، بينما تدين أقلية لا تتعدى اثنين في المائة باليهودية، فإذا نحن بحثنا عن نسبة التوافق بين اليهود والمسلمين لم نجد هنالك فارقا عمليا، لأنه برغم ما يمكن أن يقع من تعصب واعتزاز، فإن مآل ذلك في الحقيقة إلى اعتداد راجع للدار الآخرة، أما العلاقات الاجتماعية فليس من مانع من أن يتوافق المواطنون على خلاف ديانتهم في خدمة القضية المغربية مثلا. إن القضية تتوقف فقط على شعور كل فرد بروح المواطنة، وتكوين وجدانها في نفسه، فإذا اتخذت لهذه الناحية أهبتها، أمكن لليهودية أن تؤيدها في ذهنية اليهود كما يفعل الإسلام عند المسلم سواء بسواء. وتتأكد هذه الوحدة بكون المسلمين كلهم على مذهب مالك في الأحكام والأشعري في الاعتقاد؛وإذن يمكننا أن نتنبأ بأنه ليس هنالك ما يجلب التخالف الاثني و الاعتقادي بين أفراد الجماعة المغربية”.