محمد الطوكي كلية الآداب – مراكش
إنَّ تَلَقِّينَا لِكتاب الله يختلف عن تلقي الأجناس الأدبية التي تغلب عليها وظيفة المتعة والمؤانسة. فالقرآن الكريم نص ديني من جنس آخر، فهو نسيج وحده، تحضر فيه الوظيفة البلاغية الجمالية؛ لكنها تتناغم وتنسجم مع أمتعة أسلوبية وحجاجية أخرى. إنه خطاب رباني تكليفي وظيفة المتلقي فيه تأثرية اقتناعية امتثالية. إنه يجيب على أسئلة أمَّة ؛ وهي أسئلة وجودية؛ كمشكلة الحَياة والمَوت وما بعدها والحرية والسعادة، وما يعرض للإنسان في هذه الحياة من صنوف الخطوب والابتلاء.
والقضية موضوع حديثنا عبارة عن آية كريمة جاءت معالجة لنفسية المومن متى حلت به نازلة ابتلاء؛ في النفس أو المال أو ما يحدث في الحياة من الكوارث بصفة عامة.
(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) سورة الحديد /22-23.
ومدخلنا لقراءة الآية سيكون من فعل -أصاب- الذي يرد في الخير والشر. قال سبحانه “إن تصبك حسنة تسُؤهم وإن تُصبك مُصيبة يقولوا قد أخذنا أمرَنا من قبلُ ويتولَّوا وهُم فـَرحُون” سورة آل عمران، الآية 50.
وقد ربط اللغويون الحقل الدلالي للإصابة بالخير بالصوب، أي المطر، أما ما كان من الشر، فمن باب الحقل الدلالي للإصابة بالسهم إذا وصل إلى المرمى ولم يخطئها. فالمصيبة بهذا المعنى الأليم أصلها من الرمية، ثم صرفت للدلالة على النوائب (1).
وقد بدد وعالج كتاب الله الأثر النفسي السلبي لما قد يحدث من النوائب بالرجوع إلى مكون من مكونات الرؤية الإسلامية، إنه الرضا بقضاء الله وقدره.
وإذا فما القضاء ؟ وما القدر ؟ وما دلالة اقترانهما معا ؟.
فالقضاء كما يقول ابن منظور.”الحكم. فكل ما أُحْكِم عمله أو أُتِم وختم فقد قُضي وانْتُهِيَ منه، ومنه القضاء المقرون بالقدر. والمراد بالقدر وقوع الحكم أي القضية أو الواقعة في ظرف زماني ومكاني معين. فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، ومن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه” (2). وقد عقد ابن القيم الباب الأول من كتابه القيم شفاء العليل، وعنونه بتقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض. ومما جاء فيه “إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلا، أنها كائنة في يوم كذا وكذا؛ في ساعة كذا وكذا؛ في الخاصة والعامة” (3).
وقد أَتبع سبحانه اختلاف المآسي على البشر بتسلية المؤمنين على ما قد ينزل بهم بالرضا بقضاء الله وقدره. فإذا رسخ هذا المبدأ في الذهن واستضمرته النفس وانعقد في القلب، لم يحزن المؤمن على ما فاته مما لا يستطيع دفعه، ومن أيقن أن ما عنده من نعمة دنيوية مفقودة يوما لا محالة، لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه (4) على ذلك.
وعن هذا المعنى صدر الشاعر العذري كُثَيِّر عَزَّة عندما أنشد :
فقلت لها يا عَزُّ كل مصيبة *** إذا وُطِّنت يوما لها النفس ذلَّتِ.
ومن باب التسلي عن الآفات مشاركة المُصاب وإحساسه وشعوره بتجاوب محيطه معه، وتفاعله وإياه وجدانيا وماديا، وهذه من القيم السامية التي حث عليها الإسلام. “عن النعمان بن بشير قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ترى المومنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى” (5).
وقد عبر الحديث عن قيمة المشاركة والتضامن بصورة بلاغية قائمة على تشبيه التمثيل. وقد جاءت موضحة لدلالة ثلاث كلمات ذات مرجعية نفسية وجدانية؛ تراحمهم، توادهم، تعاطفهم. وأخرج دلالتها من عالم الكمون إلى حيز المحسوس، ويرى البلاغيون أن تقديم المعاني في أحسن صورة يجعل المتلقين يجمعون بين المتع الجمالية والاقتناعية والنفعية، وتلك ميزة من مميزات الأسلوب الديني. قال المازري : “كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما تفهم، ويخرج لهم الأشياء المعنوية إلى الحس ليقرب تناولهم لها ” (6).
فالتضامن يمثل قمة الغيرية، حيث يخرج الكائن من خزي ودرك الفردانية ويسمو به نحو آفاق المحبة الإنسانية، وقد عبرت الخنساء عن أثر تلك المشاركة الوجدانية في نفس المصاب في مرثية لأخيها صخر قائلة :
أعزي النفس عنه بالتأسي
وقولها :
ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي
فالاعتقاد الجازم بقضاء الله وقدره مبدأ ديني وقيمة حضارية تخفف وتلطف مما قد ينزل. والمجتمع المتحضر يُعنى، من جملة ما يُعني به، بحل المشاكل النفسية لأعضائه.
فإذا كان ما قدر الله وقضى لا محالة واقع “فليس معنى ذلك أن يترك الإنسان السعي لنوال الخير واتقاء الشر قائلا : “إن الله كتب الأمور كلها في الأزل. فلم العمل ؟ ؛ لأن في هذا إفساد لما فطر عليه الناس، وأقام عليه نظام العالم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذين قالوا أفلا نتكل : “اعملوا فكل ميسر لما خُلق له” (7).
فالوجه الآخر لمقولة القضاء والقدر هو الحركة والعمل ونفع الآخرين، ولو في عز محك الابتلاء. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة – النخلة الصغيرة- ، فـإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها”(8). .
الإحـــالات :
– الراغب الأصفهاني : معجم مفردات ألفاظ القرآن، مادة ص.ي.ب.
2 – ابن منظور، مادة قضي.
3 – ابن القيم : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر. بعناية خالد عبد اللطيف دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة 1993، ص 28-29 .
4 – الطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير. سورة الحديد / 22-23، الجزء 27، ص 409 وما بعدها.
5 – البخاري : صحيح البخاري. كتاب الأدب. دار الكتب العلمية. الجزء السابع. ص 102.
6 – عبد الله صولة : الحجاج في القرآن، دار الفارابي- بيروت ، الطبعة الثانية2007 ص.489 . وهو عن التهامي نقرة الاتجاهات السنية والمعتزلية في تأويل القرآن . دار القلم 1982. ص 215.
7- ابن عاشور : نفسه، ص412 .
8 – رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني.