“أمير المؤمنين” لقب إسلامي جليل له أهمية كبرى ومغزى عميق، أول من لقب به من خلفاء الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد ما كان الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطلق عليه “خليفة رسول الله”.
واستمر لقب “أمير المؤمنين” سمة مميزة للخلفاء في العصور الإسلامية، وقد استعمل قادة المغرب في فترات استقلاله عن خلافة المشرق لقب “أمير المسلمين” حينا، ولقب “أمير المؤمنين” في أغلب الأحيان، ولم يقع أي اعتراض على استعمالهم لهذا اللقب، لأن المغرب منذ تلقى رسالة الإسلام الخالدة تولى نشرها في العالمين، وقام في عصوره الذهبية خلال عدة قرون بنصرة إخوانه المسلمين، والدفاع عنهم في رقعة واسعة من العالم تمتد عبر عدة أقطار في القارتين الأوربية والإفريقية، وكان للمغرب في عهوده الزاهرة أسطول قوي يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط ويفرض احترام المسلمين ومهابتهم، كما كان له جيش قوي مشبع بروح الجهاد في سبيل الله، والتضحية بالنفس والنفيس من أجل عزة الإسلام وعزة المسلمين.
ورغما عما أصاب المد الإسلامي المغربي من جزر وانحسار فقد بقي ملوك المغرب محتفظين بلقب “أمير المؤمنين” لا يبغون به بديلا، نظرا لأن المغرب هو الحصن الإسلامي الأول “لدار الإسلام” الذي وضعته الأقدار في خط المواجهة مع العالم المسيحي وجها لوجه طيلة قرون عديدة، الأمر الذي جعل اسم “المغرب” كلما جرى على ألسنة المسلمين وغيرهم – مرادفا لمعنى “الإسلام المجاهد الصامد” الواقف بالمرصاد لرد الهجمات الصليبية والغزوات الاستعمارية.
يضاف إلى ذلك أن تمسك المغرب باستقلاله، منذ نشأت دولته المستقلة في عهد إدريس الأول، لم يكن يمسح له بالانطواء تحت جناح أية سلطة خارجية كيفما كانت صبغتها، بما في ذلك الخلافة العثمانية التي امتد نفوذها إلى المغربين الأدنى والأوسط، بل كان يرى في عراقة تاريخه، وعصامية دوله، وأهمية الدور الرئيسي الذي قام به في خدمة الإسلام، وزعامته السياسية التي سجلها التاريخ ردحا طويلا من الزمن في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي، ما يجعله جديرا بالحرص على الاحتفاظ بلقب “أمير المؤمنين” لرؤسائه الميامين، ولاسيما منذ أن عادت مقاليد الحكم في المغرب – كما بدأت – إلى أيدي الأشراف من آل البيت الطاهر.
استعمال هذا اللقب على عهد الملوك العلويين
وهكذا استمر ملوك الدولة العلوية الشريفة، من آل علي الشريف محتفظين بهذا اللقب المنيف، أبا عن جد، معتزين به، عاملين على إبرازه، لا فرق في ذلك بين مخاطباتهم اليومية، ووثائقهم الرسمية، وعلاقاتهم الدولية، من غير أن ينازعهم فيه منازع، لا من الأقارب ولا من الأجانب، ولا يوجد بين بقية رؤساء المسلمين في هذا العصر من يدعي هذا اللقب أو يدعى له.
وإذا كان الملوك العلويون قد احتفظوا لأنفسهم بهذا اللقب فإنهم لم يكتفوا بحمله على أنه مجرد “لقب تشريف” وإنما حملوه وتعاملوا معه على أنه “لقب تكليف” قبل أن يكون لقب تشريف، فقد كرسوا كافة جهودهم للوفاء بالتزاماته، والقيام بمسؤولياته، وأول تلك الالتزامات التي وفوا بها: الحفاظ على معالم الدين، والدفاع عن حرمات المسلمين، وحفظ الطابع الأصيل لهذا البلد الأمين، وأول تلك المسؤوليات التي تحملوا عبئها: حماية حمى المغرب من هجمات الأعداء وتحرير ثغوره من أيدي الغزاة الدخلاء، فقد كانت نشأة الدولة العلوية الشريفة، ومبايعتها من طرف الشعب المغربي الأبي، مزامنة لفترة المد الاستعماري في العالم الإسلامي شرقا وغربا، وهي فترة الهجمة الأوربية الطاغية على أطراف العالم، وكانت تلك الفترة بالذات من أشد الفترات خطرا على المغرب المسلم، ومصير المغاربة المسلمين، إذ من الناحية الداخلية كانت أخطار التجربة الأندلسية البغيضة التي سبق أن قام بها ملوك الطوائف بالأندلس قد استشرى داؤها، واستفحل شرها بسهول المغرب وجباله، مما هدد وحدة المغرب الدينية والوطنية بالغ التهديد، ومن الناحية الخارجية كانت الهجمات الصليبية والغارات الاستعمارية قد تمكنت من احتلال أهم الثغور والموانئ المغربية، لا فرق بين ثغور الشمال المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وثغور الغرب والجنوب المطلة على المحيط الأطلسي، مما هدد سيادة المغرب