بقلم ذ. محمد الطوگي / كلية آداب مراكش
يتجدد تلقي عمل عبد الله إبراهيم، بعد ستين سنة من نشره بالعربية، بتجدد ترجمة الأستاذ حسن بن عدي إياه إلى اللغة الفرنسية. لقد وجد فيه المترجم نفسه، وكما قال : تماهت تجربته السياسية مع تجربة المؤلف، وأنه راهن بهذه الترجمة الماتعة على قراء مفترضين ؛ وهم طبقة ذات نفوذ لا تتواصل باللغة العربية. والواقع أن ترجمة الأستاذ ابن عدي، في نظرنا، مفيدة بالنسبة لقارئ الأصل العربي أيضا، إنها أيضا متضمنة للوظيفة ما فوق لغوية، أي أنها شارحة ومفسرة لكثافة وقلق العبارة العربية، الناجمة عن زخم الأفكار المتناسلة في ذهن المؤلِّف، وازدحامها على أسلة قلمه أثناء الكتابة، هذا إلى جانب إيثار المؤلف لأسلوب الإيجاز على البسط والإطناب، فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. ومن ذا يكون أعلم بتأويلها من المترجم الذي هو على دراية، كما يقول المثل العربي – بعجر المؤلِّف وبجره، وعلاقته به علاقة المريد بشيخه.
إن صمود وسط الإعصار حامل لهم وطني ثقيل شبيه بذلك الذي ناء به النقد الذاتي لعلال الفاسي، ومذكرات حياة وجهاد لمحمد بن حسن الوزاني، تواشج فيه الجنس الأدبي السير ذاتي بإشكالات تاريخية كبرى حارقة، لا تقف عند المغرب بل تتجاوزه إلى المغرب العربي الكبير.
وسنقارب مضمونه بطريقة عامة وموجزة، انطلاقا من مقولة الصدمة التي اكتست عند عبد الله إبراهيم صبغة مصطلح إجرائي خاص به.
فالصدمة التي رأى من خلالها تاريخ المغرب الحديث مزدوجة وتتمثل في :
1- صدمة الاستعمارالتي انتهت بانهيار نظام الاستعمار واسترجاع المغرب لاستقلاله. ويعتبر عبد الله إبراهيم من الفاعلين العضويين في هذه المرحلة والشاهدين عليها .
2- صدمة الغرب المتمثلة في ثقافة الأنوار التي لم يتح لسَناها، من وجهة نظره، أن تسطع على العقلية والمسلكية المغربية. وسيستفيد عبد الله إبراهيم من هذه الصدمة التي ستكسبه، كما يقول ابن خلدون، عقلا جديدا، أثناء رحلته إلى فرنسا سنة 1945 “مدفوعا بأسباب ذاتية وأسباب موضوعية شخصية ؛ اقتضتها مصلحة الحزب والعمل الوطني” (1)
ولنا أن نضيف صدمة ثالثة نعتبرها من بين دوافع كتابة العمل، اقترحنا لها صدمة الاستوزار. فقد باشرعبد الله إبراهيم تدبير الشأن العام ؛ بصفته وزيرا للأنباء، فوزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية، فرئيسا للحكومة ووزيرا لخارجيتها، “وهي أول حكومة وطنية قامت باتخاذ إجراءات تحررية وتنموية جريئة ” (2).
وكان مثله في هذه الرئاسة مثل ربان سفينة وسط الإعصار “أمسك بدقة قيادتها في بحر لجي متلاطم الأمواج ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ” (3).
وأخيرا قدر الله وقضى أن تقال حكومته التي لم تعمر أكثر من ثمانية عشر شهرا بدايتها في 24 دجنبر 1958.
بعد هذه التجربة الغنية والقاسية في نفس الوقت، والتي لم يقدر لفصولها أن تتم، سيترجل الفارس (4) ليتفرغ للمعارضة السياسية ؛ بصفته أمينا عاما لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما ستنصرف همته، فيما بعد، للثقافة والتدريس بالجامعة المغربية ؛ مساهما في تكوين وتأطير أجيال من الطلبة الباحثين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وقد اتسمت شخصيته في هذه المرحلة بنوع من القلق الوجودي من مظاهره تلك الحيرة الابستمولوجية المسائلة للإنكسارات البنوية التي دمغت مختلف الحقب التاريخية للمغرب الكبير. ويتعجب من حال أمة تحرص كل الحرص على البدايات وتقعد بها الهمة عن استمراء طعم النهايات. وفي مقابل ذلك الانكسار يلاحظ أن التاريخ الأوروبي، لا يعرف مثل تلك الانكسارات بل يسير في خط مستقيم. كل مرحلة سابقة تفضي إلى أخرى لاحقة متطورة ومختلفة نوعيا عن سابقتها.
