الصفحة الرئيسيةأخبار

بدأت منذ المرينيين كل جمعة.. دلالة الكتب بمراكش كما عايشتها المراكشية في التسعينيات

المراكشية : استطلاع محمد المبارك البومسهولي (أرشيف)

دلالة الكتب
….. توجهنا إلى مدرسة بن يوسف لندخل إلى الجامع المقابل .. ولجنا بهوا مفتوحا على الفضاء فرش فيه حصير ممزق يجلس عليه آدميون من مختلف الأعمار .. شباب وشيوخ أساتذة جامعيون , طلبة , تلاميذ , صناع , حرفيون .. يوحد بينهم عشق الكتاب ..بعضهم يضع كتبا أمامه في انتظار ساعة انطلاق الدلالة .. خِلت أن الزمن قد عاد بي قرونا إلى الوراء عندما كانت مدينة قرطبة الأندلسية في عهد الحاجب المنصور محمد ابن أبي عامر محجا لطلبة العلم من كل حدب وصوب وكان التنافس على أشده حول الكتب على شاكلة الدلالة التي نشاهدها اليوم بمراكش ..

الطريقة التي كانت عليها دلالة الكتب في مراكش كما حاكتها إحدى الفنانات

يقول أمين الدلالين مصطفى بلعمام :
دلالة الكتب لا يعرف لها تاريخ محدد , إذ تتضارب الروايات حول هذا الأمر حيث يقال أنها ابتدأت منذ عهد المرينيين .. ويقال كذلك إنها انطلقت منذ عهد المرابطين أمام الجامع الذي بنيت مكانه الكتبية، وانتقلت هذه العادة إلى أبواب كل المساجد الأساسية بمراكش بعد صلاة العصر من كل جمعة .. والثابت لدينا أن أول سوق للدلالة أقيم داخل ساحة مدرسة بن يوسف العتيقة إلى أن أصبحت مزارا سياحيا .. ويروج أنها كانت تقام في سوق الطالعة .. أما الآن فتقام بمدخل مسجد ابن يوسف العتيق ..
للدلالة طقوسها الخاصة حيث تتم على الشكل التالي : يدخل الناس إلى بهو مسجد بن يوسف الذي خصصته نظارة الأوقاف للكتبيين لينظموا فيه دلالة الكتب كل جمعة بعد صلاة العصر .. وتنطلق بقراءة الفاتحة والدعاء لجلالة الملك .. من طرف أمين الدلالين .
باب الله
ينطلق الدلال بعد الفاتحة ليحمل في يديه كتبا ويطوف بها حول الجالسين على الحصير أو الواقفين بمحاذاة الجدار ويقول : لقد حدد الثمن الافتتاحي لهذا الكتاب في القدر الفلاني , هل من مزايد ؟ …
يومها شاهدت شبانا يقومون بعملية عرض الكتب ويجوبون بها حول رواد الدلالة , لكن من يحدد الثمن الافتتاحي ؟ سؤال انتصبت علامة استفهامه أمامي وأنا أتأمل عملية الدلالة إلا أنني انتبهت إلى شخص كان يجلس القرفصاء وهو يضع على رأسه قلنسوة ( قبعة ) تسلم له الكتب قبل آن تعرض على الدلالة .. واكتشفت أنه خبير بتقويم الكتب و بالتالي هو الذي يحدد الثمن الافتتاحي الذي تتم عليه المزايدة ..
ينادي الدلال
كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني , ب : 500 ريال .. هل من مزايد ؟ ويسلم الكتاب لمن يرغب في شرائه أو المزايدة عليه .. حيث يضيف هذا درهمين ونصف أو ثلاثة , وهكذا دواليك إلى أن يرسو الثمن على آخر مزايد , وقد لاتصل المزايدة إلى الثمن الذي يرغب فيه صاحب الكتاب .. أحيانا يقول الدلال : كتاب كذا ( ما عطى الله ) هذه الكلمة تعني أن هذا الكتاب ينقصه جزء أو أكثر وأحيانا تنقصه بعض الصفحات .. وبالتالي فالراغب في الكتاب عندما يزايد يعرف مسبقا أن الكتاب ناقص .. ويحكي عن الدلالة قديما أن بعض الكتبيين كانوا يمسكون عن المزايدة في أي كتاب يزايد فيه تلميذ أو طالب حتى لا يرتفع ثمن الكتاب ويعجز عن اقتنائه .
الإنجيل في المزايدة
