بقلم سعيد بوخليط
بمجرَّد ذكر اسم رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، تحضر فورا إحالة مكتملة دون قيد و لاشرط صوب كينونة عَلَم ثان، أقصد حنظلة رفيق دربه أو بالأحرى توأم روحه، بكل زخمه الكبير؛ فنيا، نضاليا، فكريا، قيميا.
لذلك، تختزل مختلف أعمال الفنان العلي ورحلة حياته النضالية ثم طريقة اغتياله المؤلمة والمريبة،إلى هوية أيقونة طفل مذهل جدا، تمرَّدت ولادته منذ أولى لحظات الولادة، على مفهوم الولادات المعلومة، لأنه أبدى رفضه المبدئي حيال ظلم عالم يعيش خلاله الفرد مشرَّدا عن وطنه،محروما من كنه هذا الوطن، بين طيات عذوبة حضن احتضانه.
قسوة عالم بهذه الشاكلة،أرغمت الطفل حنظلة منذ أن وعى حضوره، كي يحيا بطريقة مختلفة عن وضعية الجميع المسماة طبيعية،بحيث أدار ظهره تماما لهذا الجميع، منصرفا دون اكتراث،وجسده عاريا،حافي القدمين،دون أن يقف أحد قط بعدها على قسمات وجهه.
مقابل الإقرار الأول، بنفس ذات الكثافة، ما إن يجري على اللسان نعت حنظلة، تتجلى تَوَّا معالم شخصية ناجي العلي،ثم تراجيدية واقع فلسطيني عربي، تمدَّد نطاقه باستمرار على أسِّ الهزيمة، أنساق وأجيال تجترُّ اجترارا سرديات خيبات الهزائم.
إذن، من يحدِّد هوية الآخر:ناجي العلي/ حنظلة، أم حنظلة/ ناجي العلي؟
ناجي العلي،خالق حنظلة وباعثه إلى الحياة، يصف مخلوقه الأسطوري قائلا :”قدمته للقرَّاء وأسميته حنظلة،كرمز للمرَارة.في البداية قدمته كطفل فلسطيني،لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفقه القومي ثم أفق كوني وإنساني. وفي المراحل الأولى، رسمته ملتقيا وجها لوجه مع الناس،وكان يحمل الكلاشينكوف،وكان أيضا دائم الحركة وفاعلا وله دور حقيقي، يناقش باللغة العربية والانجليزية، بل أكثر من ذلك فقد كان يلعب الكاراتيه، يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة… سيظل في العاشرة حتى يعود الوطن. عندها فقط يكبر حنظلة،ويبدأ في النمو.قوانين الطبيعة المعروفة لاتطبق عليه، إنه استثناء، لأنَّ فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمور طبيعية حين يعود الوطن”.
ربما شهرة حنظلة،احتوت بكيفية ما الاسم الأول، أي الطفل الفلسطيني ناجي سليم حسين العلي المزداد سنة 1937، في قرية الشجرة بمنطقة الخليل.سنة 1948،أولى بواكير تاريخ النكبة والتشرد والمنافي والمخيمات، هاجر رفقة أسرته صوب جنوب لبنان،كي يعيش في مخيم عين الحلوة جنوب لبنان.خلال تلك الفترة اعتقل من طرف الجيش الإسرائيلي،بسبب أنشطته الرافضة للاحتلال واقتيد وجهة غياهب الزنازين،حيث تعلَّم عبر التخطيط على جدرانها أولى خيوط الرسم.بعد سنوات المدرسة الابتدائية،انتقل إلى مدرسة مهنية في طرابلس كي يحصل على شهادة لميكانيكا السيارات.
ناجي العلي الذي صنَّفته صحيفة يابانية ضمن قائمة أشهر رسامي الكاريكاتير العالميين،انطلق فعليا مشروعه الفني الموصول بنيويا دون فكاك بالقضية الفلسطينية عام 1961 بفضل تقدير بنَّاء من طرف غسان كنفاني،عندما اكتشف صاحب رواية رجال في الشمس،لأول مرة ثلاثة أعمال أنجزها العلي،فشكَّل الأمر انطلاقة عمله في الصحافة؛تحديدا مجلة الحرية التي نشرت له صورة خيمة تعلو قمتها يد تلوِّح.سنة 1963،انتقل إلى الكويت لمواصلة العمل في منابر الصحافة ثم بعد ذلك لندن،حيث ترسَّخ اسمه بقوة ولفظ أنفاسه الأخيرة على أسِرَّة إحدى مستشفياتها ودفن في مقبرتها بروكود يوم 29 أغسطس1987،بعد أن أطلق عليه شخص مجهول يوم 22 يوليو رصاصة نحو رأسه في شارع إيفز جنوب غرب لندن،تتويجا لسلسلة تهديدات توزعت مصادرها بين الموساد،منظمة التحرير الفلسطينية، وكذا أجهزة النظم العربية.