وقد أسلمه ألم تلك الحيرة الابستمولوجية إلى التأمل وإعمال النظر في الوقائع التاريخية للمغرب الكبير من أقدم قديمها إلى العصر الحديث “لاستخلاص قواعد عامة للمنطق الذي كانت تسير بمقتضاه تلك الأحداث، كما ترسمها وتفسرها العناصر الجدلية في حركة تاريخ المغرب الكبير منذ ثلاث آلاف عام” (5).
وقد رصد الأستاذ أحمد التوفيق أثر تلك الصدمة وجدانيا في عمل عبد الله إبراهيم عندما قارن بينه وبين مُؤلَّف حامل لنفس الهم لمؤرخ محترف وازن عندما قال : “فإذا وضعنا جانبا التركيب الذي كتبه الأستاذ عبد الله العروي عن تاريخ المغرب الكبير من وجهة نظر المؤرخ المحترف فإن كتاب، صمود وسط الإعصار لعبد الله إبراهيم يضع صورة مقابلة للمؤرخ المتحمس السياسي صاحب الجذوة والشعلة التي لا تنطفئ، والذي يقرأ الماضي بدالة الحاضر والمستقبل، وهو واع بأن الحاضر والمستقبل لا يمكن قراءتهما بدون قراءة ملتزمة للماضي” (6).
إن ما أسماه الأستاذ أحمد توفيق بالحماس والجذوة والشعلة المحيلة على الذاتية، هي في نظر عبد الله إبراهيم سر من أسرار الحياة ومظهر من مظاهر الفكر الخلاق يقول في مقالة له بعنوان – جيل انتحر مثقفوه – “الحياة تيار من المغامرات الوجدانية الدخيلة التي بدونها ليس هناك فكر بالنسبة للفرد”(7). ولا شك أن لهذه الرؤيا مرجعيتها الفلسفية.
إن صمود وسط الإعصار هو كتاب الرجل استراتيجي، فهو خلاصة فكره، وأن أعماله الأخرى تدور حوله موسعة لمجمله وشارحة للمحه وإشاراته. إن قارئه أصلا وترجمة يخرج منه بمجموعة من الإشكالات وبرثـَل من الأسئلة الجوهرية الموضوعة وضعا جيدا. وقد قاربها المؤلف بآليات تخلص في نظره، من العوائق والمثبطات. ومن جملة ما تذرع به في تأويل الوقائع والأحداث فلسفة هيجل، الأثير عنده، والمادية التاريخية.
وعلى كل حال فإن تأويل عبد الله إبراهيم، يعد من التأويلات الممكنة التي تبقى مفتوحة على مقاربات أخرى، خاصة إعمال ما انتهت إليه العلوم الإنسانية المعاصرة.
إحــــــــالات :
موضوع اللقاء : ترجمة الأستاذ حسن بن عدي لكتاب صمود وسط الإعصار لعبد الله إبراهيم. تقديم الأستاذ محمد موهوب. وقد تميزت هذه الأمسية بمتابعة الدكتور حسن أحبيض، رئيس جامعة القاضي عياض، لعروضها ومناقشتها.
احتضنت هذا اللقاء الدارة البهيجة – فيلا- الأسرة الكريمة للدكتور شكيب بن فضيل، ولا غرابة في هذه الاستضافة الكريمة، فالعلاقة بين عبد الله إبراهيم وآل ابن فضيل مرتبطة لحمة وسدى بالعلم والوطنية والتربية. ثم إن منتدى أو صالون آل ابن فضيل الأدبي من الأصالة بمكان، إذ يرجع تاريخه إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وهو من حسنات العلامة سيدي أحمد بن فضيل (ت1948)، جد المضيف، وقد حافظ عليه ابنه العالم الجليل المرحوم بعفو الله سيدي عبد الرحمن، وهاهو ذا الحفيد الدكتور شكيب يستصحبه ويتعهده بمزيد من العناية وذلك بتخصيص جناح جميل من دارته – فيلا – الأنيقة للقاءات العلمية الجادة.
1- محمد محيي : عبد الله ابراهيم ، مطبعة يوسف للطباعة، 2008، ص 41.
2- نفسه ، ص 131 .
3- نفسه، ص 141 .
4- المثل العربي “أو ما آن لهذا الفارس أن يترجل”.
5- عبد الله إبراهيم : صمود وسط الإعصار، مطبعة دار المناهل وزارة الثقافة، الطبعة الرابعة 2016 ، ص 73 .
6 – في أربعينية رحيل عبد الله إبراهيم : عبد الله إبراهيم فكر سياسة أخلاق، مطبعة سوما كرام، البيضاء 2006 ، ص 45.
7- عبد الله إبراهيم : جيل انتحر مثقفوه، انظر المقالة بتمامها في كتاب النص والواقع للدكتور محمد – فتحا – جاري، المطبعة الوطنية، مراكش، ص 111.
ص 111.