إذا ما ذهبت إلى سوق دلالة الكتب فكن مستعدا لمصادفة جميع الأصناف من الكتب وإن كان يغلب عليها كتب الفقهيات لكن في تلك العشية اكتشفت أمرا مهما فهناك من يأتي ببعض الكتب دون أن يدري ماهي .. وأحيانا تختلط ببعض المجلات والوثائق .. فإما أن أحدا أراد أن يتخلص منها بعدما احتلت مكانا مهما في بيته وإما أنه سمع أن أي شيء يتشكل على هيئة كتاب إلا ويباع بهذه الدلالة .. فقد فوجئنا بكتاب الإنجيل يتخذ موقعه في الدلالة رفقة مجموعة من الكتب مع العلم أن المسيطرين على دلالة الكتب حاليا هم بعض المتدينين , فكيف تم عرضه ضمن مجموعة من الكتب ؟ أم أن الأمر تحول إلى سوق جوطية كما وصف ذلك محمد بنعبد الله في شهادته ( انظر مكانا آخر ) .
مخطوط بماء الذهب بثلاثة ملايين
يقول أحد رواد الدلالة القدماء : كان يصعب عليك أن تجد موطئ قدم .. وكانت العديد من الكتب وفي مختلف الفنون والعلوم من فقه وفلك وفلسفة ورياضيات وشعر وقصة ورواية .. أما الآن فلم تعد سوى الكتب الفقهية ..
أثناء زيارتنا للدلالة تساءلت عن المخطوطات وحضورها في المزايدة فقيل لي بأنها تعرض بين الحين والآخر وأن أشهر مخطوط بيع في هذه الدلالة هو صحيح البخاري كتبت عناوينه بماء الذهب وبخط مغربي أصيل وجميل وقد أرسي عليه المزاد بثلاثة ملايين من السنتيمات .. الآن نادرا ما تعرض مثل هذه المخطوطات هنا بما فيها الكتب ذات الطباعة الحجرية .
عشق حتى الثمالة
من صور العشق المراكشي للكتاب والتفاني في حبه على حدود ركوب أقصى درجات الإيثار , ما رواه لنا بعض تلامذة وطلبة الفقيه المرحوم عمر بن اسماعيل حيث حكوا أنه في عز الشتاء حيث تتجمد الأطراف والأبدان .. وقع بصر السي عمر على كتاب في الدلالة فبادر على التو إلى سوق لبيع الملابس المستعملة وقدم برنسه (سلهام ) للبيع ليعود بسرعة ويشتري الكتاب من ثمنه فرحا مسرورا كمن حقق غاية لا ترام و إن اصطكت أسنانه من شدة البرد ..
الدلالة السرية
الدلالة لم تعد كما كانت .. هذا ما قاله لنا الكتبي القديم بلهاشمي , ويضيف : في الماضي كانت تأتي الكتب ولا نعرف من أين تأتي ( كان العجب العجاب ) لكن اليوم فقدت رونقها بعدما توقف الكثيرون عن ارتيادها .. هذا الأمر يزكيه الكتبي المعروف عمر زويتة صاحب مكتبة الوعي الذي تم استنطاقه في بداية السبعينات من طرف البوليس بسبب ترويجه لكتاب (أفكار ضد الرصاص ) للويس عوض .. تألم كثيرا لأن الدلالة أصبحت مجرد فضاء يعبث به البعض بعدما هجرها المثقفون والعلماء وأصبحت تروج فقط لكتب محدودة ولا تستقطب إلا شريحة محددة
هذا الأمر دفع البعض إلى تنظيم ( دلالات ) أخرى ولكن بشكل سري داخل البيوت , خصوصا إذا تعلق الأمر ببيع مكتبة أو خزانة بعض الأسر العريقة والتي تتسبب نزاعات الوراثة في اختلافات تفضي في النهاية إلى بيع كنوز ثمينة ..
ويسيطر عليها السماسرة والمتاجرون في الكتب ممن يجعلونها مجرد بضع سياحية ومصدر للربح وبالتالي تضيع هذه الكتب ومنها المخطوطات القديمة والنادرة ..
أيها المثقفون قدموا استقالتكم
( من صلى على النبي يربح الله يرحم من زار وخفف ) بهذه العبارة يعلن أمين الدلالين عن اختتام دلالة الكتب .. هذا الموروث الحضاري المتميز يعاني الآن من عدة أدواء أخطرها أن المثقفين هاجروها وفضلوا التسمر على كراسي المقاهي فاتحين المجال لشريحة معينة تروج فيها كتب معينة وبالتالي لم يعد هناك وجود لكتب الفكر والفلسفة والسياسة والإبداعات الجادة , في مختلف صنوف الأدب بهذه الدلالة لذلك أدعو هؤلاء إلى تقديم استقالتهم من المقاهي والالتحاق بالدلالة عصر كل جمعة , علنا نعيد إليها إشعاعها الحضاري وبعده يعود من أراد إلى رشف كؤوسه .

arArabic