ترك ناجي العلي نتاجا نوعيا،بلغ أربعين ألف لوحة كاريكاتير،سَخَّر جل موضوعاتها قصد السخرية من ديكتاتوريات المنطقة،وكذا توجُّهات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات.تراث،توَّجه الاتحاد الدولي لناشري الصحف سنة 1988بجائزة”قلم الحرية الذهبي”،ويعتبر أول رسام عربي يحظى بهذا التكريم.
أقول،رغم مختلف ذلك،ربما أضحى العلي مستلَبا من طرف حنظلة ومرتبطا بزخمه،جراء نداءات مافوق الوعي التي بلورها تجلِّي مقوِّمات فكرة الطفل ومدى عمق دلالات انبجاسه المادي والروحي.هكذا،تتبدَّى حقيقة الفن الملهم للخلود والسمو،الذي يستشرف مختلف مرتكزات الماهية الإنسانية كي يبدع،فيدوم ذاك الإبداع حيّا مابقي الإنسان إنسانا حقا فوق هذه الأرض.
ظهر حنظلة ومعناه المرارة حسب العلي لأول مرة،في جريدة السياسة الكويتية عام1969،ضمن ارتدادات هزيمة المنظومة العربية جملة وتفصيلا،مثلما تجلى الوضع حقا خلال نكسة 1967 ثم صار سنة 1973 عنوانا لاغنى عنه يميز جلّ تعبيرات ناجي العلي. طفل في العاشرة من عمره حافي القدمين،نفس الطفل الذي اختبر تجاربه ناجي العلي حينما غادر فلسطين:”اسمي حنظلة،ولدت في 5 حزيران 1967،اسم أبي مِشْ مهم.أمي اسمها النكبة،وأختي اسمها فاطمة.نمرة رجلي ما بعرف لأني دايما حافي،أنا مِشْ فلسطيني ولا أردني،مش كويتي ولا لبناني ولا مصري أنا عربي”.
إذن،جاء هذا الطفل بغية التبشير بوجهة ثانية غير الوجهة التي قادت إلى واقع الهزيمة والانهيار،مستشرفا أفقا مغايرا يقتضي تأملا عميقا وولادة مختلفة تعيد تشكيل جدليات أخرى بين الحياة والموت،وفق سيميائية ذات رمزية فيما يخص وضعية الجسد، يوضِّح بأنَّ تلك الهزيمة مجرد نتيجة حتمية ضئيلة،تشي كثيرا بتوطُّد مقدمات كبرى،تظل في غضونها دوامة الهزائم متواصلة بديمومتها،بالتالي لايمكن الانتهاء من سياقات الهزيمة سوى بالتخلص أولا من تلك المقدمات.
الأرجح،حنظلة غير متفائل وإلا ربما اتخذت وضعيته الجسدية شكلا آخر اقرب إلى الانفراج والانفتاح وبسط يديه نحو الآخر،كاشفا أمام الجميع ملامح وجه وهي زاخرة بإيماءات الاستبشار.
لمَّا سئل الأب ناجي العلي بخصوص موعد رؤية طفله حنظلة أجاب بمايلي :”عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدَّدة،ويستعيد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.
ينمُّ تموضع حنظلة،عن لامبالاة يقظة وامتعاض صامت حيال ماجرى ويجري.لايتكلم قط، لم نسمع صوته بتاتا،امتنع ناجي العلي عن إظهار حنظلة متكلِّما.يحتجُّ بالصمت والعراء،متحوِّلا بوجهه عن مخاطبتنا.الصمت احتجاج الحكماء،إيحاءات لامتناهية، بلاغة البلاغات.إنه واجم تشغله هواجس ثقيلة.
حنظلة غاضب،مكتفيا باقتفاء أثر سبيله،ألقى بكل شيء خلف ظهره،لايرغب بتاتا في أثقال متون الهزيمة،يرنو كليا غاية وجهته الموصولة خَطِّيا بآفاق الأفق،لأنه المستقبل المنطوي على مختلف الإمكانيات التي بوسعها القطع مع واقع الهزيمة وبناء منظومة زمن جديد.
صحيح،أنَّ ناجي العلي قد أبدع أيضا ثلاث شخصيات أخرى،وهي فاطمة تلك المرأة التي لاتهادن على مستوى تصورها للقضية الفلسطينية،والسمين صاحب بطن ومؤخرة كبيرتين إشارة إلى الأوليغارشيات العربية العاجزة،ثم الجندي الإسرائيلي صاحب الأنف الطويل، المرتبك حين مواجهة أطفال الحجارة،لكن في نهاية المطاف ساد حنظلة تفاصيل المشهد، واستمر ظِلاًّ وفيَّا ليوميات تمرده واحتجاجه.