القومية بالزوال، ووحدته الترابية بالبتر والانفصال، فما كان من “أمراء المؤمنين” العلويين الأشراف – منذ بداية عهدهم – إلا أن أعلنوا النفير العام والتعبئة العامة بين المغاربة أجمعين، وقادوا حملات المجاهدين، الحملة تلو الحملة، ضد الغزاة المغيرين، وما منهم أحد إلا وقد سجل له التاريخ بأحرف من نور عمله على استرداد ثغر أو عدة ثغور، ولما غيرت أوروبا طريقتها في السيطرة على العالم واستبدلت بالغزو المباشر والعدوان المكشوف سياسة التدخل في الشؤون الداخلية، والتوغل عن طريق الامتيازات الأجنبية، ثم بسط الحماية الدولية، تصدى لها أمراء المؤمنين من آل علي الأشراف بالمقاومة السياسية في الداخل والمقاومة الدبلوماسية في الخارج، مع تشجيع المقاومة الشعبية، السرية والعلنية، مما جعل الحق المغربي ينتصر ويعود، والسلطة الشرعية تتحرر من كل القيود، وهكذا كان الملوك العلويون “يستصوبون الإقدام، كلما دعت المصلحة العامة إلى الجرأة والشجاعة، ويستحسنون الأناة والتربص بالظرف المناسب والفرصة المواتية، متى أهابت الرؤية بالتريث والإمهال” (1)
اعتزاز الحسن الثاني بهذا اللقب
والآن وقد اتضح المغزى الديني والسياسي والوطني لاحتفاظ الدولة العلوية الشريفة، بلقب “أمير المؤمنين” ضمن تقاليدها الإسلامية الراسخة، وتبين ما قامت به من التزامات، وما تحملته من مسؤوليات، احتراما ووفاء لذلك اللقب، نرى من المناسب أن نقدم بعض الأمثلة والشواهد على استمرار نفس المغزى ونفس المفهوم، اقتباسا من سيرة الجالس على عرش المغرب، في هذه الحقبة الحاسمة من التاريخ “أمير المؤمنين” الحسن الثاني (الحسن بن محمد بن يوسف بن الحسن) أيده الله ونصره، فهذا الملك المغربي المسلم قد سار على قدم أسلافه الكرام في الاعتزاز بهذا اللقب، والوفاء بالتزاماته، والقيام بمسؤولياته على أوسع نطاق، وقد أعده لذلك المنصب السامي – منذ نعومة أظفاره – فقيد العروبة والإسلام، “أب المغرب الحديث” جلالة والده المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، بتربيته على يده تربية إسلامية مثالية، وتلقينه أصول العلم الشريف على يد نخبة من كبار العلماء بمملكته، مثل الشيخ المحدث المشارك سيدي محمد المدني بن الحسني، والسادة الفقهاء الأجلاء عبد الرحمان الشفشاوني، والطايع ابن الحاج، وعبد الرحمان بن عبد النبي، وعبد الواحد العلوي، وأمثالهم ممن هم في طبقتهم، وكانت دروسهم يمتزج فيها التلقين بالسؤال والمناقشة والمذاكرة والمحاورة، وفيها من كل فن طرف (2) ثم واصل تثقيف نفسه بنفسه في مجال الدراسات الدينية والعربية عن طريق المطالعة والبحث، إلى جانب دراسته الجامعية القانونية بعصامية وألمعية، وذكاء وعبقرية.
وفي الفترة الأخيرة من حياة والده الهمام ارتأت الأحزاب الوطنية بالمغرب من المناسب أن تلتمس من جلالة والده تنصيبه “وليا للعهد” بصفة نهائية، رسمية وشعبية، وذلك بعد النجاح الباهر الذي ناله في المهام الكبرى التي وكلها إليه جلالة والده حاضرا وغائبا، فما كان من والده إلا أن وافق على ذلك الملتمس، وكتب إليه بصفته “وليا للعهد” وصية جامعة أعلنها إلى الشعب في يوم مشهود، عند تنصيبه لذلك المنصب الرفيع، ومما جاء في تلك الوصية قوله: (إياك يا بني أن تحيد عن صراط الإسلام القويم، أو تتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه لا عدة في الشدائد كالإيمان، ولا حيلة في المحافل كالتقوى، واعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وتقرب منه بالأعمال الصالحة ذراعا يتقرب منك توفيقه باعا، واجعل القرآن المصباح الذي تستضيء به إذا ادهلمت الدياجي واشتبكت عليك السبل، وليكن لك في رسول الله وصالحي الخلفاء أسوة حسنة – أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، ولم ينتقل والده إلى رحمة الله حتى كانت جميع المؤهلات لاعتلائه العرش، وحمله لقب “أمير المؤمنين” بصفته “ملكا مؤمنا” جديرا بثقة شعبه ومحبته متوافرة عنده، بشكل بارز يقر به الجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فقرات مقتبسة من خطاب العرش بتاريخ 3 مارس 1974
(2) اقرأ خطاب جلالته أمام العلماء وعمداء الكليات بقصره في مراكش يوم الجمعة 14 ربيع الأول 1400 موافق فاتح فبراير 1980
محمد المكي الناصري / دعوة الحق